الدين السياسي الأميركي.. والانتخابات الرئاسية المقبلة

إميل أمين

TT

على أعتاب الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية لعام 2012، يعود الجدل من جديد حول تأثير تجاذبات التيارات الدينية في التأثير على الرأي العام وتوجيه الناخب الأميركي، وقد لعبت تلك التيارات دورا بارزا ومؤثرا في انتخابات عامي 2000 و2004.

غير أن سهام الإسلاموفوبيا المتطايرة وحالة تصاعد المد اليميني الديني الداخلي والرافض في جزء كبير منه للإسلام والمسلمين، إضافة إلى أن أوباما نفسه طالته شكوك كثيرة تمس عقيدته الدينية، كلها ترجح أن يكون للدين دور فاعل ومؤثر بأكثر قدر في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

والشاهد أنه إذا كان الكاتب والأديب والمفكر الفرنسي الكبير «أليكس دو توكفيل»، هو أفضل من تحدث عن الديمقراطية في أميركا بعيون الأوروبي المحايد، فإن «جيكوموللر فاهرنهولتز» قد قام بنفس الدور، ولكن على صعيد تحليل وتشريح المشهد الديني داخل أميركا، عبر كتابه المثير «معركة أميركا من أجل الله».. من جيكوموللر؟ وما قصته مع الدين السياسي الأميركي؟

يمكن الإشارة، وباختصار غير مخل، للرجل بوصفه واحدا من أبرز الباحثين الألمان اللاهوتيين والكتاب المستقلين، وقد عمل مستشارا لحركة وحدة الكنائس العالمية، كما عمل في مجلس الكنائس العالمي، بجانب عمله أستاذا زائرا في عدد من كليات اللاهوت المرموقة حول العالم.

ولعل ما يميزه بحق هو امتلاكه منظور مراقب خارجي يرى الولايات المتحدة بعين غير عنصرية أو معادية، وفي نفس الوقت بحيادية تامة، وهذا ما جعله قادرا على تقديم صورة تمثل رأي شعوب العالم في أميركا، وكيف يمكن للعامل الديني الراهن في السياسة الأميركية أن يبدو كغلالة تخفي وراء قشرة من التقوى، جوهر المشاعر الأنانية الوطنية. وفي مؤلفه هذا يقدم توليفة فريدة جامعة لوجهات النظر التاريخية واللاهوتية والسياسية والثقافية - النفسية، ويعرض رأيا دقيقا ومتفكرا ومتبصرا للحالة الأميركية المعقدة.

والثابت أن «جيكوموللر» يلفت، بادئ الأمر، إلى حقيقة راسخة في النفس الأميركية منذ سنوات التأسيس الأولى، وهي أن أميركا دولة دينية الهوى وإن كانت علمانية الهوية، ووصل الأمر بها في عقود التجديد الروحي الأخيرة، خاصة منذ رئاسة رونالد ريغان حتى جورج بوش الابن إلى اختلاط، وأحيانا امتزاج السياسي بالديني بشكل يصعب معه فك الخيوط أو تخليص الخطوط، وباتت عملية إجراء تمييز لاهوتي حاسم وواع بين الولاء للولايات المتحدة والولاء لله تعالى شبه مستحيلة، وليس أدل على ذلك من الأعلام الأميركية المرفوعة في الكثير من الكنائس الأميركية بطول البلاد وعرضها. والتي يعتبرها «دونالد شريفر» الرئيس الفخري لكلية اللاهوت في نيويورك، إحدى المآسي المعاصرة للحياة الدينية في أميركا.

في مقدمته للكتاب يشير «شريفر» إلى أن الآباء المؤسسين لأميركا هم واضعو بذور «الدين السياسي أو المدني» في حقيقة الأمر، وليست الأجيال الأميركية الجديدة هي المسؤولة عن ذلك، وقد عمدوا مبكرا جدا إلى اعتبار أن كثيرا من أسفار العهدين القديم والجديد المكونين للكتاب المقدس، ينطبق حرفيا على أميركا كأفراد، لا أميركا ككيان سياسي.

فعلى سبيل المثال دعا توماس جيفرسون أميركا «أمة بريئة في عالم شرير». وقال جون آدامز «إن بلادنا سوف تحكم العالم وتعرفه كمال الإنسان». وقد أدت مثل هذه الآراء إلى «الاستثنائية الأميركية» التي واجهها توكفيل، أي الاعتقاد الطائش بأن الأميركيين قوم اختارهم الله أداة لإنقاذ العالم.

ومما لا شك فيه أن القراءة الصادقة والأمينة للكتاب المقدس والدراسة الجادة والدؤوبة للاهوتيين العظام، كافيتان لتجنيب مسيحيي هذه الأمة الانخداع بمثل هذا الوهم.

ففي الواقع الحقيقي، لن يقبل معظم باقي البشر حق الأميركيين في تعريف العدالة، والديمقراطية، والاعتقاد الصائب، والتقوى والصلاح، لشعوب الأرض كلها. ولن يقبل الحكماء منهم، زعم أي أمة، حتى أميركا، بأنها فاضلة وصالحة وخيرة في كل تأثير تمارسه على الآخرين.

وحكما يبقى السؤال كيف وجدت الأصولية الدينية طريقها الحديث إلى قلب عملية صناعة القرار السياسي الأميركي وباتت عاملا حاسما في أحيان كثيرة لجهة اختيار رئيس أو إسقاط آخر؟

بحسب «جيكوموللر» فقد نحت تعبير «الأصولية» عام 1920 في الولايات المتحدة على يد القس المعمداني والصحافي «كورتيس لي لوز» الذي تعهد بأن المؤمنين «سيخوضون معركة حامية الوطيس من أجل الأصول». وخلال العقد السابق ظهرت سلسلة مؤثرة من المقالات لمائة كاتب من مختلف المشارب والتوجهات الدينية ركزت على العناصر المفتاحية في الدين المسيحي بعنوان «الأصول شهادة على الحقيقة».

وقد مثل هؤلاء الكتاب حركة قوية بين البروتستانت والمحافظين والإنجيليين، رفضت انتشار التفسيرات التاريخية - النقدية للكتاب المقدس. وعدت طرائق التفسير الجديدة خيانة للحقيقة المطلقة للإنجيل.

أما تعبير «أصولية» فقد وعد بتوفير أرضية آمنة للمؤمنين بالكتاب المقدس والمتشبثين بإيمانهم وبقوة مبادئهم الأخلاقية، والملتزمين الوقوف بصلابة في وجه نزعات الانحطاط والانحلال في العصر الحديث.

والمتابع للشأن الأميركي ومن عاش في ذلك البلد الإمبراطوري يدرك جيدا أن قلة نادرة من الخطابات السياسة، بل تكاد تنعدم تلك التي لا تنتهي بالعبارة التقليدية «ليبارك الله أميركا»، والألفة والسهولة اللتان يستحضر بها «الله» في الحياة العامة للولايات المتحدة، ربما يفسران ابتداء للمراقب الخارجي أن كل فرد من الأمة يوافق بكل ثقة على طبيعة هذا الإله..

غير أنهما تحديدا تنشئان عند اللاهوتي الألماني «جيكوموللر» المشكلة.. كيف ذلك؟

يرى الرجل أن الله يمثل للأميركيين عدة وجوه وجوانب، بعض الملامح تذكره بـ«مارس» إله الحرب في روما القديمة. ويشير إلى ما ذكره «والترونيك» في كتابه «إشراك القوي» من أن «أسطورة العنف الإنقاذي، تدعم بركائزها الثقافة الشعبية الأميركية، والدين المدني والمشاعر الوطنية والسياسة الخارجية، وأنها تتربص كأفعى في جذر نظام الهيمنة الذي ميز الوجود البشري، منذ ما قبل حكم بابل القديم.. هل تكفي الإشارة هنا للشخصيات الأسطورية للديانة القديمة؟».

بالقطع لا، فحين يتحدث الرئيسان كلينتون وبوش عن الله، فهما يشيران إلى إله الكتاب المقدس. لكن ذلك لا يجعل مسألة طبيعية الله في نظر الأميركيين أكثر سهولة في التمييز للمراقب الخارجي فـ«الله» الذي شن جورج بوش باسم سلطته وإرادته الحرب على العراق لا يبدو أنه «الله» ذاته الذي يعارض باسمه الكثير من المسيحيين هذه المغامرة.

وللموضوعية، نذكر بأن أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة الأميركية، وعن بكرة أبيهم، الذين يوجهون روحيا، قرابة ربع الشعب الأميركي، كانوا ولا يزالون في مقدمة الرافضين لفكرة «إله الحرب هذا».

وعطفا على ذلك، فإن الكنيسة المنهجية «الميثودية» المتحدة، التي ينتمي إليها الرئيس السابق بوش ونائبه ديك تشيني قد عارضت، بدورها وصراحة، الحرب.

وفي يناير (كانون الثاني) من عام 2006 وقع تسعة وتسعون أسقفا وخمسة آلاف عضو بيانا يأسف «للغزو الظالم واللاأخلاقي للعراق».

هل يعني ذلك أن هناك حالة من النقد تصل إلى حد النقمة على استغلال ما هو ديني مطلق روحاني لصالح ذاك الذي هو سياسي نسبي وتسخيره لمصالح أحادية الطرف والقيمة؟

يمكننا أن نؤكد ذلك بالرجوع إلى مقالة «أرض الله مقدسة: رسالة مفتوحة إلى المسيحيين في الولايات المتحدة»، التي كتبتها، في الشهور المبكرة من عام 2005، جماعة من اللاهوتيين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت خلال اجتماع عقده مجلس الكنائس العالمي في الولايات المتحدة، وتركز المقالة بؤرة اهتمامها على الضرر البيئي الناجم عن الأساليب الحياتية المسرفة في الولايات المتحدة، وتناولت بوضوح «فكرة الإنجيل المزور الذي هو أحاديث السياسيين الأميركيين المنحولة دينيا، والذي برر استخدام الأرض وثرواتها وإشعال الحروب وإطلاقها»، إذ تقول واصفة حال الأميركيين «لقد أصبحنا مدمرين، الأرض في خطر من صنع أيدينا، وهذا يعني أن أزمتنا لاهوتية أيضا. لقد استمعنا إلى إنجيل مزور يدعونا إلى متابعة عاداتنا الحياتية دون تغيير.. ولا يزال هذا الإنجيل المزور يجد مبشرين متباهين ويقتنص أتباعه من بين الزعماء السياسيين وصناع السياسة المتصفين بالجرأة التي تبلغ حد الوقاحة».

ومما لا شك فيه أن صفحات كتاب «جيكوموللر» اللاهوتي الألماني تدعونا لوقفة تأمل بين مشهدين، الأول هو ما جرى في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وفي رأي الكاتب أنه كان باستطاعة بوش اتخاذ مقاربة مختلفة كليا، فقد كان من الممكن أن يعتبر تلك اللحظة، لحظة تحد وتحول، وأنه كمسيحي ملتزم، عليه أن يقود أمته بطريقة تعبر عن قابلية الدين للمصالحة والتسوية وإعادة بناء السياسة العالمية، ولكنها من أسف لحظة ضائعة، بل أكثر من ذلك، كانت لحظة جرت وبالا رهيبا على العالم بعامة وعلى أميركا خاصة.

والمشهد الثاني يتعلق بالرئيس أوباما الذي أمتع السامعين في جامعة القاهرة، ومن قبل في تركيا، عن علاقة جديدة لأميركا بالعالم الخارجي، والإسلامي منه في القلب، غير أن سنوات إدارته الأولى والجلسات الدائرة الآن في مجلس الشيوخ حول الإرهاب الإسلامي الداخلي «تؤكد على أن ما قيل في العاصمة المصرية كان ضجيجا دون طحين».

وعليه يبقى السؤال: ماذا عن الدين المدني أو السياسي في أميركا 2012؟ وإلى أين يمضي؟

المؤكد أن إرهاصات المعركة الرئاسية المقبلة قد بدأت مبكرا، والأكثر إثارة فيها أن نجد مرشحا هو رجل دين يحتل مكانة متقدمة في السباق الرئاسي المتوقع، ونعني به القس المعمداني «مايك هاكابي» حاكم ولاية آركنسو من 1993 - 2007.

وحتى وقت قريب لم يكن هاكابي شخصية سياسية شهيرة، لكنه ظهر على الساحة بوصفه «المسيحي المحافظ» الذي يعارض بشدة الإجهاض وزواج الشذوذ، وأظهر قدرة كبيرة على كسب ود الناخبين، بفضل بساطته التي يفتقد إليها كثير من منافسيه، وتلخص كلمات «العائلة، الإيمان، الحرية.. روح وفكر هاكابي».

وشخصية هاكابي تجمع بين أصالة الفكر الديني وعصرانية الميكانيزم الواجب اتباعها للوصول إلى الجمهور، وقد وصف وليام كريستول، أحد أهم قادة تيار المحافظين الجدد، هاكابي بأنه قاد في عام 2008 أفضل حملة انتخابات جمهورية حتى الآن، مشيدا بقدراته السياسية، غير أن أزمة هاكابي السياسية هي أجندته الاقتصادية التي تمثل تهديدا للتحالف القائم بين البروتستانت التبشيريين والحزب الجمهوري منذ سبعينات القرن العشرين، وهو تحالف قائم على دعم قادة البروتستانت التبشيريين للرأسمالية ولأجندة الجمهوريين التي تميل للأثرياء بدعهما لخفض الضرائب وفي الاقتصاد الحر والرأسمالية التي ترفض أجندة اليسار الأميركية المنادية بحقوق العمال والفقراء.

هل سنرى في 2012 رجل دين يحكم أميركا؟

حتما، وكما يقر «جيكوموللر» في نهاية كتابه: سيدفع الأمر الأميركيين دفعا ومن جديد للاعتقاد في قوتهم الخارقة المطلقة، وكلية القدرة، وأن عليهم أن لا يخشوا شيئا ما دام على رأس دولتهم من يمثل روح الألوهية الحاكمة لإمبراطورية تشكل «مدينة فوق جبل»، بحسب التعبير الكتابي وتلك كارثة أخرى.

* كاتب مصري