قراءة في دراسة عن نظرية الأهلية بين الفقه وعلم النفس

في إطار تحقيق التكامل بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية

TT

من القضايا العاجلة التي تستدعي الاهتمام في العصر الحاضر، تحقيق التكامل بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية، وغيرها من العلوم، لردم الهوة ومد الجسور بين هذه العلوم، وتكوين تصورات ورؤى جديدة تفتح آفاق بحوث واجتهادات كثيرة وعميقة، تثري التعليم والإبداع في مختلف المجالات.

ويعد موضوع الأهلية في الفقه الإسلامي من المواضيع المهمة، إذ ترتبط به الكثير من القضايا الشائكة المطروحة للبحث والنقاش، مثل أهلية المرأة للقضاء والحكم والشهادة في بعض القضايا، والتمييز بين البلوغ الفسيولوجي والرشد العقلي، وموضوع الاضطرابات النفسية والعقلية التي قد تسقط الأهلية بصفة دائمة أو مؤقتة.

ولهذا فإن الفقه الإسلامي في حاجة إلى فروع جديدة في البحث والاجتهاد، والتخصص في مجالات فقهية بعينها، وإلمام الفقهاء ببعض العلوم المعاصرة، لا سيما علم النفس المعاصر، مع الاستعانة بأهل الاختصاص قبل إصدار الأحكام والفتاوى أو اعتماد الفتوى الجماعية الصادرة عن مراكز وهيئات ومجالس متخصصة.

وحول موضوع الأهلية صدر حديثا عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، كتاب «نظرية الأهلية: دراسة تحليلية مقارنة بين الفقه وعلم النفس»، للدكتورة هدى محمد حسن هلال، الذي يطرح للنقاش والبحث الكثير من القضايا والأحكام والمواضيع الجريئة والشائكة في مجال نظرية الأهلية، التي تثري الفقه الإسلامي وتساهم في ردم الهوة بين العلوم الشرعية والعلوم الحديثة، وبخاصة العلوم الاجتماعية، في الكثير من مجالات الحياة المعاصرة.

تتناول الدراسة بالبحث والتحليل مبحثا مهما في الحياة المعاصرة، وهو الأهلية، التي شملت أحكامها الشرعية حياة الإنسان بأكملها. تقول المؤلفة إن أهمية الأهلية تنبع من ترتب أحكام شرعية غزيرة عنها من قبل الحياة إلى ما بعد الموت، وكثيرا من الإشكاليات القديمة التي اختلف فيها الفقهاء سابقا، وكثيرا من المشكلات المعاصرة التي يحاول العلماء إيجاد الحلول لها في العصر الحاضر، يمكن التوصل إلى حكمها الشرعي عن طريق تجديد النظر في أهلية الإنسان، وبناء نظرية معاصرة للأهلية، ذات إطار معرفي مقاصدي، وفق معطيات العلم الحديث، بحيث يصبح بالإمكان حل كثير من الإشكاليات الفقهية القديمة، والقضايا المعاصرة المتعلقة بالأهلية.

والأهلية في الفقه الإسلامي نوعان: أهلية وجوب: وهي صلاحية الإنسان لأن تجب له الحقوق، وتجب عليه الواجبات، وأهلية أداء: وهي صلاحية الشخص لصدور التصرفات منه في نظر الشارع (الله تبارك وتعالى)، وبهذا تكون أركان نظرية الأهلية: الإنسان، والحقوق والواجبات، والشارع (الله تعالى). أما شروط نظرية الأهلية فهي: الإنسانية، والذمة وهي النفس الإنسانية، والعقل، والقدرة البدنية أو البلوغ.

تقول المؤلفة بأن هناك حاجة إلى نظرية معاصرة للأهلية واضحة المعالم تجمع بين الفقه وعلم النفس والعلوم المعاصرة، لإيجاد حلول للإشكاليات والخلافات القديمة والحديثة، والتي من أهمها: وجوب تفعيل مقاصد الشريعة في حقوق الجنين من خلال علم الأجنة وعلم النفس، من أجل تقرير حقوق إضافية للجنين على الحقوق المنصوص عليها سابقا، وهي النسب والإرث والوصية، مثل: الحق في حياة كريمة سليمة من الأمراض والعاهات، وحق الجنين في الحياة، وتحريم الاعتداء عليه. ومن الإشكاليات الأخرى، الخلاف القديم الواسع القائم في تحديد سن البلوغ، وفي اعتبار الصفات الثانوية المرافقة له، مع حصول تطور في العلوم النفسية المعاصرة وبراعتها في البحث في البلوغ وأسبابه ومظاهره، ووجوب اعتبارها كأدلة علمية والأخذ بها في هذا العصر، وكذلك إشكالية تحديد سن الرشد وارتباطه بالأحكام المالية أو الأهلية الكاملة، فهناك اختلاف في اعتبار الرشد شرطا للتصرف يوجب حجر فاقده، وما أدى إليه من عدم اعتبار الرشد مرحلة للأهلية منفصلة عن البلوغ، ومن الإشكاليات الأخرى التي يوجب تجديد النظر فيها، لما يترتب عليها من أحكام شرعية تتعلق بأهلية المكلف، وجود عدد من العوارض تحول دون إثبات الأهلية، شرحت قديما، وصنفت بأسلوب مبسط يعكس معارفهم وعلوم عصرهم، ثم حصل في شرحها تقدم علمي واسع، لا سيما في علم النفس، فيجدر تجديد النظر في أنواع الأمراض العقلية، وإدراجها في الدراسات الفقهية لتأخذ حظها من الأحكام الشرعية، وكذلك محاولة تحقيق أهلية كاملة للمرأة في جميع المجالات بناء على الدراسات النفسية المختصة بالنمو العصبي والعقلي والمعرفي للذكور والإناث في جميع مراحل الحياة ومناقشة كل ما يعترض كمال أهليتها.

وعن المعيار الحقيقي لقياس الأهلية، تشير الباحثة بالقول: يبدو من خلال الاطلاع على أهلية الإنسان خلال فترات حياته المختلفة أنها تتطور من الطفولة إلى الشباب، ثم تتناقص مع التقدم في السن في مرحلة الشيخوخة، فهي غير ثابتة. هذا الاختلاف الحاصل في الأهلية، المترافق مع تغيرات حيوية في جسم الإنسان، وإدراكية في عقله، يوحي بعلاقة طردية متناسبة بينهما، ويوجب رسم هذه العلاقة على شكل معيار تقاس به الأهلية، ومن ثم تحديد حكم كل عارض من العوارض التي تعترض الأهلية، ويتم تحديد هذا المعيار عن طريق آلية الاستقراء، باستقراء أقوال الفقهاء في الأحكام الشرعية المتغيرة وفقا لتغير ظواهر حيوية في الجسم، وتطور في الإدراك المعرفي والخلقي.

ومن توصيات الباحثة، إجراء أبحاث ودراسات موسعة نظرية وتطبيقية على مراحل تطور الإنسان من خلال العلوم النفسية والعلوم الإسلامية، لتحديد السمات الخاصة لكل مرحلة والحقوق والواجبات الملازمة لها، والتي في ضوئها يمكن التوسع في معيار الأهلية وتقديمه بشكل مفصل ودقيق لا يتطرق إليه الشك، ويمكن استخدامه في المؤسسات التعليمية عند صياغة المناهج المناسبة لكل سن، وفي المجالات القانونية عند سن قوانين خاصة لكل مرحلة عمرية، والتركيز في عملية الاجتهاد الفقهي على إيجاد أحكام شرعية للأمراض النفسية وعدم إهمالها، وإعادة النظر في ملف أهلية المرأة القانونية والسياسية، وإنشاء علم «الفقه النفسي»، باعتباره من مواد الفقه المعاصر وتدريسه في أقسام علم النفس.