وثيقة الأزهر في الإسلام والأديان والدولة المدنية

رضوان السيد

TT

عندما قامت الثورة المصرية قبل خمسة أشهر، أثير غبار كثيف حول موقف الأزهر الشريف وشيخه. بيد أن ما قيل ما كان صحيحا ولا دقيقا. وقد لفت الانتباه موقف الشيخ من محاولات الفتنة بين المسلمين والأقباط، حين بادر إلى إنشاء «بيت العائلة المصرية». وإدراكا من المشيخة لمتغيرات الزمان، فقد كلفت لجنة للنظر في قانون الأزهر رقم 101 الصادر عام 1961. ثم جاء موقفها الحاسم في التوترات التي أثيرت بسبب إحراق الكنائس والأضرحة. وقد تابعتْ بعين الحرص والحذر النقاشات التي جرت وتجري بمصر بشأن طبيعة الدولة ونظامها، وسط صراع الأحزاب الإسلامية والأخرى العلمانية. وهكذا فقد رأت أن تصدر وثيقة بشأن ما تراه في هذا الموضوع والمواضيع الوطنية والعربية والإسلامية الأخرى - والدور الذي يتصوره الأزهر لنفسه وسط متغيرات مصر والعرب والعالم. لقد أنشئ الأزهر مع إنشاء القاهرة عام 359هـ/969م. وكان منذ البداية مكانا لإقامة الصلاة، ومدرسة للتعليم. وقد أقفل على فترات مع تغيرات الدول، لكنه ما توقف على وجه التقريب منذ العصر المملوكي. وهو منذ العصر الأيوبي رمز لمركزية مصر في العالم الإسلامي، وبخاصة لجهتي التعليم والفتوى. فقد توطنت فيه المذاهب الفقهية الأربعة، وصار فقهاؤه مراجع في هذه المذاهب. وكانوا يختارون شيخهم من بينهم، ويحرصون على أن يكون كبيرهم في العلم والفتوى. وكان لأهل الأزهر شيوخا وطلابا مواقف وطنية كبرى في مواجهة الاستعمار، وليس في مصر فقط؛ بل وفي بلاد الشام وفلسطين وتركيا وإندونيسيا والسودان وأحداث أفريقيا الأخرى. وفي أواخر القرن التاسع عشر، وكان قد تكون له مجلس أعلى، حاول الشيخ محمد عبده إصلاح نظامه التعليمي، وصون أوقافه من تحيف الخديو وحاشيته. ورغم ازدياد تدخل الدولة في شؤونه في العصر الملكي وفي عصر ثورة يوليو (تموز)؛ فإن شيوخه ظلوا كبارا وقادة في الدعوة والاجتهاد والانفتاح على المذاهب الإسلامية الأخرى وعلى العالم. ومن شيوخه الكبار في العصر الملكي الشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ مصطفى عبد الرازق، وفي العصر الجمهوري الشيخ محمد الخضر حسين وعبد المجيد سليم ومحمود شلتوت وعبد الحليم محمود، والشيخ أحمد الطيب الآن.

تقول الوثيقة الجديدة الصادرة عن الأزهر إن هذه المؤسسة الكبرى التي تضم ربع مليون تلميذ وطالب وأستاذ، وعشرات الكليات ومئات الفروع، سوف تظل المؤسسة الكبرى للتعليم الإسلامي وللفتوى، ولخدمة الإسلام في المجتمعات العربية والإسلامية الأخرى. ففي مصر اليوم مائة ألف إمام ومدرس دين من معاهد الأزهر وكلياته. وعنده أكثر من ثمانين بعثة في أنحاء العالمين العربي والإسلامي، وفي أوروبا وأميركا وأستراليا، فضلا عن مراكز الدعوة والثقافة والبحث. ولا شك أن هذا الجسم الضخم يحتاج في زمن التغيير هذا إلى إعادة تنظيم وتوجيه وإطلاق، ولذلك طلبت المشيخة وضع قانون جديد للأزهر يحل محل القانون الذي أصدرته ثورة يوليو عام 1961.

بيد أن متطلبات الزمن الجديد تحتاج إلى أكثر من ذلك ليس في الشكل، بل في المضمون. ففي نصف القرن الأخير سادت حركة الصحوة التي برزت في سياقها جماعات حزبية إسلامية، منها الإخوان المسلمون ومنها السلفيون ومنها الصوفية والجماعة الإسلامية.. إلخ. وكل هذه الحركات (وبخاصة «الإخوان») يملكون تصورا ومشروعا لدولة دينية أو إسلامية تطبق الشريعة. بيد أن هذه الحركات الآن شكلت أحزابا، وتريد العمل في العلن ومن خلال المؤسسات. ويظهر «الإخوان» أو شبابهم أكثر من غيرهم اهتماما بمسألة المواطنة والدولة المدنية. أما السلفيون (الذين شكل بعضهم حزبا أيضا)، فيظهرون اهتماما أكبر بملاحقة الأقباط، وبالتصدي للأضرحة والمزارات، وبعدم القبول بالمواطنة والمساواة أمام القانون. أما الجماعة الإسلامية، التي مارست العنف لعشرين عاما ثم أصدرت مراجعات؛ فإنها حائرة بين ممارسة العمل السياسي بشروط الدولة، أو البقاء في نطاق الدعوة. وما كانت للصوفية اهتمامات سياسية بارزة، لكن احتكاك السلفيين بهم جعلهم يظهرون اهتماما بحماية أنفسهم من طريق المشاركة في العمل السياسي. وقد استعرضت توجهات هؤلاء جميعا، لأصل إلى أنه كان من الضروري أن يوضح الأزهر التوجه الصحيح الذي يتصور من خلاله دور الإسلام ودوره هو. ولذلك فإن الوثيقة تصحح القول بالدولة المدنية، وبالمواطنة المتساوية أمام القانون وفي ظل الدستور. أما المرجعية التي تتحدث عنها المادة الثانية في الدستور فهي المبادئ الكلية للشريعة، والتي تكون المصدر الأساسي للتشريع، وتضمن للمسيحيين الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية. فالدولة بمصر بحسب وثيقة الأزهر هي دولة وطنية دستورية ديمقراطية، تشترع دستورا بالتوافق والاستفتاء، وهو دستور يقول بالفصل بين السلطات. وهي تقصد بالنظام الديمقراطي الذي يدير الشأن العام أن يقوم على الانتخاب الحر، وحكم القانون وتداول السلطة، واحترام الأديان السماوية وحرية العبادة، واعتبار المواطنة مناط المسؤولية في المجتمع. والطريف أن علماء الأزهر في وثيقتهم وأحاديثهم يختلفون في الرأي بشأن المسار الديمقراطي عن «الإخوان» والسلفيين. فقد قال «الإخوان» إنهم يفضلون إجراء الانتخابات، ثم يضع مجلس النواب الجديد دستورا جديدا. ويريد ائتلاف شباب الثورة أن يوضع الدستور قبل الانتخابات، وأن تجري الانتخابات على أساس منه. أما الأزهريون فيريدون إقرار مبادئ عامة أو وثيقة دستورية قبل الانتخابات؛ وبذلك فإنهم يقتربون أكثر من الشبان المدنيين. ومع أن «الإخوان» بخلاف السلفيين أظهروا تعاونا مع الأزهر؛ فالمرجح أن تزعجهم وثيقته التي تقول علنا بالدولة المدنية الديمقراطية، وبسلطة الشعب، وبالتساوي بين المسلمين والأقباط في الحقوق والواجبات من خلال مبدأ المواطنة.

سمى الدكتور عبد المعطي بيومي الوثيقة الأزهرية مشروعا نهضويا. والواقع أن أول واجبات رجال الفكر الإسلامي الآن ليس الانصراف إلى الانغماس في العمل السياسي باسم الدين، ولو كان هذا الانغماس منفتحا، بل المطلوب المشروع النهضوي الإسلامي، وتجديد منظومة القيم الإسلامية؛ بما يصحح الفتوى، ويؤثر في مناهج التعليم، ويصنع دنيا جديدة للمسلمين في تجاوز للانقسامات العقدية والفقهية والسياسية. إن لدينا الآن إذا صح التعبير إسلامين: إسلام تقليدي إصلاحي، هو السائد في المؤسسات الدينية الرسمية وشبه الرسمية. وإسلام صحوي حزبي، هو السائد في اعتقاد الجماعات الإسلامية وممارساتها. ويحظى الإسلام الصحوي والحزبي بشعبية بين جمهور الشباب. بيد أن حركات الشباب غير الحزبية، أظهرت أن الكثرة الكاثرة من الشباب المدنيين ليست حزبية ولا صحوية رغم تدين أكثرهم. وإلى الصحويين وغيرهم ينبغي أن يتوجه الفكر الإسلامي النهضوي الذي يريد المصالحة مع النفس والآخر، ويأبى الفصاميات والانقساميات ويرفضها. وصحيح أن هذا الكلام عام، لكنه ينطلق من أصول واضحة. فمهمة مؤسساتنا الدينية ليست الاستيلاء على إدارة الشأن العام بحجة أننا الأعلم والأدرى بالشريعة، أو لأن الإسلام يملك مشروعا سياسيا لا يستقيم الدين من دونه. فالإسلام نفسه عندنا نحن «أهل السنة والجماعة»، يقول بإدارة الجماعة لشأنها العام، القائم على إدراك المصالح من جانب الجمهور، والقائم في التطبيق على التوافق بين الناس وسوادهم الأعظم أو إجماعهم. أما الدين الذي يتضمنه مفرد «السنة»، فيعني الاعتقاد ويعني الدعوة ويعني منظومة القيم التي تحكم المسلمين أفرادا وجماعات في التفكير والتصرف، وهي قائمة على الإيمان والمساواة والكرامة والرحمة والعدل والخير العام. فالإيمان بحسب القرآن يقتضي العمل الصالح. والعمل الصالح تحكمه هذه القيم الكبرى التي تؤثر بالطبع في حال انتظامها وفعاليتها في الجماعة، وبالتالي في الشأن العام.

إن وثيقة الأزهر الجديدة بشير بانطلاقة صحيحة، تخرج هذه المؤسسة العريقة من التجاذب السابق بين النظام ومعارضيه، وتقيم نفوذها وفعاليتها على مجتمع المؤمنين والمواطنين الأحرار، الذين يعتبرون الأزهر مؤسستهم الدينية الكبرى، ويعتبرون إدارة شأنهم العام حقا لهم بوصفهم مواطنين مصريين أو إندونيسيين أو سوريين، وليس بوصفهم مسلمين أو مسيحيين. لن ينهمك الأزهر في العمل السياسي، لكنه سيظل حاضرا وحاضنا في الشأن الوطني والقومي والإسلامي العام. وهذا هو منطق الوثيقة، وهذه هي أهميتها.