تجربة الصوم في العقائد والملل المختلفة

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

يدل كون الصيام فريضة مشتركة بين جميع النحل ومختلف الأديان على أهمية هذه الشعيرة في تحقيق التهذيب والتقوى وتأهيل البشر للخلافة التي خلق الله العباد من أجلها. يقول تعالى في محكم التنزيل: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيم». ففي الصوم تذكير بالمعاني الخلقية والقيم الروحية السامية؛ ومن هنا نفهم قول رسول الله، (صلى الله عليه وسلم): «من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».

ولأهمية الصوم الخاصة؛ نلاحظ أن الرياضيين في جميع النحل يلجأون إليه التماسا منهم لما فيه من تصفية النفس وتزكية القلب، كالبوذيين والهنود والصابئة والروحانيين، وكذلك الفلاسفة لا سيما الإشراقيون منهم على اختلاف النظم في ذلك، بعد اتفاقها في تلمس الإصلاح ونشدان التصفية والخفة التي ترتفع بمستوى الناس إلى ما خلقهم الله لأجله.

وإذا كان تعريف الصوم لا يخرج عن معنى الإمساك عن الطعام والشراب لمدة معينة، قد يتخذ فيها صورا مختلفة، مخففة أو مشددة بحسب النظم الدينية والظروف؛ فإن مثل هذا التعريف يقتصر على الوجهة المحسوسة الظاهرة للصوم، متجاهلا بذلك جملة المقاصد الداخلية الروحية التي يتوخاها الصائمون في صيامهم، والتي تضيف لتعبدهم قيمة روحية تحقق المعنى الديني العميق للصوم.

وبحسب البعض؛ فقد درس علماء الأديان هذه الظاهرة المهمة من الحياة الدينية، فاستطاعوا أن يرجعوها إلى الأقسام التالية:

أولا: الصوم كعمل تقشفي أو كوسيلة للتضرع إلى الله تكفيرا للذنوب أو طلبا لنعمة ما.

ثانيا: الصوم كمقدمة لعشاء ديني سري، أو كتحضير لانتساب العضو الجديد إلى جماعة دينية معينة.

ثالثا: الصوم كتعبير عن حزن شديد يريد المرء أن يعرفه للملأ.

رابعا: الصوم كوسيلة لتطهير النفس وقمع شهواتها.

خامسا: الصوم كوسيلة لإحداث الرؤية والأحلام.

سادسا: الصوم كمعزز لعمليات سحرية.

ومن المؤكد أن الصيام لم يأخذ معناه الحقيقي السامي إلا في الديانات الثلاث الكبرى (اليهودية، والمسيحية، والإسلام).

وبمراجعة الآيات القرآنية الكريمة التي ورد فيها فرض الصيام يمكننا الوقوف على بعض المعاني النبيلة والأهداف السامية المرتبطة بتلك الفريضة الواجبة. فأول ما يلفت الانتباه في آيات سورة البقرة الخاصة بالصوم، هو أن المولى سبحانه وتعالى قد عبر بكلمة «لعل» ولم يقطع ويجزم بأن ثمرة الصوم هي تحقق التقوى لا محالة؛ ليفيد بأن الصوم يعد نفس الصائم للتقوى، فإذا ما تعهد الإنسان نفسه، التي أعدت بالصوم، وانتهى إلى التقوى، كان جزاؤه عند الله عظيما.

ولذلك عندما طلب أبو أمامة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يأمره بعمل ينفعه الله تعالى به، قال صلى الله عليه وسلم: «عليك بالصوم، فإنه لا عِدْلَ له»، فكرر له أبو أمامة الطلب، فقال صلى الله عليه وسلم: «عليك بالصوم، فإنه لا مِثْلَ له». فلما أعاد أبو أمامة الطلب للمرة الثالثة، قال صلى الله عليه وسلم نفس ما قاله في المرة الثانية.

وتبعا لذلك؛ فإن من تعهد نفسه واتقى تَصْدُقُ فيه الأحاديث التي تتحدث عن مضاعفة أجر الصوم لما يزيد على سبعمائة ضعف، على حين أن الذي لم يتعهد نفسه، ولم يتق، تصدق فيه الأحاديث الأخرى التي تفيد بأنه: «ليس له من صومه إلا الجوع والعطش»، وأنه «ليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».

ثاني الأمور التي يمكن ملاحظتها على السياق الذي ورد فيه فرض الصوم، أن الأمر به جاء بعد أن ذكر سبحانه وتعالى أن هذا الشهر الكريم نزلت فيه الهداية الكاملة ممثلة في القرآن الكريم: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه»، وكأنه أراد بذلك أن نحتفل بالهداية ممثلة في القرآن، بما يُعد النفس، ويمهدها، لاستقبال هذه الهداية على خير ما ينبغي: أي بالصوم.

وكأننا بالصوم إيمانا واحتسابا، نصل إلى مستويات من شفافية النفس وتطهيرها وتزكيتها، فتتنسم هدي السماء من دون شوائب، وهنالك تفهم في عمق قول الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا».

ومن يرض بالإسلام دينا يعلم يقينا أن شهر رمضان جامع للحسنيين: القرآن والصيام. فمَن أحسن تدبر القرآن، وأحسن صيام رمضان «إيمانا واحتسابا» اكتمل إيمانه، وتمت نعمة الله عليه، وحقق التقوى، ودخل في نطاق أوليائه تعالى الذين «لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون».

ثالث الأمور التي يمكن فهمها من خلال السياق الذي ورد فيه فرض الصوم، يمكن تلمسه من قوله تعالى - مختتما بعض آيات الصوم: «وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون». فشكر الله ها هنا يكون على هدايته السماوية أولا، وعلى توفيقه لنا بإتمام الصوم ثانيا، وعلى اكتمال نفوسنا بالتطهر والتزكية ثالثا. وكلما زدناه شكرا زادنا مغفرة، وكلما زدناه حمدا زادنا هداية، وكلما زدناه تضرعا زادنا توفيقا: «لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد». ومما له دلالة في هذا السياق؛ أن ابن عطاء الله الآدمي عندما سئل عن معنى هذه الآية أجاب: «إنك إذا رددت الأشياء إلى مصادرها من غير حضور منك لها، فقد تم الشكر». وقال أيضا: «لئن شكرتم هدايتي، لأزيدنكم خدمتي، ولئن شكرتم خدمتي، لأزيدنكم مشاهدتي، ولئن شكرتم مشاهدتي، لأزيدنكم ولايتي، ولئن شكرتم ولايتي، لأزيدنكم رؤيتي، لكن الله يمن على من يشاء بالهداية والتوفيق».

ولعل مما له مغزاه العميق ها هنا، أنه في ثنايا هذه الآيات الكريمات التي تتحدث عن الصوم وتوجهنا إلى التقوى، وإلى تكبير الله، وإلى الشكر، إذا بالمولى سبحانه وتعالى يخاطب رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، قائلا: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون»، وكأنه أراد أن يؤكد بذلك أن النفوس التي صامت إيمانا واحتسابا، وتزكت، وتطهرت، والتزمت التقوى، وكبرت الله وشكرته: إنما هي نفوس قريبة من الله، إذا دعته استجاب، وإذا استلهمته الرشد والصواب ألهم، وإذا استهدته هدى.

وفي كل الأحوال؛ يكفي للتدليل على قيمة الصوم في الإسلام أنه من أسباب المغفرة كما أخبر بذلك المولى عز وجل حين قال: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا».

ويكفي أيضا ما أخبرنا به في الحديث القدسي من أن «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، حيث ورد هذا الحديث بصيغ شتى أشهرها ما جاء في الصحيحين: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك». وفي رواية أخرى عند البخاري: «لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به»، وفي ثالثة: «كل العمل كفارة إلا الصوم والصوم لي وأنا أجزي به».

وبطبيعة الحال؛ لم يكن اختصاص المولى سبحانه للصوم من دون سائر العبادات الأخرى أمرا عبثيا أو محض مصادفة؛ وإنما لحكمة قدرها سبحانه وتعالى. فهنا استثناءان: الاستثناء في الرواية الأولى من المضاعفة، والاستثناء في الأخيرتين من التكفير، وكل منهما يحتاج إلى بسط. فمما يتعلق بالاستثناء الأول - استثناء الصوم من المضاعفة – أنه يفهم منه أن الأعمال كلها تضاعف إلى سبعمائة، إلا الصيام، فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله تعالى أضعافا كثيرة بغير حصر عدد. ومما يؤيد ذلك كون الصيام من الصبر الذي هو نصف الإيمان.

على أن مقاصد الصبر - من الصبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى ما قضى الله تعالى من المؤلم الذي لا يلائم النفس من مرض وموت.. إلخ - كلها مجتمعة في الصوم؛ فإن فيه صبرا على طاعة الله تعالى، وصبرا على ما حرم تعالى من المفطرات، وصبرا على ما يؤلم الصائم من الجوع والعطش وضعف النفس والبدن. ومما يدل على عظيم ثواب الصابرين على تحمل تلك الآلام قوله تعالى في أمر المجاهدين: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين».

فالصائم الصابر لله تعالى على ألم الجوع والعطش، لا يضيّع الله أجره، بل يكتب له به عملا صالحا في مقابلة إحسانه وطاعته. فقد روى ابن خزيمة في صحيحه من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه في فضل شهر رمضان: «وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة، من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة في ما سواه».

* كاتب مصري