المثقفون والإسلاميون والسياقات الجديدة

رضوان السيد

TT

قبل ثلاثة أسابيع نشرت مجموعة من المثقفين المسيحيين اللبنانيين بيانا في صحيفة «النهار» ببيروت، ذهبت إلى أن حركات التغيير الجارية تشكل أملا كبيرا في المستقبل لسائر العرب، مسلمين ومسيحيين، ولذلك فهي تدعو الجميع للانخراط في هذا التغيير الذي يلغي الثنائيات، وينصر مفاهيم المواطنة والحكومة المدنية. وما أعجبت هذا المقاربة الشاعر المعروف أدونيس (علي أحمد سعيد)، فرد على أصحاب البيان، داعيا لهم إلى تجاهل الهويات الدينية جملة وتفصيلا، باعتبار أن العروبة فكرة مدنية بحتة لا بد من الذوبان فيها كلية بعيدا عن أي خصوصية مهما كانت، وعلى وجه الخصوص إذا كانت خصوصية دينية. والواقع أن قول أدونيس بالعروبة ومدنيتها جاءت متأخرة جدا. فعندما كانت العروبة هي الفكرة المدنية السائدة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كان الرجل قوميا سوريا، وكانت العروبة عنده فكرة دينية أو فكرة فاشية. أما بعد ذلك فقد انصرف إلى التنظير للطليعية الثورية في التاريخ والحاضر. فالأقليات عنده سواء أكانت دينية أو إثنية واجهت على طول الخط فكرة الأمة الجامدة، وعملت على التغيير. وينطبق الأمر نفسه على الأزمنة الحديثة والمعاصرة. فالأقليات الطليعية هي التي ينبغي أن تسود وتقود لتحقيق الحداثة وقيادة الجماهير باتجاهها. وقد انصرف طوال العقود الماضية إلى الكتابة في مواجهة الموروث الإسلامي، الذي سد الأفق أمام الدخول في العصر. وكان يلقي محاضرات عامة يحمل فيها على المدن، باعتبارها أساس الجمود، وعلى السقيفة، باعتبارها المؤسس للاستبداد في التاريخ الإسلامي. وعندما نشبت الثورة في سوريا، ما رأى فيها إلا أن المتظاهرين يخرجون من المساجد، وهو لا يحب ذلك، لكنه ما قال لنا أين يمكن لهؤلاء أن يتجمعوا ما دام الفضاء كله مسدودا، كما لم يقل لنا رأيه في ضرب النظام بسوريا للمساجد أيضا، وهو الذي كان يعتبر ثورة الخميني ماجدة لأنها خرجت من المساجد. وهكذا فالرجل عنده مشكلة عميقة مع الأمة التي تستبطن الإسلام والعروبة معا في المجال العربي. وقد أطلت في عرض وجهة النظر الأدونيسية هذه، لأشير إلى ذلك المرض المعدي الذي نال من وعي كثيرين من المثقفين العرب على مدى العقود الماضية، ومنهم من كان يساريا أو قوميا أو قوميا ويساريا في الوقت نفسه. إذ انهمك هؤلاء، وسواء أكانوا من أبناء الأقليات أو من أبناء الأكثرية في التنظير للرؤية القائلة إن الموروث الإسلامي هو مشكلة المشكلات أمام الحداثة. وقد حال هذا الوعي العدمي دون أن يلعب المثقفون العرب أو كبارهم أي دور بنماء في صنع التغيير، لأنهم أرادوا في الأغلب الأعم أمة غير هذه الأمة، ودينا غير هذا الدين. ففوجئوا – ومنهم أدونيس - بهذا الوعي الراقي لدى الجمهور العربي الذي خرج إلى الشارع دونما تفرقة أو فصام بين العروبة والإسلام والحداثة. وإذا عدنا إلى بيان المثقفين المسيحيين في لبنان نجد أن هؤلاء الكهول والشبان إنما أدركوا أن الأمر يحتاج إلى مراجعة عميقة ونقدية، باعتبار أن الجمهور العربي الشاب حقق أو حاول أن يحقق مصالحة مع الذات ومع الغير في الوقت نفسه بعيدا عن الفصامات الدينية والثقافية والسياسية والطليعيات العدمية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وليس هناك شيء ناجز أو مفروغ منه. فهذه عملية زاخرة تقع الآن في بداياتها. وقد حدثت البدايات من دون مشاركة من المثقفين العرب، ويكون عليهم الالتحاق بها إذا أرادوا الإصلاح والنهوض بالفعل.

وعلى الطرف الآخر، طرف الإسلاميين، ما اختلف الأمر كثيرا. فها هو السيد محمد بديع المرشد العام لـ«الإخوان المسلمين» بمصر، يقول قبل أسبوعين إن هزيمتي نظام جمال عبد الناصر عامي 1956 و1967 إنما حدثتا عقابا من الله سبحانه لعبد الناصر لأنه اضطهد «الإخوان المسلمين»! وقد رد عليه عدة شبان من «الإخوان المسلمين» أنفسهم ناعين عليه هذا التفكير الغيبي الذي يفرق الكلمة، ويشير إلى جهل كبير بحركة التاريخ والجمهور. فالإسلاميون الذين يستمتعون الآن ببعض الشعبية بسبب معارضتهم للأنظمة الجمهورية الخالدة، ما كانوا هم الذين بدأوا هذه الحركية التغييرية، وإنما التحقوا بها، وهم يحاولون الآن إقامة التحالفات مع بقايا الأحزاب التي تعايشت مع النظام السابق، ويضربون على وتر الإسلام الذي يواجه تحديات من الشبان المدنيين الذين كانوا أول النازلين إلى الشارع سعيا للتغيير السلمي! فالذي أراه أن هذا «الإسلام السياسي» تعملق على مدى العقود الماضية، إنما برز بسبب خطل الأنظمة، وغياب الشارع العام. وهو إن لم يتغير للتساوق وفتح الأفق أيضا فسيواجه المشكلات نفسها التي واجهها الجهاديون الزائلون، والتي واجهها ويواجهها العلمانيون العدميون الذين يملكون تصورات مسبقة عن الغرب والحداثة، وعن علائق الدين بالدولة، ولا تجد مصداقية في ديارها الأصلية في أوروبا والولايات المتحدة! ليس للعلمانيين العدميين مستقبل في العالم العربي. وهم إبان سطوتهم ونفوذهم إنما كانوا يستندون إلى طليعيات الجمهوريين الخالدين. وحتى عندما كانوا يدعون للديمقراطية، ما كانوا يزعجون الأنظمة، لأنهم كانوا يحيطون الديمقراطية بمحترزات وشروط لن تتحقق في هذا العالم. كانوا يقولون إنه لا ديمقراطية من دون ثقافة ديمقراطية. وهم يعنون بالثقافة الديمقراطية أن لا يمتلك الجمهور مشاعر دينية أو قومية من أي نوع. ولأن هذا الإنسان الفريد غير موجود في العالم العربي، تكون هناك ديمقراطية دون ديمقراطيين! أما الإسلاميون الذين كانوا يتجاذبون مع الأنظمة، فقد اعتبروا العروبة التي كان السائدون يرفعون شعاراتها عدوا للإسلام، لا لشيء إلا لأن المتربعين على الكراسي يدعون الانتساب إليها. ولهذا فإن الأنظمة ما كانت تخشاهم بالفعل ولسببين: أنهم كانوا يعتبرون الديمقراطية كفرا، وأنهم كانوا يعتبرون أنفسهم في صراع مع الأنظمة ومع الغرب معا. فكان الجمهوريون الخالدون يتقربون إلى الغرب بأن وجودهم ضروري، أو يصل للسلطة راديكاليون وإرهابيون يصارعون الغرب، وينشرون الفوضى! ما معنى هذا كله؟ معناه أن مثقفي العرب من علمانيين وإسلاميين، غادروا الجمهور ووعيه وحياته، ففقدوا مشروعيتهم، وتحولوا إلى انشقاقات ثقافية تنتج كثيرا غير مقروء أو غير معتبر. ولذلك ما أسهموا بأي مقدار في التغيير الجاري في العالم العربي اليوم. إنما هناك فرق كبير بين شذوذات العلمانيين، وشذوذات الإسلاميين. إذ كان ضرر العلمانيين محدودا أو قاصرا لقلة تأثيرهم. أما الإسلاميون فقد بقي لهم جمهور لحملهم شعار الإسلام العزيز، وإن شوهوه بنخبويات شديدة الهول والادعاء. ولذا فنحن مطالبون اليوم قبل الغد بالسعي الحثيث لإحداث نهضة تغييرية في الفكر الإسلامي. نهضة تنقد الفكر السائد في الإسلام وعنه، وتنتج فكرا جديدا بريئا من التشوهات ومن الراديكاليات والقطائع والثنائيات. وأول ما ينبغي فعله استعادة الإسلام، باعتباره دعوة ورحمة للعالمين. وباعتباره يملك منظومة قيمية تنشر أخلاق المروءة والكرامة والعدالة والحرية والرحمة والخير العام، في مجتمعاتنا الإسلامية، وبين المسلمين في الغرب، وفي تواصلنا مع العالم الأوسع.

إن مجتمعاتنا التاريخية هي مجتمعات تعددية بغض النظر عن الأعداد ووجوه النفوذ. وها هم الأقباط المصريون يدخلون في عمليات التغيير العام، ويعتبرون أنفسهم جزءا من الجمهور العام، ويتطلعون إلى التساوي في حقوق المواطنة. ولا بد أن يلاقيهم المسلمون بأخلاق دينهم وسماحته ومساواته. ولدى مسيحيي الشام مشكلة في الوعي والتصرف، ما كان المسلمون ولا الإسلاميون مسؤولين عنها. هؤلاء لا بد من ملاقاتهم في منتصف الطريق أيضا، تهدئة للتخوف والتوجسات. فالمستقبل مستقبلنا جميعا، وثقافة الخصوصيات أضرت بنا وبهم، وبنا نحن قبل أن تضر بهم. واشتراطات أدونيس وأشباهه عليهم، هي في الحقيقة اشتراطات علينا نحن أهل الأكثرية الإسلامية. هو لا يقبل منهم أن يكونوا عربا مسيحيين، ولا يقبل منا أن نكون عربا مسلمين. حتى إذا سألنا عن هذا الفهم العدمي للعروبة، عاد معنا إلى الديمقراطية وثقافتها التي لا تتلاءم مع الإسلام والمسيحية معا. وهذه التحديات ليس سببها الوعي الخاص الذي يمتلكه الأقلويون تحت اسم الإسلاميين طوال العقود الماضية، وهي ليست ثقافة وقيم ورؤية القرآن، ولا التجربة التاريخية الإسلامية. فالخلاص من ثنائيات الماضي المنقضي، هو خلاص وتطهر للمسلمين وللإسلام.