القس ليوبوس: إيمان باشيتش العميق بعقيدة التوحيد جعله قدوة للجميع

البوسنة: قساوسة كاثوليك يشيدون بإمام مسلم ويعربون عن إعجابهم بروحانيته العالية

الشيخ رامز باشيتش كان محل اهتمام وسائل الإعلام في البوسنة («الشرق الأوسط»)
TT

ترك الشيخ الإمام الحافظ رامز باشيتش أثرا طيبا بعد رحيله مؤخرا، ليس على الصعيد الإسلامي فحسب، بل في المحيط النصراني، لا سيما الكاثوليكي، حيث حضر عدد من القساوسة الكاثوليك جنازته، وكانوا من أكثر من قاموا بتأبينه، وذلك لما يتمتع به من إشعاع روحي، وثقافي، في منطقة فوينيتسا الجميلة، والتي تحتوي على مركب صحي للعلاج بالمياه الطبيعية.

وقال القس فرانكو ليوبوس، أمين مكتبة كنيسة فوينيتسا، عن الشيخ رامز باشيتش، في ملتقى نظم مؤخرا بهذه المناسبة «كان رجلا عظيما، شهما ومتسامحا، وهو من الأئمة المباركين الذين جاورناهم، وقد لمسنا طيبته ووده وحسن معاشرته وإيمانه العميق بعقيدة التوحيد الذي لا تشوبه شائبة، ويعتبر في فوينيتسا، قدوة ليس للمسلمين فحسب، بل للنصارى أيضا». وتابع «كما قلت في مناسبات كثيرة، إنني تعلمت منه شخصيا الكثير من المفاهيم والخصال الرائعة التي يتمتع بها، وقوة شخصيته الطاغية، والتي ينجذب إليها كل من يعرفه عن قرب». وأردف «عندما بدأ المسلمون في بناء المسجد، ولحبنا الشديد للإمام والحافظ رامز باشيتش، وإعجابنا بشخصيته وحضوره الطاغي، وعباراته المنتقاة، ووجه المبتسم، وتمسكه الشديد بإسلامه، كانت المواد المطلوبة لبناء المسجد تجلب عن طريق الدير، وكنا فخورين بذلك». وذكر القس ليوبوس أن «الكثير من القساوسة حضروا جنازته إلى جانب الأئمة وعموم المسلمين في فوينيتسا، والبوسنة، وممثلي السلك الدبلوماسي، وكان أكبر عدد من الزيارات لموقعنا الإلكتروني هو لخبر نعي الإمام والحافظ والحكيم الكبير فضيلة الشيخ رامز باشيتش». كما أشاد القس فرانكو بابن الشيخ رامز، الدبلوماسي البوسني أدهم رامز باشيتش، الذي رافقه والقس نيكيتسا، وهو الآخر من فوينيتسا، في رحلة إلى الكويت، وفي الزيارة التي قام بها إليهما في فوينيتسا صحبة السفير الكويتي، محمد فاضل خلف «شعر السفير بالارتياح لما شاهده من مخطوطات عربية، يبلغ تعدادها 35 ألف مخطوطة، وعهد نامة، الذي كتبه السلطان محمد الفاتح للنصارى في البوسنة، يستأمنهم فيه على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأبنائهم، وذلك تزامنا مع ما كان يجري في الأندلس من مذابح ومحاكم تفتيش».

وأشاد القس فرانكو أيضا بالدعوة التي تلقاها لحضور دورة البابطين، التي نظمت في سراييفو في شهر أكتوبر 2010 «كان أدهم رامز باشيتش يترجم لنا، وقد عشنا حدثا لا ينسى، حيث حضر الكثير من الشعراء والكتاب والمفكرين من مختلف أنحاء البلاد العربية، وممثلون عن حكومات ومؤسسات ثقافية دولية كثيرة. وقد وجدنا الأمر مدهشا، فقد تجسدت تحية المسلمين، السلام عليكم، بمعناها الكامل، بشكل لافت في هذا الملتقى».

وكان الدكتور مصطفى تسيريتش، رئيس العلماء وأعضاء من مجلس الرئاسة البوسنية، والوزراء في الحكومة البوسنية بمن فيهم وزيرا الخارجية والداخلية، في البوسنة، وآلاف من الأصدقاء من مختلف أنحاء العالم، قد حضروا جنازة الشيخ رامز باشيتش. وجاء في رسالة العزاء التي بعث بها الدكتور مصطفى تسيريتش رئيس العلماء في البوسنة «بهذه المناسبة أتقدم إليكم بأحر التعازي راجيا الله سبحانه وتعالى أن يتقبل والدكم في الصالحين، ويتغمده بواسع الرحمة والمغفرة وأن يرزقكم الصبر والسلوان».

وكان الشيخ الحافظ رامز باشيتش قد توفي في 10 أبريل (نيسان) الماضي عن عمر يناهز 82 سنة. وقال المحامي أحمد جيليتش لـ«الشرق الأوسط»: «جمعت الجنازة عددا هائلا من المؤمنين، والأصدقاء، والذين يكنون له الاحترام، ولأعماله الجليلة، وقد اشتركت في تشييع الجنازة النخبة السياسية والثقافية في البوسنة والهرسك، في مقدمتهم الدكتور مصطفى تسيريتش رئيس العلماء في البوسنة، وعضو مجلس الرئاسة البوسنية السابق حارث سيلاجيتش، وعدد من ممثلي الديانات الأخرى في البوسنة، وكذلك عدد من المسؤولين الدوليين، من بينهم المندوب السامي فلانتينو انزكو، وهم في غاية الحزن». وتابع «خسرنا رجلا عظيما، وهو الإمام الأكبر في فوينيتسا، الذي قضى عمره في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والتواصل مع الجميع بغض النظر عن انتمائهم العرقي والسياسي والديني وغير ذلك». وقال الأستاذ الجامعي سفيتا بوبوفبتش «لقد بذل قبيل اندلاع الحرب في البوسنة كل الجهد، من أجل حماية السلام، والأمن، والتعايش بين الجميع. وبعد الحرب، اشتهر بالعمل الخيري، وقد عمل بصدق دؤوب، من أجل عودة المشردين إلى ديارهم، خاصة في منطقة فوينيتسا». وأضاف أن «أسلوب حياته، ومواقفه السياسية والاجتماعية وغيرها، خاصة موقفه من الإنسان، مهما كان هذا الإنسان، كانت ملهمة للكثيرين، وبمثابة الدعم القوي الصادق، لمواصلة حياة كريمة وشريفة وراضية».

ولد الشيخ الحافظ رامز باشيتش في 12 مارس (آذار) 1922 في فوينيتسا، وسط البوسنة، وكان والده مصطفى كما يقول، جيليتش «رجلا محترما في المنطقة كلها، فهو العمدة، وكان رجلا متدينا، أرسل ابنه رامز إلى سراييفو من أجل الدراسة، وهناك درس الابتدائية والثانوية، حتى أصبح رجل دولة». ويضيف «تعمق في تفسير القرآن الكريم وكان طوال عمره إماما. لقد اشتهر في البوسنة والهرسك بفضل مواقفه وعلمه وحسن التعامل مع الناس، ونشر مكارم الأخلاق، وفريضة التعليم». ويقول ابنه أدهم «كان يحب دائما تقديم المشورة للآخرين، وهذا ناجم عن فلسفته في الحياة، والمبنية على قول الرسول صلى الله عليه وسلم، الدين النصيحة، وكانت نصائحه بمثابة العلاج الناجع لمشكلات الآخرين حتى فارق الحياة». وتابع «لم يتقبل أي هدية مادية في حياته إلا إذا كانت كتابا»، ومن ذلك ما أسداه من نصائح لصاحب مقهى يبيع الكحول، اشتكى له من الكساد، فأشار عليه بتطهير المقهى منها «نتيجة نصيحة من الوالد، أخرج المشروبات الكحولية من المقهى، ووافق الحافظ على أن يتردد على المقهى وكان له مكان خاص به. وفي ما بعد أخبره صاحب المقهى أمين، بأن ربحه زاد مقارنة بزمن بيع الكحول». وأضاف «قال لنا الوالد، إن من أسعد لحظات حياته يوم حفظ القرآن الكريم كاملا بعد 10 أشهر فقط، ونقل عن محفظه الذي أشرف على تحفيظه قوله: أنا معلمك، عملتك أسمى ما في الوجود وهو القرآن الكريم، وأنت خير طلابي، إذا أنت لا سمح الله لم تحمل القرآن فقها وعملا فسوف يتركك وسوف تكون تعيسا، وأنا أريدك أن تكون مسلما وسعيدا».

أدى الحافظ الحج مع زوجته مريم مرتين، وقبل ذلك وعندما كان شابا أدى الخدمة العسكرية في العهد اليوغوسلافي، وتحديدا في سنتي 1948 و1949، وهناك سجنوه عدة أيام، بسبب رده على عقيد صربي في الجيش كان ينشر الإلحاد بين الجنود.

ومما لوحظ في جنازته، كما يروي أدهم باشيتش، أن المبعوث الدولي فلانتينو انزكوا صلى الجنازة مع المسلمين، ومع سفراء الدول الإسلامية، ولم يقف مع من وقفوا دقيقة حدادا.

وقد كان الجميع يحترمونه ويزورونه ويتبادلون الآراء معه، ومن الدول العربية الكثير من الوزراء والشخصيات، وله أصدقاء في المملكة العربية السعودية، وبعضهم كانوا يزورونه في البيت، من بينهم المهندس يوسف البسام، نائب رئيس الصندوق السعودي للتنمية. ولم يكن الشيخ الراحل إماما وحسب، بل كان مزارعا بارعا «كان مزارعا ويحب الزراعة، مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها». ورحل الشيخ رامز تاركا 3 من الأبناء وابنتين، لكنه ترك أيضا ذكرا حسنا، كما يروى عنه «دائما كان يؤكد لنا أن أكبر وأشرس عدو للإنسان هو الجهل».