الإسلام السياسي.. المعنى والوظائف والمصائر

رضوان السيد

TT

عندما قتل الأميركيون أسامة بن لادن، كثر الحديث عن مصائر «القاعدة»، ومصائر الإسلام السياسي. فكان هناك من ربط بين الأمرين، كما كان هناك من فرق بينهما في المبدأ والمصير. والواقع أنه لا يجوز الخلط بينهما على الإطلاق، أو يقع الباحث في لبس شديد غير محمود في ظروف الثورات العربية الجارية. وربما جاء الاشتباه بين مصطلحي الإسلام السياسي والإسلام الجهادي؛ من أن مصطلح الإسلام السياسي نفسه إنما انتشر بعد قتل جماعة الجهاد للرئيس أنور السادات عام 1981. بيد أن الإسلاميين الذين قتلوا الرئيس السادات، ما كانوا معنيين بالشأن السياسي، ولا يملكون نظرية سياسية. وإنما كان جوهر فكرهم إثبات جواز استعمال الجهاد بالداخل، إذا أمكن الوصول إلى أن الذي يراد مقاتلته مرتد أو خائن! ولذلك كان من الطبيعي تسمية هؤلاء فيما بعد، وبعدما انتظموا من خلال «القاعدة» الجهاديين، أو أتباع الإسلام الجهادي، لأنهم – وبحسب أفكارهم الفظيعة - إنما كان واجبهم إزالة الشر، وليس إحلال الخير والمباح محله! بيد أن هؤلاء – ورغم ازدهار آيديولوجياتهم في النصف الثاني من التسعينات - ما كان لهم هدف سياسي يتمثل في إقامة نظام إسلامي، وإنما تطور عملهم إلى «جهاد عالمي» لمصارعة رأس الكفر وتدميره. في حين أن الإخوان المسلمين (بمصر ثم بالبلاد العربية الأخرى)، والجماعة الإسلامية بباكستان، تطور عملهم في المجال العام، إلى نظرية سياسية عرفت بالحاكمية في مواجهة الجاهلية. وفي منتصف الستينات من القرن الماضي، كانوا قد توصلوا إلى القول بالنظام الإسلامي الكامل في ظل نظرية أو مقولة الحاكمية، فتميزوا بذلك عن جهاديي السبعينات بمصر، الذين سبق القول إنهم هم الذين قتلوا الرئيس السادات. وليس من المؤكد هل قام «الإخوان» بعمليات عنيفة بعد ثورة يوليو (تموز) أم لا. أما قبل الثورة (وحتى قبل أن تتطور لديهم النظريتان الاقتصادية والسياسية)، فقد قام «التنظيم الخاص» الذي أنشأته القيادة بعدة اغتيالات وأعمال عنف. وعلى أي حال، فنحن نعرف الآن أن «الإخوان» في السجون ناقشوا مسألة الحاكمية (التي تعني ما يشبه التكليف من الله بإقامة شرعه في الأرض)، وما تقبلها شيوخهم. وعندما خرجوا من السجون عامي 1971 و1972 كانوا قد قرروا نبذ العنف، والمشاركة في العملية السياسية والمدنية. وهذا يعني أنهم - بخلاف الجهاديين - يقولون بشرعية الوضع القائم، ويريدون العمل من خلال قوانينه على تطبيق الشريعة. إنما باستثناء ست أو سبع سنوات، ما بقوا على وفاق مع نظامي السادات ومبارك. ومنذ عشرين عاما تسلطت عليهم الأجهزة الأمنية، دون أن يتخلوا عن مبدأيهم في نبذ العنف، وفي المشاركة بالعملية السياسية ما أمكن.

إن العودة لتأمل الفروق والمصطلحات مهمة جدا الآن. فخلال ثلاثة عقود وأكثر برزت الثنائية وتفاقمت: فمن جهة رؤساء الجمهوريات الوراثية الخالدة، ومن جهة أخرى الإسلاميون الجهاديون وغير الجهاديين. ورغم تعقد اللغة والمصطلحات، فالمفهوم أن الإسلاميين الجهاديين وغيرهم كانوا يأخذون على هذه الجمهوريات: اغترابها المتزايد عن الإسلام، وفسادها وعجزها عن مواجهة «الهجمة الأميركية والصهيونية». وقد اختار الجهاديون، كما سبق القول، النضال المسلح، الذي صارت أفغانستان ساحته الرئيسية، بينما ظل الإسلاميون الآخرون في مصر وغيرها من البلاد العربية، وفي باكستان، يسعون سلما للمشاركة والتصحيح عن طريق المشاركة باتجاه تطبيق الشريعة. فالإسلام السياسي إذن يقول بالعمل السياسي السلمي، وإنما يتميز بأن هدفه البعيد إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة. لكن الأنظمة استخدمت هذين الإسلامين لتخليد بقائها في الحديث إلى الأجانب، وفي الحديث للفئات المرتاحة من شعبها. فقالت دائما إنها إن سقطت، فسوف يأتي للسلطة المتطرفون الإسلاميون، وتتعطل مصالح الغرب، وتحل الفوضى، وتكثر الحروب على إسرائيل. وما كان من مصلحتها التمييز بين إسلام سياسي وآخر جهادي، لأن «شعبويات» «الإخوان» (مثل: الإسلام هو الحل)، كانت تهدد الأنظمة عمليا، أكثر مما يهددها الجهاديون، الذين يعتمدون الأساليب العنيفة، ولا يقولون بالديمقراطية أو بالمسالمة، وبذلك فهم لا يملكون شعبية ولا يقدرون إلا على الاغتيالات، وهو تهديد ليس بالقليل على أي حال.

الإسلام السياسي، والإسلام الجهادي، إلى أين الآن بعد مقتل أسامة بن لادن، وحدوث الثورات العربية؟ قلنا إن سائر المناضلين في العالم العربي، سواء أكانوا جهاديين أم سياسيين أم لا علاقة لهم بالإسلام، إنما كانوا يعملون لتجاوز عجزين: عجز الأنظمة عن صون المصالح الوطنية والإسلامية، وعجزها أو عدم إرادتها مواجهة الصهاينة والغزاة الأميركيين. بيد أن الإسلاميين (وفي الهدفين) ما استطاعوا تحقيق شيء. وانفرد الجهاديون من بينهم بأنهم أساءوا للأمة ودولها، وللإسلام وسمعته، أكثر بكثير مما أنجزوا. فالحرب العالمية على الإرهاب، التي أثارتها جهاديات الإسلاميين، وضعت الإسلام والمسلمين في مواجهة مع العالم ما انتهت حتى اليوم، وقد تستمر لعقد بعد الآن. وقد غزا الأميركيون بهذه الحجة بلدين إسلاميين وخربوهما، وقتلوا نحو المليون إنسان، وهجروا أكثر من خمسة ملايين من مواطنهم ومساكنهم. ومن الواضح أن الأمة رأت بعد صبر أيوب على هذا «الخراب الجميل»، أن تتحرك بطرائق أخرى لوضع حد لحكم الاستبداد والفساد، ولعنف الجهاديين وعبثيتهم. ولذا فالمنتظر أن يضعف الجهاديون، كما ضعف خصومهم من الحكام وأوشكوا على الزوال.

لقد كان الإمامان مالك بن أنس والأوزاعي، بين أوائل من قال بمرجعية الجماعة وإجماعاتها في الفقه وإدارة الشأن العام. أما أبو حنيفة فتحدث عن «السواد الأعظم». والسواد الأعظم هو الذي خرج إلى الشارع، إن لم يكن باسم أهل السنة والجماعة؛ فبمعنى وبروح أهل السنة والجماعة، الذين لا يحقدون ولا ينبون (لأن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى)، ولا يمارسون العنف والتكفير، لأن هذه التصرفات جميعا هي تصرفات الأقليات ذات الوعي الاستنفاري والاستئصالي. وقد مرت مجتمعاتنا ومرت أمتنا طوال العقود الأربعة الماضية بظروف أتت بحكام السطوة الشاملة علينا من جهة، وإسلاميي الجهاد الناشط والعنيف من جهة ثانية. فاشتد علينا وعلى قضايانا الضغط والاستنزاف والاستئصال، ومن الحكومات، كما من معارضاتها الإسلامية. ولذا فمن المرجح أن الطرفين، كما أنتج أحدهما الآخر؛ فإنهما سوف يزولان معا.

وإذا كان الإسلام الجهادي أو الذي يتصرف باسم الجهاد، في طريقه للزوال لأنه صار جزءا من مرحلة التأزم الماضية؛ فإن الإسلام السياسي غير العنيف، يملك حظوظا أفضل. فقد انضم إسلاميو السياسة إلى الثورة بعد حدوثها، وها هم يحاولون تبني آلياتها للمشاركة في العملية السياسية، وللاهتمام بصون هوية المجتمع والدولة من خلال الانتخابات، ومن خلال الحضور القوي في المؤسسات. وتتوجس القوى المدنية غير الإسلامية من أن يستأثر «الإخوان» بحصة أكبر من حصتهم. ومع أن هذا غير مهم، فالذي أرجحه ألا تزيد نسبتهم كثيرا عما كان لهم قبل خمس سنوات، عندما غيرت الدولة في نتائج الانتخابات لحرمانهم من المشاركة ألبتة. وهم لا يقولون الآن بالحاكمية، بل بالدولة المدنية التي تشترع دستورا فيه نص أن دين الدولة هو الإسلام، والشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع. ويبدو أن ثقة «الإخوان» بأنفسهم وشعبيتهم وبالجيش، تعود إلى اتصالات سابقة، ودفتر شروط لا يتجاوزونه. ولذا فهناك التزامات متبادلة، وسيبقى الأمر على هذا النحو لسنوات عدة. وقد ظهر في مصر على وجه الخصوص نفوذ للسلفيين، وما بدوا أنهم مختلفون مع «الإخوان»، لكنهم يتصرفون تصرفات نافرة بعض الشيء تتعلق بأولوياتهم المعروفة في تصحيح العبادة والعقيدة. وليس للقضايا التي يتابعها بعض السلفيين المصريين علاقة وثيقة بالدين أو بمستقبل الإسلام. ويستطيعون التأثير الإيجابي بالفعل في المرحلة الجديدة، باعتبارهم «عصب أهل السنة»، وإنما بأولويات حقيقية، ودون نوافر وتفاصيل لا تفيد أحدا ولا شيئا.