في الأصولية وتحولاتها التاريخية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في رفضهم القاطع إطلاق اسم «الأصولية» على الجماعات الإسلامية المتشددة؛ يسوق فريق من الإسلاميين أدلة يستأنسون بها لنفي توصيف هكذا عن الإسلام جملة وتفصيلا. ومن أبرز ما يقومون به في هذا السياق، رصدُ ارتباط هذه الظاهرة تاريخيا بكل من الفكر اليهودي والمسيحي خصيصا.

ومن بين الكتابات التي يعولون عليها في هذا الشأن، كتاب الكاتب البريطاني ديفيد هيرست «البندقية وغصن الزيتون»، الذي أكد فيه أن جذور العنف في الشرق الأوسط تعود بالدرجة الأولى إلى «الأصولية اليهودية المتطرفة»، وأن تجاهل الغرب لمخاطرها هو جزء من ممارسته المعروفة للمعايير المزدوجة، خصوصا أن الغربيين طالما حاربوا الأصولية الإسلامية واعتبروها عدوا حلّ محل الشيوعية، متجاهلين بذلك حقيقة أن خطر «الأصولية اليهودية» لا يقتصر على المسرح الداخلي للدولة العبرية فحسب؛ وإنما يتجاوزها إلى العالم الرحب، بحكم امتلاكها لأكثر من مائتي رأس حربي نووي تستطيع إيصالها إلى أي بقعة في العالم! ورغم وجاهة هذا المنطق بمعيار التاريخ، فإن ما يغفله هذا الطرح هو أن الأصولية تكاد تكون بالفعل ظاهرة ملازمة لكل دين، وأنها، وإن كانت تبدو بصورة أشد في اليهودية، فإن ذلك لا يعني بحال من الأحوال عدم وجودها في واقع المسلمين اليوم. خاصة إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أن القاسم المشترك للأصوليات كافة، على اختلاف مشاربها، يتمثل في نفي التعددية السياسية والدينية والثقافية ورفضها رفضا قاطعا.

هذا وتشير كارين آرمسترونغ، مؤلفة كتابي «معارك في سبيل الإله، الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام» و«التاريخ المختصر للإسلام» - وفي سياق رصدها بزوغ ظاهرة الأصولية في القرن العشرين - إلى موقف الأصولية من المبادئ الديمقراطية بالقول: إنه لم يكن لدى الأصوليين وقت للديمقراطية أو التعددية الحزبية، أو التسامح الديني أو الحفاظ على السلام أو الخطاب الحر، أو فصل الكنيسة عن الدولة.

وبحسبها أيضا، فإن الأصوليين المسيحيين قد قاوموا - لحقبة مديدة من الزمان - الاكتشافات العلمية الخاصة بعلوم الأحياء والفيزياء، وأصروا على أن كتاب «سفر التكوين» يبدو علميا في جميع تفاصيله ولا يحتاج إلى إضافات من أي نوع! وأنه في الوقت الذي كانت فيه غالبية البشرية تلقي بقيود وأصفاد الماضي، أظهر الأصوليون اليهود أن قانونهم المقدس - الذي مارسوه بصرامة وتشدد - هو القانون الدولي الوحيد القابل للتطبيق، وقد تبعهم في ذلك الأصوليون المسلمون في تحويلهم للقضية العربية - الإسرائيلية، من قضية دنيوية إلى قضية دينية خالصة! وتتابع آرمسترونغ، في سياق بحثها مجمل الأسباب التاريخية التي أدت إلى بروز ظاهرة الأصولية اليهودية، أن اليهود كانوا أول من أقبل على التطرف الديني، نظرا لأنهم عانوا أزمة عدم العدالة الاجتماعية، ووجدوا أن مدنية العصر الحديث هي السبب وراء اضطهادهم ومعاناتهم. أضف إلى ذلك أيضا، ما أصابهم من إحساس بالدونية على يد المجتمع المتمدين الذي يؤمن بالنصرانية الغربية في نهاية القرن الخامس عشر. وقد دفعهم كل ذلك إلى استخراج مخزونهم من الحيل البارعة والمبادئ الدينية والخرافات والأساطير التي تمنعهم من إعادة سلطة الدين في الحصول على حقوقهم المهضومة على يد الغرب المسيحي.

ونتيجة لذلك، استمر اليهود في إخراج وتدوير هذا المخزون لسنوات طويلة حتى أصبح فيما بعد حقيقة مقنعة للغرب إلى حد ما، مثلما تجلى في شكل ممارسات شائعة في العالم الحديث. وقد أدى كل ذلك في النهاية إلى تشكل هذا المنحى على هيئة اتجاهات متشددة تنحو نحو المزيد من التطرف الديني بغية إخضاع العقل لسيطرة الدين.

وفي كل الأحوال، فإن ما يهمنا في هذا السياق هو التأكيد على أن الفريق الرافض لاستخدام مصطلح «الأصولية» لوصف الإسلام أو المسلمين عادة ما يستثمر هذه الخلفية التاريخية من أجل بيان أو فضح عملية الإسقاط المنتشرة في دنيا الناس انتشار النار في الهشيم، مفضلين استخدام مصطلح «الإسلاموية» بديلا عن «الأصولية». وحجتهم في ذلك، أن الأخير ليس إلا مصطلحا يتم تمريره في ثقافتنا اليوم من دون أن يكتسب أي شرعية تاريخية. ناهيك عن أن البعض يسكت عنه ظنا منهم أنه يعني «العودة إلى الأصول والمبادئ الإسلامية»، أو يتماهى مع مصطلح «الأصوليين»، أي جماعة الفقهاء المشتغلين بعلم أصول الفقه! على أن ذلك كله لا يمنع من استحضار بديهية مؤكدة، ألا وهي: أن ثمة منظومة فكرية كاملة يناصبها الأصوليون الإسلاميون العداء، في مقدمتها: العلمانية، والديمقراطية، والتعددية، بحيث يصح القول إن هذا الثالوث - اللامقدس بنظر الأصوليين - قد استحق صرف أغلب جهودهم لجهة دحضه وبغية تحطيمه. وبطبيعة الحال، فإن الهجوم على هذه المفاهيم أمر مفهوم تماما بالنظر إلى طبيعة الأصولية ذاتها كحركة تدعو إلى تفكيك البنية التأسيسية للتاريخ، فتنكر شرعية إلزامية النظريات، وتحث على استخلاص المعنى الحقيقي للإسلام من النصوص المفسرة من منظور التجربة الحديثة لواقع الأمة ومعاناتها.

وتبعا لذلك، يمكننا تلخيص البنى التأسيسية التي ينبني عليها تصور الأصوليين للآخر ونفي التعددية الدينية والسياسية والثقافية، في أربعة عناصر رئيسية هي: عالمية الرسالة/الإسلام (بوصفها الحقيقة المطلقة التي يجب إنشاؤها)، وجاهلية العالم (باعتبارها الحقيقة الجزئية الفعلية التي يجب التخلص منها)، والجهاد (بوصفه السبيل الوحيد لإنهاء الحقيقة الجزئية الفعلية/جاهلية العالم)، وأخيرا: السلام (بوصفه السبيل إلى تحقيق الحقيقة النظرية المطلقة ونتيجة لها في آن معا)!! وبديهي أن نفهم من خلال سياق كهذا أن عالمية الإسلام وجاهلية العالم لا يمكنهما التعايش معا بصورة شرعية، بحكم أن كل واحدة منهما تؤدي حتما إلى نفي الأخرى! يتحصل مما سبق، أن الأصولية الإسلامية تنطلق من الإيمان بأحقية قيادة الأمة الإسلامية للعالم على اعتبار أنها «خير أمة أخرجت للناس». وهي بهذا المعنى تسعى إلى تحقيق قطبية أحادية يخضع لها الجميع وينضوون تحت لوائها، حتى مع التذرع بأن مهمة الإسلام إنقاذية، بحجة أن الأمة الإسلامية أمينة على رسالة الله في العالم! ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أن السياسة الخارجية للثورة الإسلامية في إيران قامت على مجموعة من الأسس السياسية الشبيهة، كان في مقدمتها التأكيد المستمر على العداء للولايات المتحدة الأميركية بحيث لا تجوز مصالحتها أو مهادنتها، ومواصلة الصراع ضد القوتين العظميين (أميركا والاتحاد السوفياتي) وضد الصهيونية.

عالمية الإسلام، وفق الفهم الأصولي إذن، مبنية على مبدأ «الحاكمية» القائل بمطلق سلطة الله في الكون، فهو المشرع ابتداء. ومن ثم يجب أن يتمحور عمل البشر حول تطبيق التشريع الإلهي، فيما تنحصر سلطة التشريع بالله وحده، وبما يعني أنه ليس من حق أي مخلوق أن يشرع أو أن يحكم بغير ما أنزل الله! يترتب على ما سبق، أن عالمية الإسلام تتضمن بداهة معارضة أي نظام إنساني فلسفي أو سياسي لا يقف عند حكم الله بحسب الفهم الأصولي! وتبعا لذلك، يقسم الأصوليون كلا من المنهج والفكر والعمل إلى قسمين: الأول، ذلك الذي منحه الله. والثاني: ذلك الذي لم يمنحه الله، وبما يترتب على ذلك من أن المتبعين للسبيل الأول إنما ينظمون حياتهم وشؤونهم طبقا للمنهج المستمد من عقيدة الله، فهم إذن «أتباع أو حزب الله».

أما «الآخرون» الذين يستمدون منهجهم من دستور أو نظام سياسي أو قانون، فهم أتباع دين الملك أو العشيرة أو الشعب (باعتباره مصدر السلطات في النظم الديمقراطية). وبكلمة واحدة، هم «أتباع حزب الشيطان»!! فحزب الله هو الذي يؤمن بتوحيد الله ويعمل بشريعته، أما حزب الشيطان فينضوي تحته كل من لا يتبع تعاليم الإسلام، فردا كان أو طائفة أو شعبا أو أمة من الأمم!! ووفقا لذلك أيضا، تجنح الأصولية إلى القول بعدم جواز جمع الإسلام، أو حتى مقارنته، مع غيره من الأنظمة السياسية أو العقدية ضمن نسق واحد! بحجة أن عدم الخلط سيؤدي إلى سهولة تحدي الشر في حال عدم اختلاطه مع الخير! فيما يؤدي اجتماع الخير والشر في بوتقة واحدة إلى عدم تجنب الأخطاء وصعوبة القضاء نهائيا على الشر! ختاما، يمكن القول: إن موقف الأصولية من التعددية لا يزال مثقلا بعبء التاريخ من ناحية، كما أنه لا ينتظم في منظومة واحدة من ناحية أخرى. صحيح أن الرفض القاطع للتعددية الدينية خاصة، والسياسية عامة، يبدو الموقف الأصولي الموحد، لكن هذا لا يجعلنا ننسى أنه حتى في سياق هذا الرفض ثمة على الأقل تنويعات مختلفة تتأرجح ما بين تغاير الأسباب تارة، وأسلوب المعالجة وطرح البدائل تارة أخرى. على نحو ما سنفصل القول فيه لاحقا.

* كاتب من مصر