العلاقات السعودية ـ البوسنية وآفاق تطورها.. من رحلات الحج إلى مشاريع التنمية

عيد الثقفي: المملكة الدولة الوحيدة التي أنشأت هيئة إغاثية خاصة في البوسنة

عيد بن محمد الثقفي السفير السعودي لدى البوسنة أثناء المحاضرة («الشرق الأوسط»)
TT

غصت قاعة المحاضرات بكلية الحقوق في سراييفو، بكوادر الكلية، وأساتذة الجامعات في البوسنة، والطلبة وكاميرات التصوير والإعلاميين، وذلك للاستماع لمحاضرة عيد بن محمد الثقفي، السفير السعودي، حول «العلاقات السعودية وآفاق تطورها». وقد نالت الكلمة الإعجاب والتقدير من قبل الحاضرين، لما اشتملت عليه من مسح تاريخي وثقافي وسياسي واقتصادي، ومعالم لآفاق المستقبل. كما عدت تطورا نوعيا، تجاوز الحديث الإعلامي إلى المنابر الأكاديمية وما تمتاز به من توثيق وأرشفة مرجعية.

وقال الثقفي إن العلاقات بين الشعبين السعودي والبوسني بدأت منذ فترة دخول الإسلام إلى البوسنة، حيث كانت قوافل الحجاج تتوافد على البقاع المقدسة، ولا تزال تترى «حيث بدأت في تلك الفترة الصلات بين البلدين عن طريق رحلات الحج والدراسة العلمية التي كان يقوم بها المسلمون البوسنيون إلى الأراضي المقدسة». وتابع «بدأ التعاون بين المسؤولين عن الحج في البلدين لتنظيم رحلات الحج للبوسنيين، كما التحق الكثير من الطلبة البوسنيين بالجامعات الإسلامية في المملكة، كما قدمت المملكة الدعم لبعض المؤسسات التعليمية الإسلامية البوسنية قبل وبعد استقلال البوسنة والهرسك».

وقسم السفير الثقفي أوجه التعاون بين المملكة العربية السعودية والبوسنة إلى عدة مراحل، حسب التطورات التي شهدتها البوسنة في تاريخها المعاصر، ومنها «مرحلة الاستقلال والاعتراف باستقلالها والدعم الدبلوماسي والإنساني الذي قدمته المملكة إلى البوسنة والهرسك بمجرد إعلان استقلالها بعد الاستفتاء الشعبي على ذلك، وكانت المملكة من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال البوسنة والهرسك، وأيدت حقها في الدفاع عن استقلالها وسيادة أراضيها، حيث اعترفت بها في 17 أبريل (نيسان) 1992، وبعد ذلك تم فتح سفارة البوسنة والهرسك، في الرياض، وتقديم أوراق اعتماد سفير البوسنة والهرسك لدى المملكة العربية السعودية، في 18 مارس (آذار) 1998». وتابع «أعقب الاعتراف الدعم عبر المحافل والمنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة، وحركة عدم الانحياز، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والمؤتمرات والمبادرات الدولية ذات الصلة، حيث حرصت المملكة على حشد الدعم الدبلوماسي الكافي للبوسنة والهرسك، حتى قبل إعلان استقلال البوسنة والهرسك من خلال دورها القيادي في منظمة المؤتمر الإسلامي، ومنذ مؤتمر القمة السادس الذي عقد في داكار عام 1991، والذي أعلن عن تضامنه الكامل مع حكومة وشعب جمهورية البوسنة والهرسك، والمؤتمر الوزاري لوزراء خارجية الدول الإسلامية الذي عقد في اسطنبول في يونيو (حزيران) 1992، والذي رحب بانضمام جمهورية البوسنة والهرسك إلى عضوية الأمم المتحدة، وأوصى بتشكيل فريق اتصال لمتابعة الوضع المأساوي في البوسنة والهرسك، واحترام سيادتها».

وأردف «كما تبعت ذلك مواقف رسمية في الاتجاه ذاته من قادة المملكة في قمم ومؤتمرات، مثل مؤتمر قمة دول عدم الانحياز المنعقد في جاكرتا في سبتمبر (أيلول) 1992، والمؤتمر الاستثنائي السادس لوزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في جدة في ديسمبر (كانون الأول) 1992، إضافة إلى مواقف المملكة الرسمية الداعمة للبوسنة والهرسك، في مجلس الأمن، والاجتماعات ذات الصلة بنيويورك، والاجتماعات ذات الصلة بجنيف، والدار البيضاء والرباط وغيرها». وأضاف «كل ذلك كان يصب في إطار توفير الدعم الدبلوماسي الكامل للبوسنة والهرسك، ناهيك عن حضور قضية البوسنة والهرسك في لقاءات كبار المسؤولين في المملكة بالمسؤولين الدوليين، وفي الاجتماعات الدورية لمجلس الوزراء، أعلى سلطة تنفيذية في المملكة، والذي تمثل في الالتزام السعودي الصارم بهذا الدعم إلى أقصى الحدود الممكنة». وأشار السفير الثقفي إلى المؤتمر الذي نظمته المجموعة الأوروبية حول البوسنة في وقت سابق «عندما نظمت المجموعة الأوروبية أول مؤتمر للسلام بين فرقاء النزاع في البوسنة في لندن في الفترة من 26 وحتى 28 سبتمبر 1992 كانت المملكة العربية السعودية هي الدولة غير الأوروبية الوحيدة التي دعيت إلى المؤتمر وحضرته وشاركت في مداخلاته ومناقشاته ومفاوضاته»، كما «كانت أول من منح التأييد لخطة السلام التي أقرها وأعلنها، وعملت على إنجاحها». لكن السفير الثقفي قال إن ذلك «لم يتم بسبب التطورات العسكرية الدراماتيكية التي أعقبت الخطة». وأكد الثقفي على أن «المشاركة (السعودية في المؤتمر) كانت تقديرا للدور السعودي الإيجابي في البوسنة والهرسك، ولم يتوقف هذا الدور على امتداد المراحل التي مرت بها القضية». كما نوه بدور القيادة السعودية في هذا الخصوص «لقد أعطى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله، وكل المسؤولين السعوديين، لهذه القضية حجما كبيرا من الرعاية والاهتمام، ووفر في سبيل اكتساب مواقف لتأييد البوسنة صداقاته مع رؤساء الدول الكبرى، وكان لهذا الجهد الذي بذله خادم الحرمين الشريفين، رحمه الله، أثره الكبير في تعديل المواقف الفرنسية والبريطانية فضلا عن الأميركية تجاه هذه القضية وتحولها من عدم الاهتمام إلى عناية ومواقف أكثر استجابة وتعاطفا». وضرب السفير الثقفي الكثير من الأمثلة، منها «تدخل الملك الراحل فهد بن عبد العزيز لدى الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في يونيو 1992 ورئيس وزراء بريطانيا الأسبق جون ميجور، والسكرتير العام للأمم المتحدة الأسبق بطرس غالي، لتحريك وتفعيل المجتمع الدولي، وكانت المملكة من أوائل الدول التي طبقت قرار مجلس الأمن الدولي ذو الصلة بالقضية».

وتحدث السفير الثقفي بإسهاب عن الجهود الدبلوماسية السعودية، مبرزا المواقف المشرفة لوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، في الكثير من المناسبات والاجتماعات والمؤتمرات، من بينها اجتماع وزراء خارجية الدول العربية سنة 1993 «استغرب الأمير سعود الفيصل مواقف بعض الدول التي ما زالت تهادن الإجرام في حق البوسنة، والذي يعد إجراما بحق البشرية جمعاء»، كما تحدث عن نشاطات مجلس الوزراء السعودي حيال قضية البوسنة على مدى سنوات العدوان، و«تأكيد خادم الحرمين الشريفين على حق البوسنة في الدفاع عن نفسها»، و«تعزز موقف المملكة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث جددت المملكة مطالبتها برفع حظر الأسلحة عن البوسنة والهرسك، وذلك في الكلمة التي ألقاها مندوب المملكة الدائم لدى الأمم المتحدة حول البند 39 الخاص بالوضع في البوسنة والهرسك».

وتطرق السفير الثقفي لشهادات المسؤولين البوسنيين، حول المساعدات التي قدمتها المملكة، ومن ذلك «قام الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش بتقليد الأمير سلمان بن عبد العزيز وسام البوسنة الذهبي عام 1997». كما أعلن السفير البوسني السابق في المملكة سناهيد بريستيتش، أن «خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز كان وراء توقيع اتفاقية دايتون للسلام، ولن ينسى البوسنيون حكومة وشعبا مواقف المملكة المشرفة». ولم يفت المسؤولين البوسنيين الحديث عن المساعدات السعودية ومنها «تسديد المملكة لديون الغاز الروسي آنذاك». وتابعت المملكة العربية اهتمامها بالبوسنة بعد توقيع اتفاقية دايتون للسلام، و«يكفي للتدليل على الاهتمام السعودي بالقضية البوسنية أنها كانت تحتل الصدارة في الكلمة السنوية التي كان يوجهها الملك فهد والأمير عبد الله (ولي العهد آنذاك) لضيوف الحج في الفترة ما بين 1992 و1995».

وذكر السفير الثقفي أن المملكة العربية السعودية «هي الدولة الوحيدة التي أنشأت هيئة إغاثية خاصة بالبوسنة أثناء المحنة، ترأسها الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض»، كما نقل صورا عن التفاعل الشعبي السعودي مع حملات التبرع لصالح البوسنة «أدى التفاعل الشعبي مع قضية البوسنة إلى ريادة المملكة للعمل الإغاثي والإنساني في البوسنة والهرسك، والذي شمل توفير المواد الغذائية والملابس والبطانيات، ووصل حجم تلك المواد إلى 110 آلاف طن»، علاوة على «الأجهزة الطبية والأدوية وتوفير رواتب الأطباء والكوادر الطبية العاملة خلال الحرب، ونقل الجرحى والمرضى للعلاج في المملكة العربية السعودية، أو في غيرها، وتوفير المحروقات اللازمة للتدفئة في فصول الشتاء ورعاية الأيتام، حيث كفلت المملكة ما يقارب 12 ألف يتيم بوسني، ورعاية وإيواء اللاجئين البوسنيين في الخارج بإقامة معسكرات الإيواء، ومن ثم نقل هؤلاء اللاجئين إلى بلادهم حيث تم نقل 12706 لاجئين بوسنيين». وتطرق للمساعدات الاجتماعية الأخرى كدفع إيجارات السكن ورسوم الكهرباء وتوفير الملابس والبطانيات و«استفاد من تلك المساعدات 253760 أسرة بوسنية»، فضلا عن «ترميم وبناء مئات المساجد وعدد من المراكز التعليمية كأكاديمية الأمير سلمان في بيهاتش».

وقدم السفير الثقفي كشفا كاملا عن الزيارات المتبادلة بين المسؤولين السعوديين والبوسنيين، منها زيارة الأمير سلمان للبوسنة مرتين في 1997 و2000، لافتتاح مشاريع تنموية، وزيارات الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش للمملكة العربية السعودية، وغيرها من الزيارات ذات الطابع السياسي والاقتصادي. وذكر في هذا الخصوص بعض القروض المقدمة من الصندوق السعودي للتنمية في السنوات الثلاث الأخيرة 2009 و2010 و2011، ومنها قرض بقيمة 25 مليون دولار لاستكمال تجهيز 4 مستشفيات، و25 مليون دولار لصالح مشروع الطريق الدائري حول مدينة زينتسا، ومشروع إعادة إعمار كلية الفلسفة وثانوية إدارة الأعمال و12 مدرسة ثانوية وابتدائية بقيمة 20.10 مليون ريال. وإكمال تأهيل المركز الطبي في سراييفو بـ27 مليون ريال، وإصلاح أنظمة تزويد المياه بـ24.50 مليون ريال وبرامج دعم المؤسسات الصغيرة بـ18.75 مليون ريال، ودعم قطاع الثروة الحيوانية بـ3.75 مليون ريال، وإعادة تأهيل مصنع «أولمب» للملابس الجاهزة بـ1.50 مليون ريال، ومصنع «بوسنة لييك» للأدوية بـ7.50 مليون ريال، وإصلاح وتأهيل عدد من المساكن في بريتشكو وسانسكي موست بـ3.85 مليون ريال، وإصلاح مبنى السكك الحديدية في سراييفو بـ5.55 مليون ريال، أي بمجموع 112.50 مليون ريال.

وقد أعرب السفير الثقفي عن أمله في تطور العلاقات التجارية بين البوسنة والمملكة العربية في المستقبل بعد التغلب على عدد من العقبات الفنية.