الغرب ودعم الأصوليات.. لماذا تكرار الخطأ؟

TT

لماذا لا تتعلم الولايات المتحدة الأميركية في شؤونها السياسية من دروس التاريخ؟ أم أنها خاضعة أبدا ودوما لدافع قسري مهلك، يحملها دوما على تكرار نفس الأخطاء، على الرغم من تجارب الماضي الرهيبة؟ لماذا هذا الاستفهام في هذا التوقيت من جديد؟

حكما تبقى الأنباء المتواترة من واشنطن، عن حالة الغزل التي ارتقت إلى الاتصالات العلنية، بين الإدارة الأميركية الحالية وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، هي السبب الرئيسي في العودة إلى محاولة فهم جديدة لواشنطن، ودورها في إطلاق عنان الأصوليات، لا سيما في الشرق الأوسط.. هل يعني ذلك أنها كانت من قبل حاضنة رئيسية لتلك التيارات؟

يكشف روبرت دريفوس، رئيس التحرير المشارك لمجلة «THE NATION» الأميركية، في كتابه المثير «لعبة الشيطان»، الذي يعد أول وأوفى بحث في أخطر أخطاء السياسة الأميركية على مدى ستين عاما، من الدعم للأصولية الإسلامية، كيف قضت الولايات المتحدة عشرات السنين تزرع الإسلاميين وتخادعهم، وتتعامل معهم بخبث وبوجهين، تستخدمهم وتسيء استخدامهم كحلفاء لها في الحرب الباردة، لتكتشف فيما بعد أنها ساعدت على انتشار قوة ما لبثت أن استدارت ضد راعيها بشكل انتقامي.. هل كانت الولايات المتحدة الأميركية يوما دولة صديقة عقائديا للعالم الإسلامي؟

لماذا إذن كان السعي لدعم الأصوليات الإسلامية في الشرقيين الأوسط والأدنى؟

في السابق كان الشغل الشاغل للولايات المتحدة بناء حاجز يحول بين الاتحاد السوفياتي وجناحها الجنوبي، ونظرا لحقيقة أن كل الأمم فيما بين اليونان والصين هي أمم إسلامية، فقد أعطى ذلك انطباعا بأن الإسلام نفسه يمكن أن يدعم مثل هذا الخط الاستراتيجي، وشيئا فشيئا أخذت فكرة هذا الحزام الأخضر الممتد عبر هذا «الهلال الإسلامي»، تأخذ شكلا محدد.

لم تكن الفكرة مجرد فكرة دفاعية، فقد قدر واضعو هذه السياسة المغامرة أن المسلمين الموجودين داخل حدود الاتحاد السوفياتي، في إطار جمهورياته الكائنة في وسط آسيا، قد يكونون عامل تفتيت لكيان الاتحاد السوفياتي ذاته، ومن ثم فقد اتخذوا الخطوات اللازمة لتشجيعهم على ذلك.

هل كانت البراغماتية السياسية الأميركية وراء التحالفات التي سعت إليها مبكرا مع الإسلاميين في الشرق الأوسط؟

الشاهد أن التاريخ السياسي الأميركي الحديث، قام، ولا يزال، على فكرة «إمبراطورية» الكابتن مورغان، أشهر القراصنة في تاريخ الغرب، الذي لا يهاجم سفن الغير، لكنه ينتظر العائدين من القراصنة، المحملة سفنهم بأكداس الغنائم، ثم يستولي عليها وعلى ما فيها بضربة واحدة سريعة في حركتها ضامنة لغنائمها مقلة من خسائرها.

على ذلك النحو كانت النظرة لاحقا وحتى الساعة للقوى الإسلامية في العالم، التي تلاعبت بها واشنطن، وإن لم تتلاعب بالإسلام ذاته كعقيدة للملايين، بل بالاتجاهات الإسلامية.

لقد وجدت الولايات المتحدة في الإسلام السياسي شريكا مريحا في كل مرحلة من مراحل بناء الإمبراطورية الأميركية في الشرق الأوسط، منذ بواكير دخولها إلى المنطقة، وحتى تغلغلها التدريجي وتوسعها في المنطقة، وحتى استقرارها العسكري فيها، إلى ظهورها أخيرا كجيش احتلال في العراق وأفغانستان.

لم تكن الاتصالات الأخيرة بين إدارة أوباما والإخوان المسلمين، التي أشار إليها المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، مارك تونير، هي الأولى أو الأحدث من نوعها، فقد سبقها لقاء مضى عليه نحو خمسة عقود من الزمان.

كان ذلك في أواخر صيف 1953 - والعهدة هنا على دريفوس في كتابه «تحالف الشيطان» - عندما قام البيت الأبيض بدور خشبة المسرح، للقاء الذي جرى بين الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور، وشاب مثير للمتاعب ذي ملامح شرق أوسطية لم يتجاوز السابعة والعشرين من العمر، لكنه يمتلك من الخبرة ما يقدر بأكثر من عقد من الزمان، في قلب الحركة الإسلامية المصرية المليئة بالعنف والتعصب السياسي، كان الزائر في ذلك اليوم من أيام سبتمبر (أيلول) هو سعيد رمضان الجهادي والممثل الرسمي للإخوان المسلمين ومنظرهم، كان لهذا الشاب طموح شبه ملكي في دوائر الإخوان المسلمين منذ أن تزوج وفاء ابنة حسن البنا، زعيم الإخوان المسلمين.

لم تنقطع الصلة، ولا شك، منذ ذلك التاريخ الذي أشارت إليه وأكدته أوراق وصور أرشيف جامعة برنستون الأميركية التي كشف عنها مؤخرا، وحتى الساعة، غير أن السؤال هل كان الأميركيون فقط الذين تلاعبوا بالتيارات الإسلامية الأصولية، وربما المعتدلة كذلك، لتحقيق غابات تصب في خانة تجسيد فكرة سيادة الرجل الأبيض على الكون بمن فيه؟

واقع الحال هو أن عددا كبيرا من الحكومات الغربية لها تاريخها في دعم تلك الحركات والعمل معها وإسنادها.

منذ بضع سنوات صدر كتاب للأستاذ آين جونسون تحت عنوان «جامع في ميونيخ.. النازيون.. وكالة المخابرات الأميركية ونهوض حركة الإخوان المسلمين في الغرب» ولأهميته فقد حاز على جائزة «بوليتزر» الصحافية الشهيرة.

يشير جونسون إلى جهود النازيين لتجنيد المسلمين من سجناء الحرب السوفياتية، الذين كانوا من أشد المواطنين عداء لستالين، وبالفعل تم تجنيد ما بين مائة وخمسين ألفا إلى ثلاثمائة ألف منهم، ومعظمهم من أصول تركية، للقتال ضمن قوات المحور أيام الحرب العالمية الثانية، تحت قيادة نازي مفكر يدعى جيرهارد فون مندي، وقد صاحب هذا النجاح وجود إعلام نازي موجه نحو العرب.

استمرت جهود فون مندي بعد هزيمة ألمانيا في 1945 للعمل مع المسلمين، لمواجهة الشيوعية، ولكن جهودهم القتالية كانت مخيبة للآمال، فعلى سبيل المثال، فإن أحد القياديين المسلمين الذي كان يعمل كإمام في أحد فرق البوليس النازي الخاص، لم يتوان في التعامل مع الشيوعيين للقضاء على انتفاضة وارسوا في بولندا عام 1944.

غير أن جونسون يبين لاحقا كيف أن الإسلاميين أثبتوا جدارتهم في التحديات السياسية والدينية، فيقول: «يرتدون البدلات المناسبة حاصلين على شهادات جامعية ولديهم القابلية لطرح مطالبهم بقناعة يتقبلها السياسي المقابل». هذه الدراسة في واقع الأمر، تلفت إلى حديث غاية في الأهمية، وهو أن الولايات المتحدة الأميركية بوعي كامل اغتصبت شبكة «فون مندي»، وسلمتها إلى سيد رمضان.

كان زخم الدعم الأميركي للإخوان المسلمين في وقت تزايدت فيه هجرة المسلمين لأوروبا، مما أدى إلى توسيع نشاطهم في السبعينات، غير أن علامة الاستفهام في هذا المقام: هل كان رمضان والإخوان المسلمون والأميون اليمنيون، كما يسميهم دريفوس، حلفاء نافعين في الحرب الباردة ضد الشيوعية؟ وهل كان الإسلام نفسه قلعة ضد الآيديولوجية الإلحادية الأجنبية؟

بمعنى ما، فإن الإجابة تكون بالنفي، فالشيوعية والقوميون يمكن أن يكسبا بل وكسبا بالفعل تأييد جماهير المسلمين. وعلى سبيل المثال نجد أنه في العراق استطاع الحزب الشيوعي العراقي، أكبر الأحزاب الشيوعية العربية، أن يكسب تأييد ملايين الشيعة العراقيين خلال فترة الحرب الثانية، وفي مصر الناصرية انجذبت أعداد هائلة بدورها للفكر الشيوعي، وبالضبط كما فعل المسيحيون في أوروبا الذين التحقوا بالأحزاب الشيوعية بالجملة، كذلك كان الأمر في العالم الإسلامي، حيث هب المسلمون الساخطون على نوعية الحياة التي يعيشونها، أو الذين يعارضون الإمبريالية الأنجلو أميركية في الشرق الأوسط، انضموا إلى الشيوعية، أو بشكل أكبر إلى القومية العربية.

على أنه على الرغم من أن المسلمين قد انجذبوا إلى الآيديولوجيات اليسارية، فإن بعض المستشرقين وبعض واضعي السياسة الأميركية أحسوا بأنه لا يزال هناك أسباب تدعوهم للاعتقاد بأن الإسلام السياسي يمكن أن يستخدم بأشكال واضحة العداء ضد الشيوعية.

والمقطوع به أن المرء يمكن أن يتفهم سياقات المواجهات الإمبراطورية بين الروس والأميركيين في العهود الباردة، لكن ما الذي يدفع واشنطن وعدد من عواصم الغرب اليوم لمغازلة التيارات الإسلامية في الشرق الأوسط، وفي توقيت متزامن مع ما يطلق عليه «الربيع العربي»، الذي لم يتم التحقق نهائيا منه؟ هل هو الخوف من تكرار التجربة الإيرانية من جديد، التي أخفق في مواجهتها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على السواء؟ يلفت ستيف كول، الكاتب والمؤلف الأميركي في كتابه الأكثر إثارة والحائزة على جائزة بوليتزر مرتين «حروب الأشباح.. السجل الخفي للـ(سي آي إيه) لأفغانستان ولبن لادن» إلى أن «شيوعيي روسيا المتقشفين لم يكونوا أفضل حالا من رأسماليي أميركا التجديديين لناحية التقليل من شأن الثورة الإيرانية. لقد أخفقوا أساسا في رصد فيروس النشاط الإسلامي الذي راح يتغلغل شمال طهران وشرقها، عبر شبكات سرية غير رسمية كان الكرملين والأكاديميات الداعمة له تضم قلة من الخباء حول الإسلام، وكان أقرب الحلفاء إلى الاتحاد السوفياتي أنظمة علمانية، مثل نظامي سوريا والعراق وعلى غرار الأميركيين وجه السوفيات معظم مواردهم ومواهبهم نحو ميادين المعارك في أوروبا وآسيا في العقدين الماضيين.

لم توفر وسائل الإعلام الأميركية في الأشهر القليلة الماضية الإشارة إلى أن واشنطن لا تريد تكرار الخطأ الذي جرى في طهران من قبل؛ فـ«نيويورك تايمز» على سبيل المثال، وليس الحصر، تعتبر أن الاتصالات التي جرت مؤخرا بين البيت الأبيض وجماعة الإخوان المسلمين تعتبر بمثابة ضخ للأكسجين السياسي في رئة الجماعة، في الوقت الذي تعاني فيه من هجوم الليبراليين المصريين عليها، ووصفت هذه الاتصالات بأنها براغماتية وأنها تعني اعترافا بالنفوذ الكبير للجماعة على الساحة السياسية في مصر، ومشيرة إلى أن الإدارة الأميركية تحاول استعادة دورها في مصر، بعد أن انهارت صورتها أثناء ثورة 25 يناير.

هل نحن بإزاء التفاف جديد من الغرب على حركات تسعى لتحقيق قدر وافر من الحرية الوطنية، ومن الإرادة المستقلة عبر استخدام القنوات الأصولية التقليدية في العالم العربي؟ حكما أن نجاح الإدارة الأميركية في التواصل مع القوى السياسية المصرية، ومنها الإخوان المسلمون على نحو خاص، وعلى الرغم من تعارض قيمها مع الليبرالية الأميركية، فإن ذلك ربما يساعد الولايات المتحدة لاستعادة زمام المبادرة إذا نجح المشروع الديمقراطي في مصر.

أيمكن أن تضحى اتصالات الأميركان والإخوان الجديدة فصلا جديدا من فصول تلاعب واشنطن (روما العصر) بالأمم والشعوب؟

الجواب عند ضابط الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) السابق رييل مارك في كتاب الجديد «التناقض الإسلامي.. رجال الدين والشيعة والأصوليون السنة والديمقراطية العربية الآتية»، الذي يعلن فيه أن مستقبل الشرق الأوسط هو اليمين الإسلامي، وأنه ينبغي على الولايات المتحدة أن ترحب به على الرغم من أن الكثيرين من الأميركيين يأملون في أن يكون المعتدلون المسلمون العلمانيون هم الأغلبية الصامتة في الشرق الأوسط.

وللموضوعية، تتبقى كلمة قبل الانصراف وهي أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر أمام اختبار حقيقي؛ فللمرة الأولى في تاريخها تعمل على الملأ وفي النور، فهل تبقى جماعة وطنية تحقق بأفعالها ما تقوله في شعاراتها، بعيدا عن الأجندات الخارجية، وفي هذا الحال ستجد لها أرضية أوسع وأعمق؟ أم أن أحاديث الأميركان ورؤاهم الإمبراطورية المكذوبة ستعزز فكرة التلاعب الأميركي بالأصوليات الإسلامية لغير صالح الأوطان في كل زمان ومكان من حاضرات أيامنا.

* كاتب مصري