مفتي تونس لـ «الشرق الأوسط»: الدعوة إلى إلغاء الفصل الأول من الدستور تصادم الرأي العام

الشيخ عثمان بطيخ: كان هناك إلى حدود الاستقلال مفتون داخل البلاد يشرف عليهم شيخ الإسلام

الشيخ عثمان بطيخ مفتي تونس يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن وظيفة دار الإفتاء في بلاده («الشرق الأوسط»)
TT

ظل تهميش المؤسسة الدينية، ولا سيما في الإعلام المرئي، قائما في تونس على مدى ما يزيد على 50 عاما، وهو ما أفرز تعددية مرجعية، وكرس نمو أفكار وتوجهات متعددة، طبقا للمصادر المأخوذ منها. إذ إن الحاجة إلى الدين فطرية، وإذا ما أغلقت قناة فالناس يتوجهون بطبعهم لقنوات تشبع حبهم للمعرفة وحرصهم على الالتزام بالدين، بغض النظر عن صحة تلك الأفكار من خطئها بمعايير الإسلام ذاته. وبعد أكثر من 50 عاما من «الاستقلال» وغياب المدارس والمعاهد الدينية، توجد في تونس اليوم جميع التيارات الإسلامية التي استقت مفاهيمها من بعض رجالات الزيتونة، على قلتهم جميعا، والطلبة العائدين من الشرق بعد التخرج، أو الكتب، وفي مرحلة لاحقة الفضائيات الإسلامية، والإنترنت. تهميش المؤسسة الدينية تبعه تهميش دور المفتي في وسائل الإعلام الرسمية، ولا سيما الفضائية التونسية، فالمفتي في نظر البعض لا يسمع عنه التونسيون سوى عبر بيانات مقتضبة في التلفزة الرسمية حول دخول شهر رمضان والعيد، كما أن الكثير من التونسيين لا يعرفون وجه المفتي، ولا رأيه في القضايا الدينية والخلافات الآيديولوجية المرتبطة بالدين والتي سادت الساحة التونسية على مدى يزيد على نصف قرن، لا سيما في فترة حكم الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي.

ماذا عن مفتي تونس، وما وظيفته وما دوره، وما رأيه في القضايا المثيرة للجدل، وهل صحيح ما يقال بشأنه؟.. هذا ما أرادت «الشرق الأوسط» توضيحه للقراء من خلال هذا الحوار مع مفتي تونس الشيخ عثمان بطيخ..

> هناك التباس حول دور المفتي في تونس ووظيفته، بعد هذا التغييب المزمن عن وسائل الإعلام الرسمية والمرئية تحديدا، فهل أزلت هذا الالتباس؟

- بالنسبة لوظيفة المفتي في تونس، فهي تشبه كثيرا المهام الموكولة للقائمين على الإفتاء في البلاد الإسلامية، وكان يوكل إلى المفتي اختيار من يساعدونه من العلماء الراسخين ممن يشهد لهم بالاستقامة والورع، وكان ينتصب للفتوى في المسجد في أوقات الصلاة وبعد الجمعة، وفي مقر عمله إن كان يجمع مع الفتوى القضاء الشرعي، وفي بيته يستقبل الناس ولا يبخل عليهم بما يعلم من دينه متوخيا التيسير ما أمكن، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم «يسروا ولا تعسروا»، وأنه صلى الله عليه وسلم «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما أو قطيعة رحم». وكان في تونس إلى حدود الاستقلال مفتون في داخل البلاد وفي المدن الكبرى يشرف عليهم «باش مفتي»، وهو رئيسهم إلى جانب القاضي الشرعي. وفي حاضرة تونس كان يوجد مجلس شرعي يعرف باسم الديوان يرأسه شيخ الإسلام الحنفي، وتوجد به دائرتان قضائيتان: دائرة مالكية وعليها قاض يساعده عدد من المفتين، ودائرة حنفية عليها أيضا قاض يساعده عدد من المفتين، ولكل دائرة اختصاصها، ويرأس المفتين الأحناف «باش مفتي» حنفي، والمالكية «باش مفتي» مالكي، ثم صار هذا الأخير يلقب بشيخ الإسلام، وهؤلاء جميعهم كانوا من كبار العلماء ومدرسي الجامع الأعظم بتونس، جامع الزيتونة المعمور. وللمجلس الشرعي دوره الكبير في الفصل في القضايا بين المتخاصمين، ويجيب عن المسائل الدينية، إلى جانب وظيفته القضائية. ويتولى المجلس الشرعي أيضا الإعلان عن دخول الأشهر القمرية والمواسم الدينية والعيدين، الفطر والأضحى. وكان رجاله محل إجلال وتوقير وموضع ثقة المسلمين في هذه الديار.

> هذا الوضع كان سائدا قبل الاستقلال، فماذا عن الفترة التي تلت الاحتلال مباشرة؟

- سنة 1956 أزيلت المحاكم الشرعية، وتم توحيد التشريع ضمن مجلات قانونية مختصة، ومنها مجلة الأحوال الشخصية، وأدمج القضاة الشرعيون في المحاكم العدلية.

> هل تغير دور المفتي بعد عام 1956؟

- استحدثت خطة الإفتاء، وسمي صاحب الخطة «مفتي الديار التونسية»، ثم عدلت التسمية، فأصبح مفتي الجمهورية التونسية، وضبطت وظائفه الاستشارية في الإجابة عن أسئلة المواطنين، بمختلف وسائل الاتصال، مباشرة بالحضور، أو المكاتبة، أو المهاتفة أو بالرسائل الإلكترونية. ومن وظيفة المفتي ضبط دخول الأشهر القمرية والأعياد الدينية بالرؤية، مع الاستئناس بالحساب. وقد صدرت لنا فتاوى باللغة الفرنسية منشورة في مجلات طبية وثقافية وسياسية. وللإفتاء علاقة مستمرة بالسادة الأئمة الخطباء الذين يعرضون استفساراتهم لتوثيق المسائل الشرعية. وعلاقة الإفتاء بالمؤسسات الدينية في تونس هي علاقة احترام متبادل وتعاون في حدود الاختصاص.

> هل وُضعت لكم حدود معينة لا تتجاوزونها؟

- نحن لا نتأخر عن الإدلاء بالموقف الشرعي المناسب، ولا نتردد في الصدع بالرأي الصحيح، مثل الفتوى التي صدرت عنا حول استعمال الكاسح الضوئي في مطارات العالم، وما كان لها من الردود المؤيدة ومن الانتشار الإعلامي.

> لماذا إذن يسود اعتقاد لدى الناس بأن دور المفتي يقتصر على الإعلان عن دخول الشهور القمرية فقط؟

- ما ترسخ في أذهان كثير من الناس، من أن دور المفتي شكلي يقتصر على الإعلان عن دخول شهر رمضان وخروجه، هو على خلاف الحقيقة، كما كنت بصدد تبيانه.

> ما هي التغييرات التي تنوون إحداثها على دار الإفتاء بعد الثورة، وكيف تقيمون علاقتكم بالحكومة المؤقتة؟

- بالتوازي مع الجهد اليومي أحاول منذ مدة السعي إلى توسعة الهيكل الإداري للإفتاء، وتنمية مجال عمله، وتوسعة نشاطه، وعسى أن أوفق بعون الله لتحقيق هذه الأهداف أو بعضها بما وجدته في شخص السيد الباجي قائد السبسي الوزير الأول المؤقت (رئيس الوزراء المؤقت) من حسن الإنصات والتجاوب. وقد أكد لي في أول لقاء معه أن عملي مستقل ولا يتدخل فيه أحد، وأن مؤسسة الإفتاء محترمة مقدرة في عملها، وأسوق هذا الكلام من باب الإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه. وأحسن العمل ما كان في صمت لأنه أصدق وأخلص، ويكفينا أننا نلمس مصداقية عملنا من خلال ثقة الناس والمستفتين على وجه الخصوص.

> شهدت تونس أحداثا كثيرة لم نسمع خلالها رأي المفتي بوضوح، ولم نره على التلفزيون، ومن ذلك قضية الحجاب التي لم تشهد انفراجا كاملا سوى بعد الثورة..

- الأحداث الكثيرة التي تعاقبت على بلادنا منذ خمسين عاما أو يزيد، تُظهر يراه البعض تقصيرا من المفتي في الإدلاء برأيه وموقفه من قضايا مثل قضية الحجاب ونحوها، فقد باشر خطة الإفتاء منذ الاستقلال وإلى اليوم سبعة مفتين، عرضت عليهم مسائل عن أحداث شغلت رأي العامة والخاصة، وأجاب كل واحد منهم بحسب اجتهاده. وفي خصوص قضية الحجاب فقد أجاب عنها شيوخنا وأساتذتنا الأجلاء ممن سبقنا، ولا يوجد خلاف في وجوب ستر المرأة لمفاتن جسمها على الصورة الشرعية المعلومة لقوله تعالى «ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن»، ونحن نجيب السائلين عن ذلك كلما عرضوا علينا مسألتهم.

> هناك أيضا قضية مهمة جدا ومثارة من قبل بعض المتزمتين من اللائكيين وهي إلغاء الفصل الأول من الدستور والذي ينص على أن الإسلام دين الدولة..

- الدعوة لإلغاء الفصل الأول من الدستور تصادم الرأي العام في تونس، لأن الشعب التونسي في غالبيته القصوى مسلم مترسخ في ديانته منذ خمسة عشر قرنا هجريا، وتصادم الروح الوطنية التي أبت منذ دستور عام 1959 إلا أن تؤكد هوية تونس كبلد حر مستقل دينه الإسلام ولغته العربية. وقد كتبت في الغرض مقالين نشرا بجريدة «الصباح»، في نطاق ما أتاحته ثورة الكرامة والعزة من مناخ ديمقراطي واسع وحر لتبادل الرأي، من غير أن نتهم أحدا أو نكفره، وهذا مقتضى ما نؤمن به مبدأ وغاية.

> هناك من يرى أنكم كنتم خاضعين للضغوط السياسية في الفترات السابقة..

- أؤكد أن هذا لم يحصل، ولو حصل لانسحبنا من هذه المسؤولية من دون تردد، لأن الأمر مرده إلى الدين لا نحتكم إلى غيره في كل ما نأتيه ونعده. والمطالبة باستقلالية دور المفتي نريدها تأكيدا لحرمة الإدارة، ودعما لعملها وإتاحة إشعاعها وإفادتها للجميع.

> كيف يمكن ترشيد حالة الصحوة الدينية في تونس، مع كثرة المراجع؟

- الوعي الديني في تونس يحتاج منا إلى تعهد بحسن الإرشاد والتوجيه، ولا يتأتى ذلك في رأيي إلا بتخصيص مساحات إعلامية أكبر في قنوات التلفزة والإذاعة، وتمكين من لهم دراية وكفاءة وقدرة على الإقناع من مخاطبة الناس عبر البرامج الدينية وعرض أهم المسائل والإجابة عن كل المشكلات، حتى يستطيع المواطن أن يدرك المعلومة الصحيحة ويميز بين الغث والسمين.

> السؤال السابق نابع أيضا من بعض الخلافات المفتعلة من قبل البعض، ومن لهم علاقة بالوضع السابق داخل المساجد..

- ما سألت عنه مرجعه إلى حالة البلاد عامة وحصول بعض الاضطرابات، وتسير الحالة الآن إلى الاستقرار وعودة الهدوء تدريجيا. وما وقع في عدد من المساجد سببه محاولة البعض فرض قناعاته على الآخرين باستعمال الشدة والعنف في بعض الجهات والمناطق، وهذا مخالف في أصله لروح الدين وأريحية المؤمنين، وما يجب في حق الجميع من التسامح الوجداني والعفو التلقائي. وقد وصلتنا تذمرات من كثير التونسيين ومن كثير من الأئمة، ونصحنا بالصبر وبمدافعة الأمر باللين وبالتي هي أحسن، حتى نئد أسباب الفتنة ونردم بذور الخلاف والصراع.

> في موضوع المساجد هناك شكاوى كثيرة حول الحاجة للترميم، وغير ذلك، هل تدعون لإحياء مؤسسة الوقف في تونس والتي تم إلغاؤها بعد الاستقلال؟

- من الممكن إعادة النظر من جديد في مسألة الأوقاف العامة خصوصا الخيرية منها، كالتي على المرافق العامة، مثل المساجد والمستشفيات والمدارس، وهذه الأوقاف هي من الجهد التطوعي الذي يمكنه توفير الموارد المالية الإضافية وتخفيف العبء الثقيل عن الدولة.

> هل لدار الإفتاء في تونس علاقة بالمجامع الفقهية في الخارج؟

- يشارك المفتي بصفته عضوا في مجمع الفقه الإسلامي بجدة ممثلا لتونس في اجتماعات هذا الهيكل العلمي ذي الصبغة الإقليمية والدولية، ويدلي برأيه الفقهي ويسهم ببحوث علمية ذات علاقة بقضايا المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم، وكذلك يجيب المفتي الدعوات للمشاركة في مؤتمرات ومنتديات داخل تونس، مثل مؤتمر «توحيد الأهلة والأشهر القمرية» الذي نظم في تونس منذ سنتين تحت إشراف منظمة المؤتمر الإسلامي، وخارج تونس في حدود ما تفرضه الالتزامات المهنية.

> كيف تتعاملون مع بعض الغربيين الذين يأتون إلى دار الإفتاء لإعلان إسلامهم؟

- من مهام المفتي تلقي طلبات الراغبين في اعتناق الإسلام من كل جنسيات العالم، ويعلنون إسلامهم في جلسة خاصة، ونهتم بحسن استقبالهم وحسن توجيههم، ونجيب عن تساؤلاتهم بصدر رحب، ونسلم لهم في الغرض شهادة تثبت إسلامهم.

> ما هي مرئياتكم عن دار الإفتاء في تونس؟

- مؤسسة الإفتاء حصن من حصون الإسلام في تونس، ودرع يحمي عقيدتنا ويصون شريعتنا، ونحن على استعداد دائم لتلقي أسئلة الناس من كل مكان في كل ما يعرض لهم من مسائل ومشكلات يرومون معرفة الحل الشرعي لها. وفي الختام أشكر لكم إتاحة هذه الفرصة القيمة، والله أسأل أن يوفقنا جميعا إلى سواء السبيل، وأن يهيئ لأمتنا العربية والإسلامية أسباب وحدتها ونصرتها وعزتها.