جدل الوالي والولي في التجربة الصوفية المصرية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

تعد دراسة التصوف الإسلامي في التجربة التاريخية المصرية من الأهمية بمكان؛ وذلك لصلته القوية بالمجتمع المصري من حيث تنظيمه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وانعكاس ذلك كله على مختلف النواحي الدينية والثقافية والحضارية بشكل عام، وعلى درجة تقدم المجتمع أو تأخره دينيا بوجه خاص.

ورغم ذلك؛ فإن من الملاحظ على الكثير من الدراسات والكتابات الفقهية والفلسفية التي تناولت التصوف المصري في مراحله المختلفة، أنها حصرت جل اهتمامها في دراسة النواحي الفقهية والنظرية بالدرجة الأولى، فظلت بذلك متأرجحة ما بين دراسة أفكار المتصوفة أنفسهم وبيان مدى صحتها أو خطئها، وبين دراسة طرقهم وخانقاواتهم وتنظيماتهم الاجتماعية.

وفي ما عدا بعض الدراسات القليلة جدا التي اهتمت بدراسة النواحي الاجتماعية والسياسية للتصوف؛ خاصة في ما يتصل بعلاقة المتصوفة بالسلطة والمجتمع، وطبيعة تلك العلاقات التي كان لها أكبر الأثر في كثير من شؤون المجتمع المصري الذي عاشوا فيه، وارتبطوا بمنحى صعوده وهبوطه الروحي والحضاري - سلبا أو إيجابا، تأثيرا وتأثرا - بقيت أغلب تلك الكتابات متخندقة بين طرفين: فإما أن تقف مناوئة للتصوف من حيث المبدأ والمنتهى.. وإما أن تقف مُساندًة له من حيث المضمون والأهداف!.. وقد أثر ذلك بصورة سلبية كبيرة؛ لدرجة أن الكتابات التي اتسمت بالاعتدال تكاد تكون عديمة الوجود! وذلك يرجع في المقام الأول إلى خطأ في المنهج الذي يُستخدم، وسيطرة فكر معين على الباحث أو الكاتب قبل البدء في العرض لموضوع الدراسة.

وعلى الرغم من أن المتصوفة - كما صنفوا أنفسهم وكما يتناولهم الباحثون منذ أول وهلة - فرقة دينية في الأساس؛ فإن هذا المدخل الديني، وإن كان صحيحا في مظهره، إلا أنه مخادع وغير كاف لبحث تاريخهم بشكل جاد؛ لأن الحياة التي عاشوها، والأمور التي مارسوها سرعان ما تكشف لنا عن حقائق وأمور جديدة تخرج في تقييمها العام عن هذا الإطار الديني التقليدي.

ولما كان المتصوفة في التحليل الأخير يُكوّنون جزءا كبيرا من نسيج المجتمع المصري بشكل عام، فقد كان لهم دورهم السياسي، ووضعهم الاقتصادي، ومكانتهم الاجتماعية، وإسهاماتهم الفكرية التي لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال، أو التنكر لها.

وأكبر دليل على ذلك أن الطرق الصوفية كانت بمثابة المدارس الروحية التي نشأت في الإسلام من أجل تربية السالكين تربية إسلامية صحيحة، فكل مدرسة من هذه المدارس عُرفتْ باسم مؤسسها، وتنفرد بمنهجها في الإصلاح والإرشاد. وبالتالي؛ فإن أهمية الطرق الصوفية في الإسلام راجعة بالأساس إلى أنها تمثل لنا الجانب العملي من التصوف، وهو جانب ارتبط ارتباطا مباشرا بحياة المجتمعات الإسلامية وجماهير الناس فيها عبر عصور التاريخ المتتابعة.

أما على مستوى علم تاريخ الأفكار؛ فتكاد المصادر التاريخية والدراسات الصوفية تجمع على أن أول من غرس بذور التصوف في مصر هو ذو النون المصري، وأنه قد شاركه في غرسها إبان القرن الثالث الهجري صوفيان آخران لهما مكانتهما العظيمة، وهما: أبو بكر الدقاق المصري، وأبو الحسن بن بنان الحمال.

أما ذو النون، فاسمه ثوبان بن إبراهيم، نوبي الأصل نزل بإخميم من ديار مصر، فأقام بها إلى أن توفي سنة 245 من الهجرة. ويصفه القشيري في رسالته بأنه «فائق في هذا الشأن (التصوف)، وأوْحَد وقته علما، وورعا، وحالا، وأدبا. سعوا به إلى المتوكل، فاستحضره من مصر، فلما دخل عليه ووعظه بكى ورده إلى مصر مكرما، وكان المتوكل إذا ذُكر بين يديه أهل الورع يبكي ويقول: إذا ذُكر أهل الورع فحيهلا بذي النون (أي أسرع بذكره؛ فإنه أفضلهم)».

وأما أبو بكر الدقاق فكان من أقران الجُنيد البغدادي، ومن أكابر رجالات الصوفية في مصر. ومن أبرز أقواله «مَنْ لم يصحبه التقى في فقره أكل الحرام المحض (أي في غناه)». ومما اشتهر عنه في أمر مقاطعته السلطة، أنه تاه ذات مرة في صحراء سيناء لمدة خمسة عشر يوما، فلما وقع على الطريق استقبله جندي، فسقاه شربة ماء، فعادت قسوتها على قلبه ثلاثين عاما! وأخيرا بنان الحمال؛ وهو واسطي الأصل، أقام بمصر ومات بها سنة 316 من الهجرة. ويصفه القشيري أيضا بأنه «كبير الشأن، صاحب الكرامات، سُئل عن أجل أحوال الصوفية فقال: الثقة بالمضمون (الرزق)، والقيام بالأوامر، ومراعاة السر (القلب)، والتخلي عن الكوفيين»!!.. ومن كراماته – في ما ينقل عنه الشيخ أبو علي الروذباري - أنه أُلقي به بين يدي السبع (بأمر من ابن طولون لما اشتد الحمال في تطبيق قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فجعل السبع يشمه ولا يضره! فلما أُخرج، قيل له «ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع؟».. قال «كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السبع (أي في رطوبة فمه: هل هي طاهرة أم لا)؟!».

وبالإضافة إلى ما سبق؛ كان الزهد في الدنيا الملمح الأبرز الذي لمسه المقوقس، عظيم مصر، في حديثه مع عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، بشأن فتح مصر، حين قال له الأخير «إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله، واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلبا للاستكثار منها، إلا أن الله عز وجل قد أحل لنا ذلك، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا طيبا». واستطرد قائلا «وما يبالي أحدنا أكان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلا درهما؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته لليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله، واقتصر على هذا الذي بيده ويبلغه ما كان في الدنيا؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا وأمرنا به نبينا وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء ربه، وجهاد عدوه».

ثم يتوجه إلى المقوقس بالقول «وإنا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)، وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحا ومساء أنْ يرزقه الشهادة وألا يرده إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همّ في ما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه، أهله، وولده، وإنما همنا ما أمامنا».

ليس غريبا إذن، والحال هذه، أن يجيب المقوقس طلب ملك الروم قتال المسلمين بالقول «إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على قوتنا وكثرتنا، وإن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا؛ وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، يقاتلُ الرجل منهم وهو مستقبل، يتمنى ألا يرجع إلى أهله ولا بلده ولا ولده، ويرون أن لهم أجرا عظيما في من قتلوه منا، ويقولون إنهم إن قُتلوا دخلوا الجنة، وليست لهم رغبة في الدنيا ولا لذة إلا قدر بلغة العيش من الطعام واللباس، ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذاتها، فكيف نستقيم وهؤلاء؟!».

وبحسب ما يؤكد كل من الكندي والمقريزي وغيرهما؛ فإن أول ظهور لطوائف الصوفية المصرية على الساحة السياسية كان في نهاية القرن الثاني للهجرة، حين ظهرت في الإسكندرية (سنة 198هـ - 813م) أول جماعة للصوفية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ويبدو أن هذه الجماعة كانت تحيط بعيسى بن المنكدر، الذي وُلّي قضاء مصر في عهد المأمون العباسي، فكانوا يأتونه وهو في مجلس الحكم يشتكون من ضياع الإسلام، فيترك المجلس ويمضي معهم لتفقد شكواهم، ثم لم يزالوا به حتى جعلوه يكتب للمأمون بما لا يرضيه فخلعه على ذلك! ومن هنا؛ فإن من الأهمية بمكان الوقوف على الخلفية التاريخية والسياسية لظهور طائفة الصوفية في مدينة الإسكندرية، حتى يتضح لنا حجم تأثيرهم على الحياة السياسية وانعكاس ذلك على الحياة الثقافية والاجتماعيةِ والاقتصادية المصرية بوجه خاص.

وأول ما يصادفنا في هذا الشأن، ما ذكره الكندي في كتابه «الولاة والقضاة» من أن أهل الأندلس كانوا يأتون إلى الإسكندرية لغرض التجارة، وكان ولاة مصر لا يسمحون لهم بالدخول فيها. بيد أنهم في عام 198هـ لم يأتوا للتجارة كعادتهم؛ وإنما أُخرجوا من أوطانهم مطرودين (وذلك في عهد ملكهم الحكم بن هشام الأموي) على أثر وقعة الربض بقرطبة، فرسا فريق منهم قرب الإسكندرية، وكان عددهم قد جاوز مائة وخمسين ألفا، باستثناء الأطفال والنساء، على نحو ما سنفصل القول فيه لاحقا.

* كاتب مصري