من «كايروس جنوب أفريقيا».. إلى «كايروس فلسطين»

إميل أمين

TT

من بين أهم الوثائق الفلسطينية التي صدرت في الأعوام القليلة الماضية تأتي وثيقة «كايروس فلسطين» تلك التي لم تنل حظها، على أهميتها الفائقة، من التغطية الإعلامية العربية.

وكايروس فلسطين هي عبارة عن نداء إنساني، موجه من مسيحيي الأراضي المقدسة إلى العالم بأجمعه، خاصة المسيحي منه، في طريق النضال الذي طال زهاء ستة عقود ونيف، وهم في هذا جزء من تلك الأرض، كما أنهم قاسم مشترك في مشروع الكفاح الفلسطيني الساعي للتحرر وإقامة الدولة، سواء كان هذا النضال عن طريق المقاومة والكفاح أو عن طريق المفاوضات، لأنها أيضا نضال.

وتشير محطات التاريخ المختلفة إلى كيف أنهم وقفوا بجانب إخوانهم المسلمين في دفاعهم عن هذه الأرض، وقدموا من الشهداء الكثيرين.

ففي الحادي عشر من ديسمبر (كانون الأول) من عام 2009، وفي احتفال شعبي مهيب، وبحضور حشد غفير من رجال الدين والوزراء والسياسيين والبرلمانيين، ورؤساء البلديات وشخصيات إسلامية ومسيحية، أطلقت مجموعة من كبار رجال الدين المسيحي من الفلسطينيين صرخة مدوية ترفض الظلم والعبودية الواقع تحتهما الشعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه.. ماذا تعني كلمة «كايروس» في بداية الأمر؟

هي كلمة مأخوذة من اللغة اليونانية القديمة، وتعني هذه اللحظة من الوقت، والقصد من وراء استخدامها هو لفت انتباه العالم إلى أن الوقت قد حان للعمل من أجل السلام العادل والشامل، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، المسبب الأساسي لمعاناة شعوب المنطقة.

والشاهد أن الذكاء الاجتماعي لمسيحيي الأرض المقدسة كان في اقتباس تلك الفكرة من نموذج «كايروس جنوب أفريقيا»، وهي وثيقة مشابهة كتبت في عام 1985 في سويتو بجنوب أفريقيا وبتوقيع أكثر من 150 من قادة الكنيسة هناك، وقد دعت إلى العصيان المدني، والنضال لأجل الحرية والعدل، وقد أثارت تلك الوثيقة ردود فعل قوية وجدالات عميقة وجادة، في مختلف كنائس العالم، ونجحت كونها إحدى أهم الأدوات التي أسقطت نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، حيث أدان الموقعون عليها نظام الفصل العنصري، وهذا ما سمح بعودة المؤتمر الوطني الأفريقي بعد تسلم دي كليرك الحكم عام 1989، ووضعت نهاية لهذا النظام الظالم، بعد انتخابات عام 1994، التي جاءت بالزعيم نيلسون مانديلا رئيسا لجنوب أفريقيا.. لماذا نتذكر الوثيقة اليوم بعد مرور عام ونصف العام على صدورها؟ قبل الجواب ربما يتحتم علينا أن نتساءل ما الذي كانت ولا تزال تبغيه «كايروس فلسطين»؟ عبر قراءة مدققة محققة نتلمس أنها صرخة حق لكل صاحب ضمير حي حول العالم، تلفت النظر إلى المعاناة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون، وبهذه الروح تطالب الوثيقة المجتمع الدولي بوقفة حق تجاه ما يواجهه الشعب الفلسطيني من ظلم وتشريد ومعاناة وتمييز عنصري، وهي معاناة مستمرة تحت سمع وبصر المجتمع الدولي الصامت والخجول في نقده لدولة الاحتلال.

ولعل أهم ما يميز تلك الوثيقة أنها تفضح الزيف الذي لحق بالدعاوى الرئيسية لقيام دولة إسرائيل، التي حاول أصحابها الربط القسري والجبري بين المشيئة الإلهية وقيام تلك الدولة على حطام وجثث أبنائها من العرب، ولهذا تكتسب الوثيقة حضورا وزخما لاهوتيين غاية في الأهمية في مواجهة تيارات الزيف الديني من عينة «اليهو - مسيحيين» والصهاينة الجدد.

تؤكد الوثيقة على الفلسطينيين المسيحيين، وفي هذه الوثيقة التاريخية يرون أن «الاحتلال العسكري لأرضنا هو خطيئة ضد الله والإنسان، وأن اللاهوت الذي يبرر هذا الاحتلال، هو لاهوت تحريفي، وبعيد جدا عن التعاليم المسيحية، حيث إن اللاهوت المسيحي الحق هو لاهوت محبة وتضامن مع المظلوم، ودعوة إلى إحقاق العدل والمساواة بين الشعوب».

والشاهد أن اللغة الراقية المكتوبة بها الوثيقة، هي خير دليل على أن العرب شعوب عقلانية غير همجية أو بربرية كما تروج إسرائيل، إذ تخلو المفردات من العنف وتباعد كثيرا عن سفك الدماء، كما أنها وليدة فكر عقلاني ووعي فلسطيني ذاتي، وليست نتاج مصادفة قدرية أو موضوعية.

والشاهد أن «كايروس فلسطين» ليست دراسة لاهوتية فكرية أو ورقة سياسية فحسب، بل هي وثيقة إيمان وعمل تنبع أهميتها من تعبيرها الصادق عن هموم هذا الشعب ومن رصدها للمرحلة التاريخية التي تمر بها القضية الفلسطينية، ومن نبويتها في طرح الأمور كما هي ومن دون مواربة، ومن جرأتها في طرحها للحل الذي سيؤدي إلى السلام العادل والدائم، ألا وهو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية وكل أنواع التمييز العنصري.

وهي نداء لإسرائيل نفسها، لتعي الظلم الذي تفرضه على الفلسطينيين فتضع حدا له، وهي مطالبة للشعوب والقادة السياسيين وأصحاب القرار للضغط على إسرائيل، واتخاذ الإجراءات القانونية لإنهاء تسلطها واستهتارها بالشرعية الدولية، وتعلن الوثيقة موقفها بأن المقاومة غير العنفية لهذا الظلم هي حق لجميع الفلسطينيين وواجب عليهم.. كيف رأت إسرائيل هذه الوثيقة؟

كان من المؤكد أنها ستفقد صوابها، لأنها مجابهة بلغة عالمية من الرقي والإنسانية، لغة أسهمت من قبل في إسقاط نظام «الارباتهيد»، وكفيلة، حال وصولها لقلوب وعقول العالم، أن تسهم في توضيح صورة الاحتلال في عيون المجتمعات الغربية، التي يطلق عليها، جوازا، مسيحية، ولا أحد يشكك، أو يزايد، في أصحابها وأهدافهم من ورائها.

كان أول المنتقدين للوثيقة اللوبي الصهيوني المختبئ خلف ما يسمى بالسفارة المسيحية بالقدس، حيث قام مدير هذه السفارة بالتهجم على الوثيقة وبعض كاتبيها، ولحقه في هذا بعض المأجورين الذين يدعون تمثيلهم لبعض المؤسسات المسيحية في الهجوم عليها.

إسرائيل كذلك عمدت إلى تفعيل إجراءاتها العقابية عبر تقليص تراخيص دخول رجال الدين الكاثوليك إلى أراضيها بعد الوثيقة، وقدم دبلوماسيون إسرائيليون شكوى مباشرة إلى الأمانة العامة لدولة الفاتيكان للضغط على الرهبنة الفرنسيسكانية في الأراضي المقدسة واتهامها بكتابة الوثيقة.

وثيقة «كايروس فلسطين» قدمت في التاسع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على هامش مجمع الأساقفة الخاص بكنائس الشرق الأوسط في الفاتيكان، من قبل بطريرك اللاتين الشرفي في القدس، ميشال صباح، والمنسق الوطني لحركة «باكس كريستي» الإيطالية، الأب ناندينو كابوفيلا، الذي قال إن هذه الوثيقة تسبب الإزعاج لأنها تمثل لحظة صدق، فعندما يتم استخدام كلمة الصدق هذه لنقل حقيقة الاحتلال العسكري الإسرائيلي الذي يستمر منذ ستين سنة يكون الأمر مرفوضا تماما، على حد تعبيره.

أما سفير دولة إسرائيل لدى الكرسي الرسولي (الفاتيكان)، مردخاي ليفي، فقد اعتبر أن وثيقة «كايروس فلسطين» بمثابة دعاية مناهضة لإسرائيل.

والمثير في الأمر وما يفضح الازدواجية الأخلاقية لدى بعض حكومات الغرب، هو ما صدر عن الحكومة الكندية، بحرمانها مؤسسة كندية تحمل اسم «كايروس كندا» مبلغ سبعة ملايين دولار، ظنا منها أنها مرتبطة بكاتبي الوثيقة الفلسطينية.

وعودة إلى السؤال المتقدم: ما الذي ذكّرنا بـ«كايروس فلسطين»؟ تلك الوثيقة التي لم يعطها الإعلام العربي حقها في التغطية على أهميتها، في حين شكلت سلاحا مقاوما لا عنفا أزعج إسرائيل كما تقدم؟

السبب هو قيام مجموعة من الموقعين على الوثيقة مؤخرا بزيارة إلى جنوب أفريقيا، ولقاء أصحاب وثيقة «كايروس جنوب أفريقيا»، وتبادل الخبرات بين جماعة ذات محنة إنسانية كانت قائمة، وأخرى لا تزال مأساتها مستمرة، بل ومقبلة.

في نهاية الزيارة صدر عن الأب موسى نثلا، المتحدث باسم «كايروس جنوب أفريقيا»، بيان من ست نقاط، عبروا فيه عن آرائهم تجاه القضية الفلسطينية، نجملها باختصار غير مخل في الآتي:

1 - إن احتلال فلسطين هو الشر الذي ينبغي مقاومته كالتزام عقائدي وإيماني، واعتبار أن المبرر اللاهوتي المسيحي لهذا الاحتلال على أساس الصهيونية ما هو إلا بدعة محضة.

2 - اعتبار الآيديولوجية الصهيونية آيديولوجية عنصرية، وأن دولة إسرائيل هي دولة فصل عنصري، حيث إن شعب جنوب أفريقيا يرى أن التشابه بين حالته في ظل الفصل العنصري وحالة الشعب الفلسطيني في الوقت الراهن تشابه واضح باعث على الألم والحسرة.

3 - مواجهة سلبيتنا وتواطئنا في المظالم الواقعة ضد الفلسطينيين، حتى إن كانت من خلال الصمت والجهل واللامبالاة السائدة بشكل كبير في مجتمعنا.

4 - تحدي مجتمعنا وحكومتنا والأحزاب السياسية ومجتمع الأعمال والمجتمع المدني والكنائس والمجتمع المسيحي بشكل عام حول تواطئهم وصمتهم في هذا الشأن.

5 - الوقوف وقفة تضامن مع الشعب الفلسطيني في التزامه نحو مقاومة سلمية ضد الاحتلال، وفي هذا الشأن نؤيد بقوة حملة مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض عقوبات عليها.

6 - الترويج لمدونة سلوك أخلاقية حول الزيارة الدينية والسياحة في الأراضي المقدسة.

وينهي البيان بالقول: «نحن نتحدى ضمائر جميع الذين يدعمون الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ونقول لهم: هذا التغيير ممكن حدوثه».

كذلك، وفي الوقت الذي نرفض فيه الصهيونية كحل حصري عنصري في الأراضي المقدسة، نصلي من أجل تحقيق سلام عادل وشامل لتسود فيه الكرامة والمساواة بين جميع ساكنيها.

ومما لا شك فيه أن موقف «كايروس جنوب أفريقيا» الأكثر من رائع تجاه «كايروس فلسطين» يترك في الحلق غصة، وعلى اللسان مرارة تجاه حالة «التيه العربي»، التي تعيشها شعوب المنطقة، لا سيما في هذا الوقت الحاسم والمفصلي الذي تستعد فيه إسرائيل لـ«أيلول» جديد، نأمل أن يكون «أبيض» على العرب هذه المرة، وعلى القضية الفلسطينية على نحو خاص، «أيلول» تعلن فيه دولة فلسطينية مستقلة، حتى ولو كان «الفيتو الأميركي» خلف الباب رابضا متشوقا لإبطال مفعول قيام دولة المظلومين في الشرق الأوسط.

«العربي التائه» اليوم، ومن أسف لم يعر في إعلامه أو محطاته التلفزيونية الدعائية العلانية التي تجاوزت السبعمائة آية التفاتة إلى هذه الوثيقة، وفشل في طرحها على الرأي العام العربي أو الدولي، وهي التي يمكن، حال تفعيلها، أن تزعزع أركان إيمان الكثيرين في الغرب من المؤمنين بحتمية ومطلقية «نشوء وارتقاء الدولة العبرية»، في حين تزخر برامجه بقضايا لا حصر لها تسطح العقل وتطفئ جذوة المقاومة الإنسانية العقلانية.

جنوب أفريقيا تعطينا أنموذجا إنسانيا خلاقا مبدعا غير مسبوق في كفاحها، ونحن عنها غافلون.. وفي وقت نحن فيه أحوج ما نكون إلى رفع قضية عادلة في أعلى عليين، حتى يراها الناس من مشارق الأرض إلى مغاربها بلون مغاير، فإذا كانت آلة الإعلام الصهيونية قد نجحت في تقديم القضية الفلسطينية على أنها قضية إرهاب أصولي إسلامي في مواجهة اليهود، فإن صرخة مسيحيي فلسطين تبطل تلك الدعوى، وفي هذا التوقيت بالذات، حيث بدأت كثير من المؤسسات المسيحية في الغرب في التخلي عن دعمها التقليدي لإسرائيل.

وحتى لا نكثر من البكائيات؛ ألا يحق لنا أن ندعو جامعة الدول العربية لتكريس بعض من جهودها في الأشهر القليلة المقبلة للترويج لهذه المبادرة في الغرب الأوروبي والأميركي واللاتيني، حتى لا نقف وقتذاك خلوا من مناصرين حقيقيين، مما يكفر عن نسيان هذه الوثيقة أو تناسيها عن وعي أو عن مصادفة؟

* كاتب مصري