باحث بوسني: الأوقاف تعرضت لعملية تدمير ممنهج لإضعاف المجتمع المدني

نوركيتش: في ثلاثينات القرن الماضي صودر 1646 وقفا كان يمول 968 مشروعا

TT

سلط الباحث البوسني، ياسمين نوركيتش، الضوء على قضية الأوقاف في بلاده، وذلك في مؤلف أعده حديثا تناول فيه «الوقف في وسائل الإعلام» معتبرا ما أولاه الإعلام لهذه القضية، لا يرقى لأهمية الوقف، في معالجة المشاكل الاجتماعية دون إثقال كاهل الدولة، لا سيما في الظروف الاستثنائية، في معالجة الأزمات، وإدارة المجتمع المدني. وقال في لقاء مع «الشرق الأوسط» «عكفت لمدة 4 سنوات على متابعة وسائل الإعلام، وتناولها لقضايا الأوقاف، لكن ما عثرت عليه، يبعث على الرثاء، إذ إن الصحافيين وكثير من رجالات المجتمع المدني، لم يدرسوا الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للأوقاف، ولا ما كانت تقوم به من تمويل ورعاية المستشفيات، والمدارس، ودور الأيتام، والمطاعم الخيرية وغيرها» وتابع «للأسف هناك أراض شاسعة في البوسنة تم الاستيلاء عليها، بعد مؤتمر برلين 1878 وانحسار ظل الخلافة العثمانية، فقد مرت عملية الاستيلاء على الأوقاف بمراحل متعددة في العهود الماضية، ومنها العهد النمساوي الهنغاري، وعهد المملكة الصربية الكرواتية السلوفينية، وعهد المملكة اليوغوسلافية، ثم يوغوسلافيا الاتحادية، التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، وعندما قامت الدولة البوسنية في سنة 1992 لم يبق من الأوقاف سوى 5 في المائة لا تستطيع الإيفاء بمتطلبات المرحلة، فهناك 6 مدارس إسلامية، وأكثر من مليون مهجر، وأوضاع اجتماعية متفاقمة، وكان بإمكان الوقف أن يساعد في حل الكثير من المشاكل بل المعضلات، لو لم يتم تدميره والقضاء عليه، لأنه قام على مبدأ إسلامي». ويضرب نوركيتش، مثلا، بسراييفو، التي كانت ثلاثة أرباعها أملاك وقف، ومع ذلك لا نجد سوى 186 مادة عن الأوقاف في جريدة «أفاز»، و35 في «بريبورود»، و33 في «أسلوبوجينيا»، وذلك في الفترة ما بين سنة 2000 و2003 وهي الفترة التي شهدت بدء معارك الأوقاف التي لا تزال مستمرة حتى اليوم» ويشير الباحث نوركيتش، إلى أن «سراييفو على سبيل المثال، بنيت من أملاك الأوقاف، ومنها أوقاف عيسى بك إسحاقوفيتش، وأوقاف الغازي خسرف بك، وما نشاهده من دكاكين، وأسواق مسقوفة، وقناطر، وجسور، وشبكات المياه، وثلاثة أرباع مساكن سراييفو، جميعها كانت ملكا للأوقاف، فضلا عن الأراضي الزراعية التي انتزعت من الأوقاف وسلمت لمقربين من السلطات المتعاقبة منذ مؤتمر برلين وحتى العهد اليوغوسلافي السابق، كما أسلفنا».

وعن بداية العدوان على ممتلكات الأوقاف، التي كانت تمثل سندا مهما للدولة، ومؤسسة فاعلة على صعيد تغذية وحفظ المجتمع المدني، دون حاجة للتدخل المباشر للدولة في كل شيء، ولا سيما القضايا الاجتماعية الملحة، والتي تلمسها مؤسسة الأوقاف، وقد لا تحيط بها الدولة، قال «في سنة 1918 قامت سلطات الاحتلال النمساوية بمصادرة، 4 ملايين دونم، من الأراضي الخصبة التي كانت ملكا للأوقاف، ثم مصادرة 12.5 مليون دونم من الأملاك الخاصة بالمسلمين، ومن أشهر الأوقاف، أوقاف غورني، والتي تعرف اليوم باسم غورني فاكوف، ودوني فاكوف، وأوقاف سانسكي موست، وأوقاف كولن، وغيرها».

ويعرف نوركيتش الوقف بأنه مؤسسة تنبثق «من هبة إنسانية هدفها الاستجابة للحاجيات المتبادلة والعامة في الشؤون الدينية والتربوية، وفي التضامن الإنساني، والحياة الاجتماعية» فعن طريق الوقف «يسخر واهبه جزءا كبيرا من ممتلكاته، وأحيانا ما يملك لأجل النفع العام. ويأتي المسجد في مقدمة الأوقاف فهو وقف للصلاة والعبادة والتربية الروحية والاجتماعية والسلوكية والتعامل مع الآخر، وهو من أهم مؤسسات المجتمع، لأنه يساهم مساهمة جذرية في صنع الإنسان، أو أهم مؤسسة لما يعرف حاليا بمقولة الاستثمار في الإنسان أهم استثمار». وأردف «فإلى جانب وظائفه الدينية له وظائف اجتماعية (جمع التبرعات) ووظائف سياسية، لا سيما أثناء التعبئة العامة، وعلى كافة الأصعدة».

علاوة على ذلك «ونظرا لمركزية المسجد في الحياة الإسلامية، فإنه غالبا ما يكون نواة لتجمع عمراني، تمثل المدرسة رافده الثاني، والمستشفى رافده الثالث، ودور الأيتام رافده الرابع، والمطعم الخيري أو( المطبخ الخيري كما يسمونه في البلقان) رافده الخامس، حيث يؤدي دورا كبيرا في إطعام الفقراء والمساكين والعاطلين عن العمل. وفيما مضى كانت هناك فنادق خيرية أو بيوت استراحة للمسافرين وعابري السبيل، ولكنها الآن اختفت تماما».

ورغم العدوان على الأوقاف إبان الاحتلال النمساوي للبوسنة، فإن عدد الأوقاف في البلاد «بلغ سنة 1938، أي قبيل الحرب العالمية الثانية، 1647 وقفا، تمول 968 مشروعا، بين مستشفى، ومدرسة، وأوجه اجتماعية أخرى ككفالة الأيتام، ومنح رواتب للفقراء، وفي سنة 1955 صادرت السلطات الشيوعية من الأوقاف 3197 دونما (الدونم ألف متر مربع) وقبل ذلك وتحديدا في سنة 1947 تم مصادرة 80 مقبرة للمسلمين والبناء فوق أديمها وبلغت مساحة تلك المقابر 310 دونمات، وفي فترة الإبادة الأخيرة بين 1992 و1995 تم تدمير 832 مسجدا من بينها جامع الفرهادية الشهير في بنيالوكا والذي فجره الصرب يوم 7 مايو (أيار) 1993».

لكن ما يلفت النظر في البلقان اليوم، هو جعل أوقاف استثمارية للمدارس الخيرية والمساجد وغيرها من المشاريع الإسلامية. وأصبح المشروع الاستثماري الخيري جزءا لا يتجزأ من الوقف الأصلي، كالمدرسة والمستشفى أو المستوصف أو ما شابه ذلك. ويلاحظ المرء ذلك في البوسنة والسنجق وكرواتيا ومقدونيا وألبانيا. حيث تخصص إدارات الأوقاف الطابق السفلي من مشروع الوقف الخيري، للأعمال التجارية، سواء عن طريق اضطلاعها بالنشاط التجاري مباشرة، أو عرضها للكراء على من يرغب في ممارسة نشاط استثماري، تعود فوائده على تلك المرافق في الدور العلوية. وهذا ما لاحظته «الشرق الأوسط» في توزلا (120 كيلومترا شمال سراييفو)، حيث تم تخصيص الطوابق السفلى للأنشطة التجارية كبيع المواد الغذائية أو المطاعم أو المقاهي وغيرها، بينما خصصت الطوابق العليا للدراسة. وقال الشيخ حسين كفازوفيتش مفتي توزلا لـ«الشرق الأوسط» «لو تم تطبيق نظام الوقف كما هو منصوص عليه في الشريعة الإسلامية كما يجب لما كان هناك محتاج واحد في العالم الإسلامي». وتابع «الأوقاف تؤدي دورا كبيرا في عملية تمويل الأنشطة الثقافية ونحن نتمنى أن تكون هناك في المستقبل أوقاف للنشاطات الإعلامية مثل أن يكون لمجلة وقف أو محطة تلفزيونية وقف خاص بها حتى تستمر»، ومن شروط الإيجار في مباني الأوقاف أن لا يبيع المستأجر المحرمات مثل الخمر أو ما شابهه، ويعتبر أي إخلال بتلك الشروط من أسباب فسخ العقد. وفي السنجق تم بناء جامعة كاملة، مع أوقافها، وكذلك في زغرب حيث يوجد بالمسجد الكبير صالات للإيجار ومطعم وعدة مرافق استثمارية لتمويل المسجد والمستوصف والمدرسة الإسلامية. ورغم أن عائدات بعض المرافق لا تغطي كل النفقات فإنها تساهم مساهمة فعالة في بناء مجتمع مدني يحمل خصائص التاريخ واستحقاقات المستقبل، مرورا بضرورات الحاضر.