«سياحتنامه» أوليا جلبي يرصد صورة العالم الإسلامي في 10 مجلدات ضخمة

يعتبر بعد ابن بطوطة من أشهر الرحالة المسلمين في العالم

غلاف القسم الخاص بمصر من «سياحتنامه» (»الشرق الأوسط»)
TT

يحتفل العالم الإسلامي بالذكرى الـ 400 لولادة الرحالة العثماني المعروف أوليا جلبي الذي يعتبر بعد ابن بطوطة من أشهر الرحالة المسلمين في العالم، حيث أنه قضى معظم سنوات حياته السبعين في السفر والترحال في أرجاء الدولة العثمانية والدول المجاورة لها، وقد ترك لنا ثروة كبيرة من المعلومات في كتابه «سياحتنامه» الذي أكمله في عشرة مجلدات ضخمة. ويكفي كنموذج أن نطلع على القسم الخاص بمصر من المجلد العاشر الذي صدر أخيرا في القاهرة (2009) في 650 صفحة من القطع الكبير، حيث إن هذا المجلد يضم السودان والحبشة أيضا.

وبسبب الثروة الكبيرة من المعلومات التاريخية والجغرافية والعمرانية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، التي كان يستقيها من المصادر المحلية والوثائق العثمانية، فقد أثار كتاب أوليا جلبي اهتمام الأوروبيين منذ عدة قرون وترجم إلى لغات كثيرة، وخاصة إلى لغات الدول التي انبثقت عن الدول العثمانية (اليونانية والبلغارية والألبانية والصربية والكرواتية إلخ) لما تمثله من قيمة بالنسبة إلى الفترة التي عاشها أوليا جلبي (القرن الحادي عشر الهجري / السابع عشر الميلادي) وكتب فيها عن تلك المناطق والشعوب.

وكان أوليا جلبي قد ولد في اسطنبول 10 محرم 1020 هـ / 25 مارس (آذار) 1611 لأب كان يعمل رئيس الصاغة في البلاط العثماني، والتحق مبكرا بمدرسة شيخ الإسلام حامد أفندي باسطنبول حيث برزت مواهبه في تلاوة القرآن الكريم والعلوم الدينية. وقد سنحت له لاحقا فرصة الالتحاق بمدرسة البلاط العثماني، حيث تعلم هناك اللغة العربية والأدب والموسيقى الخ، وأصبح معروفا لدى السلطان مراد الرابع الذي ضمه إلى الخدمة قبل انطلاقه في حملته على بغداد في 1084 هـ / 1638م.

ولكن روح أوليا جلبي التواقة للسفر والاكتشاف والاطلاع على البلدان والشعوب وثروة الأسرة، التي كان لها أملاك في كوتاهيه وبورصة ومغنيسة واسطنبول، لم تشجعه على الارتباط بالوظيفة بل إنها جعلته يقضي نحو خمسين سنة من حياته في جولات كثيرة عبر القارات. وبالإضافة إلى ذلك نجد لدى جلبي، كما لدى بعض الرحالة المسلمين، الدافع الديني المرتبط برؤية معينة. فقد ذكر جلبي أنه قد رأى الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، في منامه فطلب منه الشفاعة والسياحة، فرد الرسول قائلا «اللهم يسر له الشفاعة والسياحة والحج بالصحة والعافية».

وقد بدأ جلبي جولاته في اسطنبول والمناطق المجاورة حين بلغ التاسعة عشرة، ثم أخذ يتوسع في الأناضول والبلقان والقوقاز والبلاد العربية وغيرها إلى أن توفي في 1094 هـ/ 1682م. ويلاحظ هنا أن جلبي قضى السنوات الأخيرة من حياته في مصر (1672-1680م)، حيث إنه استفاد منها في قراءة المصادر العربية عن تاريخ مصر (المقريزي والسيوطي وابن عبد الحكم الخ) والاستفادة من الوثائق العثمانية وزيارة المنشآت العمرانية المختلفة، وهو ما يفسر قيمة هذا القسم بمصر من كتابه الضخم. وقد عاد بعدها إلى اسطنبول لتحرير كتابه الذي جاء في عشرة مجلدات حيث توفي في 1094هـ/ 1682م قبل أن ينجزه بصورته النهائية، إذ يلاحظ فيه بعض الثغرات التي كان يمكن أن يكملها.

وهكذا فقد جاء المجلد الأول ليشمل اسطنبول وضواحيها، بينما اشتمل المجلد الثاني على بعض الأناضول وأذربيجان وجورجيا وأبخازيا الخ، والمجلد الثالث على بعض بلاد الشام وكردستان وأرمينيا الخ، والمجلد الرابع على وان وتبريز وبغداد والبصرة الخ، والمجلد الخامس على أدرنة وبلغاريا ومولدافيا وترانسلفانيا والبوسنة الخ، والمجلد السادس على ألبانيا وكوسوفا وصربيا والجبل الأسود وكرواتيا الخ، والمجلد السابع على المجر والقرم وروسيا الجنوبية والقوقاز الخ، والمجلد الثامن على كريت ومقدونيا واليونان الخ، والمجلد التاسع على جنوب الأناضول وبلاد الشام والحجاز الخ، بينما اشتمل المجلد العاشر والأخير على مصر والسودان والحبشة.

ويلاحظ هنا أن أوليا جلبي كان يمثل المدرسة التي تخلط التاريخ والوصف بالغرائب لتثير اهتمام القراء، ولذلك فقد انتبه الباحثون الأوروبيون خلال القرنين 18-19 أولا ثم الأتراك في القرن 20 لذلك وأصدروا طبعات محققة ومترجمة من «سياحتنامه» جعلتها أكثر فائدة مما كانت عليه.

وعلى الرغم من الثروة المعرفية التي تتضمنها المجلدات العشرة لـ «سياحتنامه»، التي ترجمت إلى لغات أوروبية كثيرة كما قلنا، فإن أوليا جلبي لم يحظ بالاهتمام في المنطقة العربية على الرغم من المعلومات القيمة التي يوردها عن العراق وبلاد الشام والحجاز ومصر والسودان الخ. وحتى إن القسم الخاص بمصر، الذي يتمتع بقيمة خاصة، كان قد ترجمه عن الأصل محمد علي عوني في 1952 وراجعه الدكتور عبد الوهاب عزام والدكتور أحمد السعيد سليمان لم يصدر إلا في 2009، وكان الباحث السوري المعروف أحمد وصفي زكريا قد اهتم في وقت مبكر بـ «سياحتنامه» فترجمها بتصرف وزاد عليها فيما نشره في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق خلال 1351هـ وجعل ذلك أساسا لكتابه «جولة أثرية في بعض البلاد الشامية» الذي صدر في دمشق خلال عام 1934.

ومن هنا فقد جاءت الآن الذكرى الـ 400 لولادة أوليا جلبي لتمثل مناسبة للتعرف أكثر على أوليا جلبي في المنطقة العربية، وذلك من خلال الندوة الدولية التي ستعقد عنه والمعارض المتخصصة عنه.

وستعقد هذه الندوة في نهاية عام 2011 في جامعة آل البيت الأردنية تحت عنوان «صورة العالم الإسلامي في (سياحتنامه) أوليا جلبي» وبتنظيم من مركز العالم لدراسات العالم الإسلامي بالجامعة ومركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باسطنبول (ارسيكا). وستكون هذه الندوة فرصة للباحثين والمعنيين بأوليا جلبي في الدول المنبثقة من الدول العثمانية في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وذلك لما تشمله من المحاور الكثيرة التي تساعد على التعرف على إسهام أوليا جلبي من جوانب مختلفة. وهكذا نجد من محاور الندوة: «سياحتنامه» كنموذج للمثاقفة بين المسلمين وغير المسلمين، مكانة «سياحتنامه» بين كتب الرحلات في الدولة العثمانية، الأسطورة والتاريخ في «سياحتنامه»، صورة العالم الإسلامي في «سياحتنامه»، صورة الآخر في «سياحتنامه»، السياق الثقافي في العالم الإسلامي كما يبدو في «سياحتنامه»، السياق الاجتماعي في العالم الإسلامي كما يبدو في «سياحتنامه» الخ.

ومن المأمول في نهاية هذه الندوة إطلاق مشروع إصدار مختارات من «سياحتنامه» في اللغة العربية، التي تتعلق بالبلاد العربية والتي ستقدم للباحثين في تاريخ البلاد العربية خلال الحكم العثماني مصدرا مفيدا عن التاريخ الإداري والاقتصادي والاجتماعي والعمراني.