المتصوفة ومحنة القول بـ«خلق القرآن»

TT

تطلق «المحنة» في اللغة ويقصد بها الخبرة، يقال: محنته وامتحنته، بمنزلة خبرته واختبرته، وبلوته وابتليته. وأصل المَحْنِ: الضرب بالسوط! والمحنة: هي أن يأخذ السلطان الرجل فيمتحنه ويقول له: فعلت كذا وقلت كذا، فلا يزال به حتى يقول ما لم يفعله، أو ما لا يجوز قوله! كما تعني المحنة، عموما، كل شدة يتعرض لها المرء من مرض ونحوه، إلا أنها حين تطلق مقترنة بلفظة العلماء أو المتصوفة أو أي جماعة فكرية أو دينية، إنما يُقصد بها الاضطهاد الذي يلحق بهؤلاء من قِبل ذوي النفوذ والسلطان، بغض النظر عن حجمه: إهانة كان، أو تأنيبا، قتلا كان أو تعذيبا.. إلخ.

هذا، وتتوزع أخبار المحن بين ما يسمى بـ«أدب المحن»، الذي يكون غالبا ذا طابع أسطوري ملحمي، وأيضا في «أدب المناقب»، وعالم الأساطير الشعبية. فالبطل الممتَحن عادة ما يكون خارقا لدرجة أنه يتحمل ما لا يطيقه إنسان، وهو بمفرده يجابه قوى الشر والطغيان، يحارب السلطة التي تحْرم الشعب من قوته والعامل من إنتاجه والمفكر من فكره، وإن كان النوع الأخير يعتمد اعتمادا كليا على الخيال، فإن ذلك لا ينفي عن أدب القصص والملاحم أن تكون واقعية في جانب منها أو أكثر على كل حال. كما يغلب على محن العلماء في الإسلام طابعها السياسي، فليس ثمة في الإسلام من العلماء من تعرض للاضطهاد والمحنة من طرف الحكام من دون أن يكون لذلك سبب سياسي مباشر، أو غير مباشر في بعض الأحيان. والغالب ما يكون ذلك السبب فتوى أو موقفا عمليا اتخذه العالم ضد الحاكم في إطار «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». وفي جميع الأحوال؛ فإن «العالم» الممتحَن إنما يُمتحن لكونه يمتلك سلطة، هي سلطة التحدث باسم الدين، أي باسم الشرعية، ولأنه كذلك يحظى بمساندة «العامة»، خاصة إذا ما وضعنا في عين الاعتبار أن أشد ما تخشاه السلطة السياسية هو التأييد الجماهيري الذي يحظى به فقيه أو ولي أو أي ممثل لسلطة دينية على الأخص، وفكرية عامة، فبإمكان من يستحوذ على هذا التأييد أن يحوله إلى ثورة لا تبقي ولا تذر، خاصة في الأوقات التي تكون فيها تلك الجماهير مصابة بحالة من «الاحتقان السياسي» رافضة السلطة وسياستها، وكثيرا ما نصادف في كتب التاريخ أنه بدلا من أن يوصي الخليفة وصيه قائلا: الله الله في الناس، إذا به يحذره: العامة العامة! وكأنها وباء.

ومن المعلوم؛ أن السلطة - كل سلطة - تنظر إلى الناس عموما باعتبارهم إما أدوات، أو عقبة، أو عبئا. أما الناس الأدوات، فهم مادة بتصرُّف سلطات مثلث الحصار والهدر والغبن، يتم التلاعب بهم وبمصيرهم لخدمة سطوة السلطة وتوطيد أركانها، أو تأزيل وجودها في صراعها مع السلطات الأخرى (كتوظيف بعض الفقهاء قديما والمثقفين حديثا).

وأما الناس العقبة الذين يمثلون مصدر تهديد مباشر، فهم الخصوم الحقيقيون الذين يشككون باستمرار في شرعية المستبد (كالمتصوفة والعلماء المستقلين والمعارضين السياسيين). وأما الناس العبء، فهم تلك الشرائح الزائدة على الحاجة! إنها تلك الكتلة البشرية المكررة التي لا لزوم لها ممن تطلق عليهم السلطة ألقابا من مثل: العوام، والغوغاء، والرعاع، والدهماء، وحشو الرعية.. إلخ.

هذا، وتكشف رسائل الخليفة المأمون، المتعلقة بـ«محنة خلق القرآن»، عن تصور السلطة للرعية المحكومة، أو من نطلق عليهم الآن - في زمن التغييرات الحاصلة - لقب «الكتلة الصامتة». يقول في واحدة منها: وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة! ممن لا نظر له ولا روية، هم أهل جهالة بالله وقصور لضعف آرائهم ونقص عقولهم. لا عجب إذن، أن ثمامة بن الأشرس - أحد رؤوس حملة «خلق القرآن» - كان يعتبر العامة «أنعاما»؛ مدللا على ذلك بقوله تعالى: «.. كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ»! وفي إشارة لافتة، يذكر الطبري، في معرض حديثه عن مقتل أحمد بن نصر الخزاعي، إبان محنة القول بـ«خلق القرآن»، ما نصه: فلما أُتي بأحمد بن نصر لم يناظره الواثق في الشغب ولا في ما رفع إليه من إرادته الخروج عليه، ولكنه قال له: يا أحمد، ما تقول في «خلق القرآن»؟‍! وهكذا تصفى الحسابات السياسية من خلال قضايا ذات لبوس ديني وتهم زائفة بالكفر والإلحاد والزندقة! وإن تعجب فاعجب لأمر الخليفة المعتصم بالله الذي كان يحاكم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في القول بـ«خلق القرآن» بينما هو «أُميّ» لا يعرف القراءة والكتابة! أما المتصوفة؛ فقد طالت محنة القول بـ«خلق القرآن» بعضهم ممن اختلفت استراتيجية تعاملهم معها من واحد لآخر، ومن أوائل الذين امتحنوا في هذا السياق: أحمد بن أبي الحواري، الذي يذكر ابن كثير في تاريخه عنه أنه لما جاءت المحنة زمن المأمون إلى دمشق بـ«خلق القرآن»، عين فيها أحمد بن أبي الحواري وآخرون، فكلهم أجابوا إلا أحمد، فحبس بدار الحجارة، ثم هدد فأجاب تورية مكرها.

وفي ترجمته لذي النون المصري، يحكي أبو القاسم القشيري أنه قد سُعي به إلى المتوكل، فاستحضره من مصر، فلما دخل عليه ووعظه بكى المتوكل ورده إلى مصر مكرما. وكان المتوكل إذا ذكر بين يديه أهل الورع يبكي ويقول: «إذا ذكر الورع فحيهلا بذي النون المصري».

لكن، وكما هو ظاهر، فإن هذه الحادثة متأخرة زمنيا وليست الأولى من نوعها، إذ الثابت تاريخيا أن ذا النون قد اضطهد إبان محنة القول بـ«خلق القرآن» التي أبطلها المتوكل لاحقا. وآية ذلك، ما ساقه الكندي في كتابه «الولاة والقضاة» من أن قاضي مصر محمد بن أبي الليث، كان من أشد الناس تحمسا للقول بـ«خلق القرآن»، وتعذيب من أنكر من المصريين، في بعض أيام المعتصم وفي أيام الواثق، وأن من العلماء من لزم بيته فلم يظهر، وهرب بعضهم إلى اليمن، أما ذو النون فقد اختفى، ثم عاد فقبض عليه وامتحن فأقر بالمحنة مكرها.

وبهذا تمثل الحادثة الأولى حالة اضطهاد عادية ربما لاتهامه بالزندقة، خاصة أن مما يعرف عنه أن رئيس مصر قد رماه بالزندقة، فوصل أمره إلى الخليفة، الذي استقدمه، ولكن بعد أن سمع كلامه أولع به وأحبه وأكرمه.

ومن الثابت تاريخيا أيضا أن ذا النون قد سجن إبان المحنة، وكان في سجنه يسأل عن حال ابن حنبل. وفي رواية أخرى أنه كان فرحا باضطهاده يتبختر في أصفاده، قال إسحق بن إبراهيم السرخسي: سمعت ذا النون وفي يده الغل وفي رجله القيد، وهو يساق إلى المطبق والناس يبكون حوله وهو يقول: هذا من مواهب الله تعالى ومن عطاياه، وكل فعاله عذب حسن طيب، (النعمة والبلوى سواء) ثم أنشد: لك من قلبي المكانُ المصون/ كل لوم علي فيك يهون، لك عزم بأن أكون قتيلا/ فيك والصبر عنك ما لا يكون! ويتضح من وراء ذلك، أن اضطهاده لم يمنع الناس من محبته وإنما زادت سلطته عليهم حيا وميتا، فحين مات حُمل إلى قارب مخافة أن ينقطع الجسر من كثرة الناس، ورأى الناس طيورا خضرا ترفرف على جنازته حتى وصلت إلى قبره رضي الله عنه.

وفي السياق ذاته، تقع محنة أبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي المتوفي سنة 232 هجرية، الذي حمله القاضي ابن أبي الليث هو الآخر من مصر إلى العراق للامتحان فامتنع عن الجواب، وقيد وسجن وهو يقول: والله لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه مات في هذا الشأن قوم في حديدهم! وحاصل الأمر، أن أي محاولة لتوثيق محن المتصوفة في الإسلام إنما تعني في المقام الأول القيام بتوثيق فكري لتاريخ الولاية الصوفية في الإسلام، فالمراجعة التاريخية لحياتهم تستدعي استحضار كل ما هو عقائدي وتاريخي وسياسي متعلق بمحاكمة الولاية الصوفية. ولا شك أن منعطفات هذه الحياة ما زالت مطروحة بحدة إلى الآن أمام ما يمكن أن نسميه بـ«موقع التناقض» في الفكر الإسلامي.

وهذا الاستحضار لكل ما هو عقائدي وتاريخي وسياسي أمر يفرض ذاته في حالة الحسين بن منصور الحلاج بالذات، الذي قتل بعد أقل من قرن على بداية «محنة خلق القرآن»، بأمر من السلطة السياسية وبطريقة أقل ما توصف به أنها بشعة، حيث بدا الحلاج كشخص آمن بطريقته الخاصة فلم يقره «المذهب الرسمي» على ذلك فسلط عليه، وهو فرد أعزل، جميع أجهزة السلطة فنكلت به وقتلته ومثلت بجثته إرهابا لغيره! ليس غريبا إذن، والحال هذا، أن يؤرخ لظهور تجربته عادة وفق الإطار السياسي والاجتماعي الذي أسهم في تشكيلها وكان جزءا لا يتجزأ من بنيتها وإطارا لصيرورتها في ما بعد وترددها على منوال: الرفض والقبول، المعارضة والتأييد، النبذ والتقديس، وفق ثنائيات المنطق الديني والتاريخي والسياسي.. وتلك قضية أخرى!

* كاتب مصري