مجتمع التعددية الثقافية.. بين التماهي والهوية

إميل أمين

TT

على الرغم من أن للألمان تجربة طويلة مع الاندماج، فإنهم يفتقدون إلى الذاكرة، الأمر الذي يزيد من حجم المخاوف التي تعتري سياسة الهجرة والاندماج في ألمانيا، ويجعلها تتمحور حول الأمن الداخلي أكثر من معالجتها للتسامح والاحترام المتبادل.

هكذا يقرر البروفسور هريبرت بانتل عضو رئاسة تحرير صحيفة «زوددويتشه تسايتونغ» الألمانية في استعراضه لعيوب تلك السياسة وأسباب انغلاقها.

لماذا الحديث عن جدلية الإسلام والتعددية في ألمانيا على نحو خاص؟

دون أي تفكير مسبق أصبحت ألمانيا بلدا يقصده المهاجرون، ومع الناس جاء أيضا دين جديد: الإسلام.

يحكي لنا الكاتب والمستشرق نافيد كرماني عبر كتابه «من نحن؟ ألمانيا ومسلموها»، عن حياته عندما كان طفلا لوالدين إيرانيين في ألمانيا، ويحكي لنا أيضا عن خبراته بوصفه عضوا مشاركا في مؤتمر الإسلام في ألمانيا.

كل من قرأ هذا الكتاب الذي يتحلى بدرجة عالية من الذكاء والإتقان يعرف أن الأمر لا يتعلق بإعلان قيام مجتمع التعددية الثقافية، بل يتعلق بالعمل على إقامته.

عن هذا الكتاب قالت جريدة «دي تسايت» الألمانية الشهيرة إنه «يوجد القليل من الكتاب الذين يقدمون حكما متوازنا ونقدا للإسلام في الوقت نفسه».

من هو نافيد كرماني، بداية الأمر؟ ولد كرماني عام 1967 لأبوين إيرانيين، درس العلوم الإسلامية والفلسفة وعلوم المسرح في ألمانيا ومصر، ويحمل درجة الدكتوراه في العلوم الإسلامية، ويعيش اليوم في كولونيا بألمانيا، ويعمل ككاتب متفرغ وناشر، وهو يعد اليوم واحدا من أهم دارسي العلوم الإسلامية في ألمانيا.

لماذا هذا الكتاب في هذا التوقيت؟

أغلب الظن أن الدافع الذي جعل كرماني يقبل عليه هو الجدل الدائر في ألمانيا لجهة الآخر، والآخر دائما هو المسلم، إلى الدرجة التي قالت معها مستشارة ألمانيا، أنجيلا ميركل، مؤخرا إن التعددية في ألمانيا قد فشلت تجربتها، فهل ذلك كذلك بالفعل؟

يرى كرماني أنه ليس من باب المصادفة أن يكون الجدل الدائر عن التعددية الثقافية جدلا عن الإسلام. علما بأنه ليس جدلا مع المسلمين، وإنما عن المسلمين بالدرجة الأولى.

سطور كتاب كرماني تتوقف عند قنابل موقوتة فكرية كثيرة باتت تهدد التعايش في أوروبا، فعلى سبيل المثال يخبرنا عن تجربته في العقد الأخير وربما نصف الذي سبقه بالقول: «كثيرا ما رأيت كيف تحولت نقاشات حادة وعاطفية عندما كان يذكر عنوان مثل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أو الحجاب. على الفور تصبح الأسئلة أكثر تحديدا: هل تعني العلمانية أن تعامل الدولة جميع الأديان بمساواة تامة؟ هل تعني التعددية أن تصبح المئذنة جزءا من شكل المدينة؟ هل يمكن لدولة إسلامية أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي؟».

يلفت كرماني إلى شأن مهم، وهو أن التعبئة الذهنية التي تتم اليوم في أجزاء من المجتمع الألماني لا تخطئها العين. فقد اتخذت التقارير الصحافية عن الإسلام ووسائل الإعلام منذ فترة طويلة صورة الحملة، وقد حللها العلماء كثيرا أيضا فيما يتعلق بلغة الصور المستخدمة فيها: رجال ملثمون ومدججون بأسلحة آلية، وحشود من النساء المنتقبات، وصور من الخلف لفتيات محجبات في أفنية المدارس الألمانية، ووجوه متشنجة وهي تصرخ.

والواقع أن هناك تساؤلا مهما للغاية يطل برأسه من نافذة الأحداث: «ماذا عن دور المؤسسة الكنسية الألمانية في وسط هذا الجدل الذي كثيرا ما أخذ منحى سلبيا مؤخرا؟».

عند كرماني أنه على العكس من الكنيسة الكاثوليكية التي - على الرغم من خطاب البابا بنديكتوس السادس عشر في ريجنبسروغ - تجري الحوار بين المسيحية والإسلام بحماسة كبيرة. وتتخذ إجمالا موقفا متسامحا ومتفاهما من الإسلام في ألمانيا، فإن القيادة الكنسية الإنجيلية في ألمانيا تبتعد عن الإسلام بصورة متزايدة.

في نقده لواقع حال الإسلام والمسلمين في ألمانيا يتساءل كرماني بموضوعية رائعة هل من مسؤولية على المسلمين تجاه ما يجري هناك؟

الجواب عنده نعم، يتحمل المسلمون بطبيعة الحال جزءا من مسؤولية تزايد النظرة المتشككة لهم في الغرب.. كيف ذلك؟

يجيب الرجل أنا لا أعني بذلك العنف السياسي الذي يرتكبه بعض المسلمين، والأوضاع غير الديمقراطية في معظم دول العالم الإسلامي، ولكن أيضا الطريقة التي يتصرف بها المسلمون على الملأ. إن أوضح وأشهر مثال لذلك في الفترة الماضية، على حد قوله، يوضح ويؤكد في الوقت ذاته صورة الإسلام العدو، هو النزاع حول الصور الكاريكاتيرية الدنماركية المسيئة للرسول، فقد تطورت أحداث الصراع وكأنما كتب مؤلف أفلام سيناريو لصراع ثقافات عالمي. إذ لم يدرك قطاع كبير من الرأي العام، وخصوصا الإيراني والعربي، أن المرء يجب ألا يلجأ إلى العنف فقط لأنه غاضب أو يشعر بالإهانة، وأنه توجد الآن في العالم وفي ظل العولمة طرق سلمية وذات تأثير أكبر بكثير للتعبير عن الموقف.

وعلى الرغم من بعض ملامح الواقع الألماني غير السارة فإن كرماني يحمل في طيات كتابه بعض الرؤى المشرقة لجهة انفتاح ألمانيا على العالم، إذ يرى أنه لا يمكن مقارنة انفتاح ألمانيا على العالم اليوم بما كانت عليه قبل عقدين أو ثلاثة عقود. إذ إنها اعتادت اليوم على وجود المهاجرين.

يجب على المرء فقط أن يتذكر أو يتحدث إلى الأشخاص الأكبر سنا حتى يحصل على الدليل وعلى المدى الذي وصلت إليه التعددية الثقافية بوصفها امرأ بديهيا.

هل الإعلام يضخم أحيانا من القضايا الخلافية؟

هذه نقطة مهمة جدا يميط عنها كرماني اللثام في كتابه فيقول: «ظهر لي بوضوح الاختلاف الكبير بين الواقع الاجتماعي والواقع الإعلامي في أعقاب النقاشات التي دارت حول بناء مسجد في كولونيا. عندما كان المرء يقرأ بعض الصفحات الثقافية في الجرائد كان يأخذ بالضرورة انطباعا بوجود صراع ثقافات كبير مندلع، وأن هناك مسيرات ضخمة للاعتراض على بناء مسجد كبير.

أما النقاش هناك في كولونيا الذي أعرفه جيدا باعتباري أحد سكان تلك المدينة الآن، فقد كان يسير ببساطة ودون أي توتر، حتى من المواطنين الذين كانوا ينظرون بعين الشك إلى بناء المسجد.

وفي أثناء النقاشات اتضح وجود دعم شعبي وسياسي كبير لبناء المسجد، على الرغم من وجود خلافات حول بعض التفاصيل، فقد أثيرت أسئلة حول حجم المبنى والخليط الاجتماعي في الحي والممولين ودور الحكومة التركية وكلها أسئلة مشروعة تماما».

ويفاجئنا كرماني بأنه على الرغم من أن دعاة الكراهية كان لهم أحيانا الصوت الأعلى في التقارير الصحافية، فإنهم في حي «إيرنفيلد» نفسه وفي المؤتمر الشعبي حول بناء المسجد في القاعة الرئيسية بالمدرسة، التي كانت تعج بالحضور، لم تكن أمامهم أي فرصة. طرد اثنان أو ثلاثة ممثلين لحزب اليمين المتطرف «من أجل كولونيا»، من القاعة بسبب تعليقاتهم الغوغائية، والإهانات التي تلفظوا بها، أما بقيتهم فقد غطت أصوات الغالبية الساحقة من المواطنين على أصواتهم.

ما الذي يمكن أن يفعله باحث متخصص مثل كرماني في مواجهة الاتهامات التي يطلقها الكارهون للإسلام والمسلمين في أوروبا؟

يكتب ما يلي «كثيرا ما أقرأ مقالا أو أستمع إلى متحدث في التلفاز أقول له في نفسي: أيها الزميل اذهب شهرا لزيارة دولة عربية. أو اقرأ كتابا يكون على الأقل مقبولا من الناحية العلمية، ويتمتع بالمصداقية، قبل أن تلقي على أسماعنا هنا فتوى عن الإسلام. لكني أعود وأقول في نفسي: آه لو كان يعرف مدى المصيبة. وكم هو كارثي وضع الدراسات الدينية. على سبيل المثال جامعة الأزهر، أكبر مؤسسة دينية تمثل الإسلام السني، كلا إنها ليست غرفة العمليات المركزية في الحرب ضد الغرب. بل العكس، الشيخ الأكبر شيخ الأزهر يقول كل يوم وفي كل خطبة جمعة (لا للإرهاب)، ويفعل كل ما تطلبه منه حكومته وما تطلبه منه وسائل الإعلام الغربية، إنه يرى نفسه الحصن الذي يقف في مواجهة الأصولية، ولكن - هذا مثال جيد لوضع الإسلام - المستوى الثقافي للتفكير في الدين في داخل المرجعية الدينية المركزية للمسلمين السنة، يمكن أن يكون دون مستوى معظم القساوسة الإنجيليين في كنائس المحليات».

إن الهزال الذي أصاب الإسلام الأصيل الذي كانت تثير ديناميكيته قديما العجب والإعجاب، هذا التراجع الذي أصاب الثقافة الدينية التي كانت مزدهرة، هو الذي مهد الطريق للأصولية. لم تنشأ الأصولية من الدين الأصيل. وإنما هي نتيجة للأزمة التي يمر بها. عندما توقف الدين الأصيل عن إمداد الناس بالإجابات نشأ الإسلام السياسي في الطبقات المتوسطة في المدن.

يفرد كرماني الفصل السابع من كتابه الشيق للجواب عن سؤال حيوي يطرح اليوم في ألمانيا كثيرا هل الإسلام قابل للاندماج؟

تقف منذ سنوات قضية هل الإسلام في أوروبا قابل للاندماج في مقدمة المواضيع، ويطرح السؤال بصيغ مختلفة مثل: هل يتوافق الإسلام مع الديمقراطية؟ ومع الدستور؟ ومع الحداثة؟ ومع التنوير ومع محتوى المقررات الدراسية في المدارس الألمانية. وتصل هذه الجدالات بصورة منتظمة إلى ساحات الجدال الكبيرة على صفحات الثقافة والفنون بالجرائد، وكذلك البرامج الحوارية والبرلمانات.

وعبر نقاش طويل في هذا الفصل يضيق المسطح المتاح للكتابة عن تفصيله يخلص إلى أن من العبث إذن طرح أسئلة عن مدى قابلية أو عدم قابلية التوفيق بين الإسلام والديمقراطية أو حقوق الإنسان. لأنه أولا لا يوجد ذلك الفهم الواحد للإسلام. وثانيا حتى لو وجد فإنه لن يعطي إجابة عن هذه الأسئلة. يمكن على كل حال بالنظر إلى التاريخ أن نقول إن الديمقراطية وحقوق الإنسان من إمكانيات الإسلام. ويمكن أن نقول إن الإسلام من حيث المبدأ قابل للاندماج في مجتمع علماني. لكن يبقى السؤال هل سيندمج المسلمون في ألمانيا؟ لن تكون الإجابة بالضرورة ذاتها.

فليحيَ الاختلاف.. بهذه الكلمات يختتم كرماني كتابه الشيق، ويأخذنا إلى مثال حول فوائد التعددية، عبر المحيط إلى البيت الأبيض، إذ أوضحت الانتخابات الرئاسية الماضية في الولايات المتحدة الأميركية للعالم، كيف يمكن للقيم الموحدة أن تعبر حدود العرق والأصل والدين والثقافة، وأن تتسامى بها. لم يكن فقط نجاح مرشح في الانتخابات ينتمي إلى الأقلية من عدة أوجه، ابن لعائلة مهاجرة، وأسمر البشرة، ويحمل اسم حسين، هو الذي أذهل العالم، وأذهله أيضا تلك الحماسة في تماهي ذلك المرشح مع بلده.

وجدير بالذكر أن مثل هذا المرشح في أي بلد آخر لن يكون مستبعدا بل مستحيل، ذلك المستحيل الذي تحاول أوروبا بصعوبة التحرر منه، حتى بعد مضي ستين عاما على حروبها الكبرى التي سعت فيها إلى تحقيق ذلك التجانس، ما زالت تحتاج إلى وقت طويل حتى تسجل قصص نجاح تشبه قصة أوباما، ولكنها ربما تتعلم منذ الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2008 بوتيرة أسرع أن التماهي ينجح عندما لا يكون هدفه توحيد الهوية.

* كاتب مصري