في المسؤولية الأميركية عن المذبحة النرويجية

إميل أمين

TT

يصعب على المرء أن يجد منصة انطلاق في هذا الحديث المر، لا لقلة عددها، بل لكثرتها، وتنوع أبجدياتها، وتعدد مشاربها.. فهل نتحدث عن كارثة القارة الأوروبية المغرقة في علمانياتها والمقبلة على زمن الأصوليات والظلاميات، لا سيما إن مضت بها المقادير على ذلك النحو؟ أم نتحدث عن الإرهاب الذي رأى البعض اليوم أنه «مسيحي»، كما كان وطوال العقد الماضي «إسلاميا» بامتياز؟

ويحار المرء في مواجهة إشكالية أخرى؛ فهل التطرف في حالة العلمانية الأوروبية قاد القارة العجوز إلى الأصولية الرافضة للتعددية الثقافية والدينية؟

ثم يبقى الهم الأكبر في هذا الحديث، الذي يتناول مستقبل الإسلام والمسلمين في أوروبا إذا تحولت حادثة أوسلو إلى ظاهرة، وهو أمر محتمل، في ظل اكتساب اليمين المتطرف هناك، يوما تلو الآخر، لمساحات أوسع وأعرض.

على أنه ربما في وسط زحام تلك المنصات، تتبقى جزئية لم يلتفت إليها الكثيرون فيما جرى وسيجري، وهي تلك المتعلقة بتأثير الأصولية اليمينية الأميركية على أوروبا والأوروبيين، وإلى أي مدى كان هذا التأثير دافعا، وليس حافزا فقط لقيام النرويجي أندرس برييفيك بمذبحته الشهيرة.

فأخيرا، وعقب المذبحة الرهيبة التي وقعت، تكشف عن أن الجاني لم يضمر نيته بالمرة، فقد أماط عنها اللثام عبر نحو 1500 صفحة كتبها خلال عدة سنوات على مدونته الإلكترونية، وفيها أحاديث مطولة تجمع بين التطرف العقلاني، المتمثل في الاستشهادات التاريخية بالمسيحيين المتطرفين من جهة، والتطرف العملاني، إن جاز التعبير، الذي يسعى إلى صناعة القنابل واستخدمها.

ومن المتفق عليه أن كل أصولي حول العالم وعبر التاريخ، يؤمن بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، وأن الآخرين مجردون عنها بالمطلق، ولهذا نجد برييفيك يطلق على نفسه لقب «قائد فرسان الحق».

على أن القراءة المعمقة لعدد وافر من شهادته المبثوثة عبر الإنترنت، تؤكد على أن اليمينية الأميركية وأربابها ومنظريها على الجانب الآخر من الأطلسي، هم الذين شكلوا عقلية الصبي النرويجي في تلك البلاد، التي لا تشكو من شظف في العيش أو تضييق في الحريات.. كيف ذلك؟

في تقرير أخير لها، كتبه سكوت شين، تلفت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية إلى أن هجمات النرويج قد حدثت بتأثير واضح للفكر المعادي للإسلام في الولايات المتحدة، فقد كان برييفيك من المتابعين الخلص عبر الإنترنت للجدل الأميركي الحاد حول الإسلام، وفي الوثيقة التي أدان فيها الساسة النرويجيين لعدم دفاعهم عن البلاد من خطر النفوذ الإسلامي، على حد تعبيره، اقتبس الجاني النرويجي 64 مرة من أقوال المدعو روبرت سبنسر، مدير موقع مراقبة الجهاد، كما أشار برييفيك إلى كتاب غربيين آخرين يشاركونه رؤيته في أن المهاجرين المسلمين يمثلون خطرا داهما على الثقافة الغربية.

من هذا روبرت سبنسر، الذي ربما قاد 76 بريئا نرويجي إلى أن يلقوا حتفهم عبر الحادث المأساوي الأخير؟

باختصار غير مخل، هو أحد أهم الأبواق الزراعة للكراهية والناشرة للفتنة والساعية في طريق التضليل الأميركي، وهمه الرئيسي، عبر كتبه ومقالاته، مهاجمة الإسلام والمسلمين داخل وخارج أميركا، وقد أسس سبنسر موقعا يسمى «The Jihad Watch» أي مراقبة الجهاد، وموقع «ذمي ووتش» (Dhimmi Watch)، وهما موقعان يراقب الأول الإسلام عامة والجهاد خاصة، ويراقب الآخر «أهل الذمة في ديار المسلمين»، ويركزان على الإسلام وربطه بالأحداث الجارية ونشاط الجهاد في مختلف أنحاء العالم.. لماذا كانت آراء سبنسر قاتلة بالنسبة لبرييفيك، وأداة لجعله بوقا ضد الإسلام والمسلمين؟

ينصب نقد سبنسر على الإسلام والرسول، وعلى القرآن والقضايا الإسلامية، كالشريعة والجهاد، ويقوم بالتعليق عبر موقعه أسبوعيا على سور بعينها من القران، وتترجم مدونته إلى اللغات الدنماركية والتشيكية والألمانية والإيطالية.

وضمن رؤاه العنصرية القول إن «القران خيال واسع جدا لن يكون قادرا على المقاومة اليهودية والمسيحية، أمام الفحص وتحليل النقد التوراتي الأعلى».

ولا يتوقف نقد سبنسر للدين أو الفقه الإسلامي فحسب، بل يتجاوزه إلى الكثير من المؤسسات والشخصيات الإسلامية، ويحاول بكل ما أوتي من قوة الربط بينهم وبين المنظمات الجهادية والفكر الإرهابي، كما يراه.

والشاهد أننا لسنا بصدد الحديث بأريحية كاملة عن سبنسر، لكننا في معرض التحقق من ظلامية الدور الأميركي فيما جرى، إذ لا يتوقف الأمر عند تأثير برييفيك على سبنسر، بل هناك «أنبياء مزيفون» آخرون، امتلأت بهم السموات الأميركية خلال العقد الماضي، واستغلوا بصورة أو بأخرى البلبلة التي تثيرها، ولا تزال، أجواء الحادي عشر من سبتمبر، ليدركوا لأنفسهم مكانة فكرية ومجتمعية، حتى لو كانت غير حقيقية علميا ووضعيا، على حساب المزايدة على الإسلام والمسلمين.

خذ على سبيل المثال لا الحصر ما قاله أحد الرجال الذين اعتنقوا فكرة «الحرب العالمية الرابعة»، جيمس وولسي، مدير المخابرات المركزية الأميركية، CIA في إدارة الرئيس السابق كلينتون، ففي خطاب ألقاه في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002، أي تقريبا بعد مرور عام على أحداث سبتمبر (أيلول)، كان يوجه حديثا قاصدا به مسلمي العالم، وفيه أن عليهم «أن يدركوا أننا وللمرة الرابعة في غضون مائة عام قد استيقظنا وبدأت مسيرتنا للقتال الذي لم نختره، لكننا وجدنا أنفسنا نخوضه.. نحن نقاتل من أجل الأفكار النبيلة التي عبر عنها ريجان أفضل تعبير، وأيضا عبر عنها في البداية الرئيس ترومان، أي أن تلك الحرب لم تكن حربنا ضدهم ولم تكن حرب بلدن، لكنها كانت حرب الحرية ضد الاستبداد».

هل يضحى غريبا، والحال هذه، أن يطلق برييفيك على نفسه «قائد فرسان الحق»، المتصلة بتاريخ الحروب والصراعات الدينية في أوروبا في العصور المظلمة؟

ومن سبنسر وولسي، مرورا بدانيال بايبس، العدو الأكبر للوجود الإسلامي في أميركا وأوروبا، يصل المرء إلى صاحب نهاية التاريخ فوكاياما، ذلك أنه إذا كان بايبس يرى أن «الأسلمة هي الآيديولوجيا المتطرفة الأكثر حيوية في عالمنا اليوم، التي تمثل تهديدا لأميركا حول العالم، وأن الإسلاميين يكرهوننا بسبب (من نحن) لا (ما نفعله)، وأنه ليس ثمة أمل في الوصول إلى تسوية معهم، وعلينا أن نريهم مبكرا وباستمرار أنه ليس بإمكانهم التلاعب بهذا البلد»، إذا كان بايبس يرى ذلك، فإن فوكاياما يغلق الباب بصورة شبه رسمية في مواجهة فكرة اندماج مسلمي أوروبا مع الشعوب الأصلية هناك، ويرى أنه إذا كانت هناك فرصة ما لمثل تلك التعددية الاندماجية في أميركا، فإنها تكاد تكون شبه معدومة أوروبيا.

ويطول الحديث عن أولئك «الكتاب الأميركيين»، الذين لفتت «نيويورك تايمز» النظر إليهم بوصفهم الآباء المؤسسين لفكر برييفيك الإجرامي.. غير أن السؤال الحقيق بطرحه، هل أوروبا بريئة من تلك الدماء التي سفكت على مذبح العنصرية الكريه؟

بالقطع هي ليست بريئة؛ فعلى الرغم من أن تقرير الشرطة الأوروبية (يوروبول) عن الأمن قد أعلن العام الماضي أنه «لا يوجد إرهاب يميني في القارة في تلك الفترة»، إلا أنه يضيف أن اليمين المتطرف أصبح أكثر حرفية في إنتاج دعاية ذات طبيعة معادية للسامية والأجانب على الإنترنت، وأكثر نشاطا على شبكات التواصل الاجتماعي.

هذه القراءة جعلت أسئلة كثيرة تدور بخلد، لا النرويجيين فقط، بل عموم الأوروبيين، وتحتاج إلى إجابات من الحكومة النرويجية، وأهمها: لماذا لم تهتم السلطات بخطر الإرهاب الداخلي، علما بأنه وفق منشور برييفيك المكون من 1500 صفحة، فقد أمضى عقدا من الزمن في التخطيط لهذه الهجمات.

ثم لماذا استغرقت الشرطة وقتا طويلا قبل الرد على إطلاقه النار على المعسكر الصيفي؟

وتبقى علامة الاستفهام الكبرى: «ما هو مستقبل ذلك اليمين، وهل سيدفع مسلمو أوروبا من جديد ثمنه»؟

التقرير الشرطي الأوروبي كان مخطئا ولا شك عندما اعتبر أن «التهديد الإجمالي من التطرف اليميني يضعف، وأن عدد الجرائم المتطرفة منخفض»، لكنه، وفي ذات الوقت، يؤكد على أن تلك الجماعات اليمينية المتطرفة، لديها الرغبة في التوسع ونشر آيديولوجيتها، وما زالت تمثل تهديدا للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

على أن واقع الحال يلفت نظرنا إلى مستويين مستقبليين بالنسبة لهذه الظاهرة؛ الأول هو وجود شبكة اتصالات يتم الكشف عنها الآن، وستتضح ملامحها مستقبلا بين اليمنيين المتطرفين في النرويج والسويد والدنمارك وهولندا، وعدد من الدول الأخرى، بما فيها روسيا، وهذا أمر له دلالات سيئة مستقبلية.

والثاني يتقاطع وما يجري في العالم العربي وشمال أفريقيا من اضطرابات سياسية ستقود حتما إلى تدفق أعداد هائلة من المهاجرين لأوروبا، وهذه الحركة كفيلة بأن تكسب التطرف اليميني والإرهاب نقاطا جديدة، من خلال توضيح نظرته الأوسع انتشارا عن الهجرة، من الدول الإسلامية لأوروبا.

يذهب ماريانو اغوايري، مدير المركز النرويجي لدعم السلام، إلى أن ما حدث في أوسلو يندرج في إطار موجة كره للأجانب وللإسلام في دول الشمال الاسكندنافية، وكذلك في دول أخرى، مثل فرنسا، وأن الهجوم يحمل رسالة سياسية واضحة لحزب العمال ولحكومة ستولتنبرغ الذي يرى فيه المعتدي ومن خلفه، ربما، متسامحا جدا مع ظاهرة الهجرة وتزايد عدد المسلمين في البلاد.

ويؤكد على أننا «سنرى إجراءات أكثر صرامة على الحدود النرويجية وفي المطارات وحتى في المجتمع النرويجي في حد ذاته».

هل كان الإغراق في العلمانية الأوروبية ومحاولة قطع أوروبا لأي جذور لها مع الدين، سببا في خلق موجة التطرف العنصرية هذه، لا سيما إذا اعتبرنا أن صحيح الدين ليس إلا دعوة «أحبب قريبك كنفسك»؟

يرى الفيلسوف الفرنسي اليساري، ريجيس دوبريه، في كتابه «الأنوار التي تعمي.. مسألة العلمانية في الغرب» أن أوروبا ذهبت في شطحاتها العلمانية أقصى اليسار، ولذلك كان من الطبيعي أن تطفو على السطح حركات تمضي إلى آخر مسارات اليمين، كما في مذبحة النرويج.

في تصريحاته لصحيفة «الجورنالي ديل بوبولو» السويسرية، يعبر أسقف مدينة لوغانو عن قلقه لوصف القاتل النرويجي بالمسيحي، متسائلا: «عن أي دين مسيحي نتحدث؟، لأننا إذا ما تحدثنا عن أصولية مسيحية فهي أصولية الراهبة تيريزا في كالكتا بالهند، أو البابا يوحنا بولس الثاني، وكثيرين انتهجوا نهج مؤسس الدين المسيحي».

والشاهد أننا لا ننكر على أسقف لوغانو ما صرح به، لكننا نتساءل معه؛ أليس من الحري بنا شرقا وغربا، أن نعيد النظر في إلصاق تهمة الإرهاب بالأديان؟

طوال العقد الماضي صار تعبير الإرهاب الإسلامي هو النغمة الأعلى؟ فهل نحن الآن على موعد مع الإرهاب المسيحي؟ ومن قبل أو من بعد الإرهاب اليهودي؟

سيوجد متطرفون داخل الأديان وخارجها توحيدية وطبيعية، والمسألة باتت تتعلق بآيديولوجيات مريضة لا بأديان تدعو إلى الهداية، ولهذا فإن الشر المقبل لا بد أن يواجه بحزم وحسم، بتضافر جهود أتباع الأديان، وبتنسيق أئمة المؤمنين وقادة الدين، وبقواعد روحية وإنسانية واحدة ومعايير حريات دينية تحترم في كافة البقاع والأصقاع.

بدأت النازية دعوة عنصرية، وكلفت البشرية 60 مليون قتيل.. هل آفة حارتنا هي النسيان؟ هكذا يؤكد الراحل الكبير نجيب محفوظ في رائعته «أولاد حارتنا».

* كاتب مصري