دارسو الإسلاميات بين جيلين

رضوان السيد

TT

كنت أقرأ مقالا عن «مستقبل الدراسات الإسلامية في الغرب» كتبه كهل (في الخامسة والأربعين من عمره)، يعمل بإحدى الجامعات الألمانية. وقد لفت انتباهي في المقال الاختلاف الشاسع بين اهتمامات الدارسين الغربيين للإسلام وأَولوياتهم، واهتماماتنا نحن في التخصص أو المجال نفسه. ذلك أن نقاط تركيزهم تقنية إذا صح التعبير، بينما تظل اهتماماتنا هادفة أو مضمونية. فهم يتوخون تضييق جنبات البحث، وحصر موضوعاته، ثم ممارسة أضواء كاشفة عليه ذات طابع نقدي، تهدف بالطبع إلى إنتاج معرفة أو معارف أكثر دقة، بينما يظل همنا نحن استكشافيا وفاهما، وإن استخدمنا مثلهم المناهج والأساليب الحديثة. ولا يرجع هذا الاختلاف إلى أننا نتدين بالإسلام وهم لا يتدينون به؛ بل إلى أننا لا نفرّق كثيرا (في الوعي على الأقل) بين التجربة الإسلامية القديمة والتجارب الحديثة. وهم يعرفون بالطبع أن الإسلام لا يزال حيا بل شديد الحياة، لكنهم يفرقون تفرقة قاطعة بين التجربة القديمة لأمتنا مع الإسلام، والتجارب الحديثة والحية للمسلمين. ولا أُريد هنا متابعة هذه المقارنة أو المقاربة المفيدة، بل أريد المضي في مقاربة بين تجارب جيلنا مع الدراسات الإسلامية، وتجارب أساتذتنا في الجامعات العربية والإسلامية من العرب والمسلمين. فقد انشغلت في الشهور الماضية، بل طوال عام 2010، بتجارب أولئك الأساتذة، بسبب وفاة عدد منهم العام الماضي. وكنت في دراسات سابقة قد قسمت أجيال الدارسين العرب في الجامعات، وللتاريخ الإسلامي والفقه وعلم الكلام والفلسفة وعلوم التفسير والحديث، والتاريخ الثقافي، إلى أربعة أجيال. واعتبرت تلامذتنا نحن الستينيين الجيل الخامس. ولا أريد العودة لتحديد معنى الجيل، والتحقيب الذي يقتضيه، لكنني أقول هنا إنه ثلاثون عاما على وجه التقريب. وهكذا فإن الإنتاج المعتبر لجيل أساتذتنا يقع بين الستينات والتسعينات من القرن الماضي، أي أنني أعتبر ما أنتجوه خلال ثلاثين عاما من سنوات النضج لديهم. فأكثرهم ولد في أواسط الثلاثينات من القرن الماضي، أو بعد ذلك بقليل، وبدأوا إنتاجهم الباقي في الستينات من القرن ذاته.

وأولى الملاحظات أن هؤلاء جميعا تقريبا، وإن عملوا في الدراسات الإسلامية أو التاريخية الإسلامية أو التراثيات أو التاريخ الثقافي العربي والإسلامي، ما كانوا يعتبرون أنفسهم من أساتذة الدراسات الإسلامية، فقد تعلموا في الأغلب الأعم في دراساتهم العليا على الأقل في الجامعات الغربية؛ ورغم دراستهم على أيدي المستشرقين وإفادتهم من مناهجهم؛ فإنهم اكتسبوا نفورا منهم. وهناك الكثير منهم الذين بدأوا إنتاجهم العلمي بنقد المستشرقين ومناهجهم. وهذا النفور من المستشرقين أو من هذه التسمية يشاركهم فيه كهول «المستشرقين» اليوم، إذ يسمون أنفسهم أساتذة الدراسات الإسلامية أو ثقافات الشرق الأوسط أو ما شابه. وما كانت تسمية الدراسات الإسلامية دارجة إبان تعلُّم أساتذتنا هناك، فانصرفوا للتسميات المعتمدة: التاريخ الإسلامي أو الوسيط، والفلسفة الإسلامية، والحضارة الإسلامية أو العربية. ولا شك أن ذلك أثر في وعيهم، ولذا فإن الكثيرين منهم ما اكتفوا بالتأليف في الإسلاميات على أنواعها وحقولها؛ بل كتبوا أشياء في الفلسفة العامة أو التاريخ العام أو نظرية التاريخ. أما نحن فإن كثيرين منا يسمون أنفسهم باعتزاز أساتذة الدراسات الإسلامية. ونحن لا نقلد في ذلك كهول المستشرقين؛ بل يحدونا أو يحدو الكثيرين منا الوعي بدور الإسلام وأهميته وفعاليته في زمن الصحوة الإسلامية. ويظل هذا الوعي حاضرا عندنا حتى عندما نكتب في الدراسات الإسلامية القديمة، لأن الكثيرين منا يخيّل إليهم أن الشافعي أو المحاسبي أو ابن رشد لا يزال فاعلا ومؤثرا لدى جمهور الصحوة اليوم، فلا يقتصر التأثير على ابن تيمية أو ابن خلدون. وقد عملتُ طويلا - ربما لمواجهة الجهاديين الإسلاميين - على مفهوم «القطيعة المعرفية» الذي استنّه ميشيل فوكو الفرنسي، لكن مقتضيات ذلك ما تغلغلت في وعيي، وهي - أي القطيعة - غير معترف بها لدى زملائي، كما لدى بعض أساتذتنا مثل الدكتور حسن حنفي. أما الأستاذان أركون والجابري فيتحدثان كثيرا عنها، لكنهما لا يمارسانها في دراساتهما؛ في حين يذهب عبد الله العروي إلى أن هذه الظاهرة (أي اعتقاد التواصل) هي ظاهرة خادعة أو وعي مضلل.

والملاحظة الثانية أن جل أساتذتنا أو أهل الجيل الثالث في الدراسات الإسلامية، هم بالمقاييس الحديثة أوسع ثقافة منا. فقد درسوا في الأكثر - بعد الجامعات العربية - في أحد الغربين الأوروبي أو الأميركي. ومنذ عبد العزيز الدوري وصالح أحمد العلي وإحسان عباس وعبد الله العروي، أقبلوا على استخدام المناهج الغربية الحديثة في قراءة النصوص الإسلامية والمجالات التاريخية والاجتماعية، والنقد الأدبي العربي القديم. وقد استطاعوا - مع أساتذتهم من الجيل الثاني، جيل طه حسين - إدخال تلك النظريات والمناهج في التخصصات المتقاربة التي درّسوها، بحيث دخلت في المادة الدراسية، واندفع تلامذتهم (نحن) لاستخدامها. ولأننا قلدناهم في ذلك، دونما قراءات متعمقة مثلهم في المصادر الغربية، فقد بدت هناك فروق كثيرة، أهمها الفروق الانتقائية التي تتميز بها مناهج دراساتنا بل وموضوعاتها. فالأكثرون من بيننا يبدأون الكتابة مثلما بدأوا هم، ومن حيث المناهج والموضوعات. ثم يختار كل منا موضوعا أو مجالا يتابع الكتابة فيه مقتصرا عليه، بينما كانوا هم مصرين على الشمولية، ومغادرة التخصص كله في كتاباتهم أحيانا. وهناك من يُرجع الأمر إلى أن دراساتنا أكثر تخصصا من دراساتهم، ولا يغلب عليها الطابع التعليمي مثلما غلب عليهم. لكنني أُعيد ذلك أيضا إلى اختلاف الطبائع الثقافية بيننا وبينهم، سعة وضيقا، وزمنا والتصاقا أو عدم التصاق بالمصادر المنهجية الغربية.

والملاحظة الثالثة أن الطابع الآيديولوجي والإرشادي أو النضالي، يسيطر على أعمال الجيل السابق علينا من الدارسين العرب والمسلمين. فمن محمد أحمد خلف الله وفضل الرحمن والدوري، إلى العروي وأركون والجابري وحسين مروّة وطيب تيزيني وحسن حنفي، يمكن اعتبار هؤلاء جميعا «تقدميين»، أو أنهم يملكون أفكارا شبه ثابتة عن الموروث العربي الإسلامي. إذ انشغلوا طوال حياتهم في قراءته قراءة تأويلية متحررة أو محررة. ولذلك فبقدر ما جعلوا الإسلام وموروثاته في الواجهة؛ فإنهم كانت لهم تأثيرات اختزالية أو انتقائية أو نافية. وليس الأمر كذلك في جيلنا نحن. فبيننا المسلم والمسيحي، وبيننا المتدين وغير المتدين؛ بيد أن أكثرنا لا يملك نظرة سلبية للموروث الثقافي والفكري الإسلامي بشكل عام. ثم إن الكثيرين من الزملاء والتلامذة القدامى انصرفوا لدراسات دقيقة في القرآن أو السنة أو أُصول الفقه أو تاريخ التفسير لا تُعنى بالتقييم الآيديولوجي، بل بالاستكشاف وإعادة كتابة التاريخ بشمولية لكن بدقة. وهذا المنحى في القراءة (وبخاصة لدى المغاربة) متأثر بمدرسة الحوليات الفرنسية وفرنان بروديل وأقرانه. وستكون له آثار لدى تلامذتنا تُخرج من سلبيات الاستشراق الجديد، والمناحي التفكيكية المخربة، والتي ما دخل فيها كثيرا جيل أساتذتنا، لكن مناهجهم النضالية أفضت إليها.

وهناك ملاحظة رابعة لا تتعلق بالطرائق أو بالموضوعات بين الجيلين الثالث والرابع في الدراسات الإسلامية؛ بل تتعلق بالتأثير. فالجيل الثالث من أساتذتنا ترك تأثيرا كبيرا في أوساط الطلاب الجامعيين على الخصوص. وذلك لأن الستينات والسبعينات وما تلاها شهدت الحقبة الآيديولوجية ذات الطابع النضالي اليساري أو الإسلامي، واليساري في الغالب. أما جيلنا فقد شهد تفككا وضربا للآيديولوجيا، بل وعدم اهتمام بالتحول إلى دعاة. ولذلك؛ فإن دراسات الجيل السابق ستظل تحظى بالتفات لبعض الوقت، رغم نقديتها اللاذعة أو بسبب ذلك. وبعبارة أُخرى؛ فإن لدراساتهم أنصارا كثرا وخصوما كثرا، في حين لا تجد دراساتنا هجوما كبيرا، لكنها في الوقت نفسه لا تلقى جاذبية كبيرة لدى الشباب خارج الجامعات. ولذلك علاقة بالطبع بتوتر العلائق بين المكتوب ووسائل الاتصال، لكن نحن وأساتذتنا ظهرنا وكبرنا في الجامعات، وإذا كانت وسائل الاتصال تؤثر على كتاباتنا سلبا؛ فإنها تؤثر عليهم أيضا.

ولذا فإن الملاحظة الأخيرة إنما تتعلق بالجيل الخامس (أي جيل التلامذة)، وهؤلاء يتوافر لدى أكثرهم الحماس، وتتوافر التوجهات الدعوية، ولذا فسوف يؤثرون أكثر منا ومن أساتذتنا. إنما إذا كانت ثقافتنا قد تراجعت مقارنة بجيل الأستاذة؛ فإن الثقافة في الجيل الخامس هي أكثر انكماشا وتضاؤلا، ومن ناحية أُخرى أكثف من حيث الدعوة الآيديولوجية سواء لدى الإسلاميين الإصلاحيين، أو لدى دعاة المدنية العالمية. والأرجح أن تحفل بالموضوعات الجديدة الألصق بالحياة الحاضرة ومشكلاتها وهمومها وطرائق العيش والنجاح فيها. وأحسب أنها وإن تمت بداخل الجامعات فستكون أشبه، حتى لو تناولت المسائل الكلاسيكية ما نعرفه من الدعاة الجدد في هذه الأيام.