أخلاق الدين وأخلاق العمل بين المسيحية والإسلام

رضوان السيد

TT

لفت انتباهي الإقبال الكبير من جانب شبان وكهول العرب والمسلمين على مساعدة الشعب الصومالي، وإعانته على الخروج من أهوال المجاعة. فإلى جانب الجهات الرسمية والدولية، وعلى الخصوص منظمة التعاون الإسلامي، هبّت منظّمات وجهات وأفراد كلّ بقدر استطاعته وقدراته، مصداقا لقوله صلوات الله وسلامه عليه: «الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة». وقد سمعت على إحدى الفضائيات حديثا عن مساعدة الصوماليين قال فيه أحد مسؤولي الهيئات الإغاثية الإسلامية: هذا ديننا وهذه أخلاقنا. أمّا زميله في إحدى المنظمات الدولية (أو ربما برنامج الغذاء العالمي)، فأجاب عن السؤال حول دوافعه وهل هي أنه موظّف معنيّ؟ أجاب الشاب: بل إنني متطوّع ولدوافع أخلاقية، ربما لم تكن دينية بحتة بالمعنى الذي يقصده الأخ فلان، لكنها لا تبتعد عنها كثيرا، فقد كنت أسمع من أمي في صغري أنّ العمل على مكافحة الفقر ورعاية الشيخوخة والطفولة؛ كلّها جزء من عبادة الله؛ لقد تطوعت لمكافحة الجوع في الصومال والعالم لأنني بشر! لقد عاد الحديث في العقود الثلاثة الأخيرة عن الثقافيات والأخلاقيات والتي تحكم تفكير الإنسان وعمله. وقد كان هناك من اعتبر ذلك جزءا من الصحوة الدينية في الأوساط البروتستانتية على الأقلّ. بيد أنّ الفترة نفسها ما شهدت انسياحا بروتستانتيا واندياحا إسلاميا وحسب؛ بل كان هناك نهوض أرثوذكسي في روسيا وشرق أوروبا بعد انهيار الأنظمة الشيوعية. ويضاف لذلك حراك بالإيجاب وبالسلب في قلب البوذية والهندوسية. بيد أنّ الذين اعتبروا الصحوات الدينية من بين أسباب عودة الثقافي والروحي، اختلفت اهتماماتهم عن أولئك الذين كانوا مهتمين بأخلاقيات العولمة ولا أخلاقياتها، كما كانوا مهتمين بتبيّن أسباب نجاح هذه التجربة الاقتصادية، وفشل تلك أو أسباب عدم السير فيها بعد البدايات الواعدة. ولهذا كان هناك من تحدث عن أخلاق الانضباط في البوذية والتي أدت إلى النجاح الاقتصادي في مناطقها مثل سنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية واليابان قبل ذلك، فالصين اليوم. وقد شبه فوكوياما الياباني الأصل، أخلاق الانضباط هذه، بأخلاق الرسالة والعمل لدى الكالفينيين والتي يعتبر ماكس فيبر (1864 - 1920) أنها كانت وراء النشوء الرأسمالي الأقوى في المناطق البروتستانتية، والكالفينية كما هو معروف هي نزعة بروتستانتية متشددة.

لقد اعتبر كالفن (في القرن السابع عشر) أنّ نجاة الإنسان تحدث نتيجة عمل الأفراد، وليس بالانضمام إلى الجماعة الكنسية كما يذهب الكاثوليك. والفرد المتوحّد هذه لا يدرك المقاصد الكلية لله عزّ وجلّ، لكنه بالعمل الجادّ الذي يؤدّي إلى النجاح، يستطيع التفاؤل بأنّ الله راض عنه. فأخلاق العمل الجادّة هذه، زادت من المكاسب، وزادت من التراكم، ولأنها لدى الكبار وقتها كانت مقترنة بورع ديني مشهود؛ فإنها ساعدت الرأسمالية المعقلنة هذه بالحفاظ على نزوع أخلاقي وإنساني بارز. وقد أراد فيبر من وراء هذا التأويل، ليس امتداح النزوع الرسالي في الرأسمالية وحسب؛ بل الذهاب إلى أنّ العوامل الروحية والأخلاقية وغير المادية تلعب دورا في العمل الاقتصادي، وليس البنى المادية فقط بحسب التصور الماركسي. وما لم يقله فيبر رغم أنه كان قد بدأ بالبروز أيامه، أنّ وقفيات ومؤسسات العمل العلمي المتقدم والجماعات والعمل الخيري الواسع، كانت في الغالب وما تزال من جانب أولئك الرأسماليين الذين تراكمت لديهم ثروات هائلة، فأقبلوا على التصدّق والبذل في أعمال الخير العام.

وكنت قد علّقت قبل عشر سنوات على ترجمة كتاب ماكس فيبر: «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، والذي يؤكّد فيه على مفهوم الرسالية ومصطلحها الألماني Berufung وقد ترجمها عدة متخصصين إلى العربية بالرسالة أو الدعوة. وقد رأيت بعد تأمّل أن أترجمها بالاحتساب، وهو مصطلح إسلامي عريق مشتقّ من الحسبة، وأعمال الحسبة هي تلك الأعمال التي تتمّ لوجه الله وليس انتظارا لجزاء دنيوي عاجل. كما أنها تتمّ تقصّدا لتحقيق قيمة الرحمة وقيمة الخير، وهما القيمتان اللتان أكد عليهما القرآن الكريم.

وقد لاحظت في عدة مناسبات، ومنها التقديم للنشرة التي أنجزتها لكتاب الماوردي: «تسهيل النظر وتعجيل الظفر»، أنّ الوقف في الإسلام إنما هو عمل من أعمال الاحتساب. فالمسلم لا يثاب على القيام بالفرائض فقط مثل الصلاة والزكاة، بل يثاب أيضا على القيام بأعمال التطوع الكبرى والخير العام. وقد أقام المؤلفون المسلمون فقهاء وزهّادا ومتكلمين بناء نظريا لذلك. إذ رأينا محمد بن الحسن الشيباني يؤلّف رسالة في «الكسب» أي العمل الدنيوي وأخلاقياته استنادا إلى القرآن والسنة. ثم اهتمّ بالموضوع الإمام أحمد وتلامذته فكتبوا عدة رسائل في الكسب، وأدانوا المحاولات والمذاهب للامتناع عن العمل بحجة الزهد أو تجنّب الوقوع في الحرام. وما تزال الأوقاف الهائلة التي تزايدت على مرّ العصور، شاهدا على الأخلاقيات الخيرية الكبرى التي نمت في الحضارة الإسلامية، مستندة إلى أصول شرعية وإنسانية. ولا ينبغي أن ننسى فقه المصالح والضرورات الذي قال به فقهاء المالكية والحنابلة وتبعهم فيه الآخرون بحيث اشتهرت منظومة الضرورات والمصالح تلك والمتمحورة حول الإنسان وحقوقه: حق الدين وحق النفس وحقّ العقل وحقّ النسل وحقّ الملك.

لقد روعتنا جميعا وقائع المجاعة في الصومال وكينيا وإثيوبيا وإريتريا. والصومال هو ذاك البلد المسلم الذي يعاني منذ أكثر من عشرين عاما من الفوضى والافتقار إلى دولة ونظام تنتظم بهما حياة الناس، ويأمن أطفالهم وشيوخهم، كما تأمن الأمهات والفتيات الصغيرات والكبيرات. وقد عملت الجامعة العربية، وعملت منظمة المؤتمر الإسلامي هناك وفي السياسة كما في التنمية. ثم انشغل الجميع بأمور أخرى، وتركوا الصومال لجهود الدول الكبرى والمؤسسات الدولية والاتحاد الأفريقي. وما استطاعت هذه الجهات تحقيق الكثير خلال عقد ونصف. وها هي الجهات الدولية والأفريقية تستصرخ العالم ومن ضمنه العرب والمسلمون من أجل تركيب جهد منسّق لإنقاذ الأرواح، وخاصة الأطفال الذين ماتوا ويموتون بعشرات الألوف. وقد يصل الأمر إلى هلاك الملايين مسلمين وغير مسلمين.

قال متطوع الإغاثة المسلم إنه إنما يقوم بعمل ديني وأخلاقي. وقال متطوع الإغاثة غير المسلم إنه إنما يقوم بعمل إنساني. وهكذا فالإحساس الرسالي أو الأضحوي حاضر لدى الشابين، وإن يكن العامل المسلم أكثر وعيا أو أنّ وعيه أكثر تحددا بما يقوم به أو يحاول القيام به بكلّ الاعتبارات.

إنّ علينا أن نلاحظ في كلّ الأحوال أنه إذا كان الإنسان كائنا ناطقا، فهو أيضا وبالدرجة الأولى كائن أخلاقي، ولا معنى عند المسلمين إذا ذكر الخلق إلاّ الدين، فهو عماد المنظومة الأخلاقية، التي تهب الحياة الإنسانية معناها وغايتها. وهذا المعنى حاضر في أطفال الصومال كما في أطفال سوريا، وسائر أطفال العالم.