الصيام كغاية وقيمة روحية كبرى

محمد حلمي عبد الوهاب *

TT

إذا كان معلوما أن كثرة الأكل تورث الكسل؛ فإن اعتبار الصيام «جنة» - أي وقاية من الأمراض الكثيرة التي تنتج عن الشبع -، أمر غير مبالغ فيه. ولهذا كثرت الآثار التي تحبب في الجوع وتنهى عن كثرة الأكل اتساقا مع حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع»، وما روي عنه أيضا أنه قال: «كبر مقتا عند الله الأكل من غير جوع».

فالصوم هو مستقر الطمأنينة والرحمة اللتين تحصنان الإنسان من أن يكون مرعى للشيطان، ومكمنا لخراطيمه، ومجرى له كما يجري الدم في العروق، وما أسوأ ذلك المجرى الذي يصد عن ذكر الله تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ».

ولا غرو؛ فإن أقرب الناس إلى الذكر هم الصائمون والجائعون، كما أن أبعدهم من الذكر هم أهل البطنة الغافلون الذين مكنوا للشيطان من أنفسهم بإطلاقهم العنان لإشباع غرائزهم، فوقعوا بذلك فريسة سهلة لغواية الشيطان الرجيم: «قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ».

ولأن الصوم يعبر عن جوهر الإخلاص في العبادة؛ فقد استحق الصائمون لقب المخلصين ممن يستعصي على الشيطان غوايتهم: «إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ». فلأنهم ضيقوا مجاري الشيطان بالجوع والعطش، ولأنهم فعلوا ذلك إخلاصا للمولى عز وجل، استحقوا بذلك أن يظلوا بمأمن من غواية الشيطان اللعين.

وإذا كان الصوم رياضة يعذب بها البدن بعض التعذيب في بعض الزمن، فهو كما يعذب الحبيب حبيبه، بإخراج الشوكة من جسده، ولو تركها لسرت في دمه فقتلته، وكما يعذب الأب ابنه بسقيه الدواء المر، ولو لم يسقه لاستشرى المرض في بدنه فقضى عليه. فهكذا تفعل العلل النفسية بالنفوس أيضا، ولولا إخراجها بالصوم لمات القلب، وهلكت النفس، وصار ابن آدم شرا من الحيوان، وكثرت مفاسده على وجه الأرض، بدل أن يكون أمر خلافته فيها للخير والإصلاح، ومن مات قلبه لم يشعر بما يفعل، ولم يحس بما في عمله من شر.

هذا وقد صور القرآن الكريم في كثير من آياته هذه المآلات، فقال في إحداها: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ». فمثلهم في ذلك كمثل من أخبر عنهم المولى عز وجل في كتابه الكريم حين قال: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا».

أما أقوال العلماء في تحبيب الجوع والنهي عن النهم فكثيرة جدا، منها ما روي عن بشر بن الحارث، رحمه الله، أنه قال: «إن الجوع يُصفي الفؤاد ويميتُ الهوى ويورثُ العلم الدقيق»، وكذلك ما قاله ذو النون المصري: «ما أكلت حتى شبعت، ولا شربت حتى رويت، إلا عصيت الله أو هممت بمعصيته». وللجائعين والمتقللين من الدنيا ولذاتها ومشتهياتها الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان من ذلك بالمحل الأرفع، والمقام الأسنى الأخشع الأجمع، ومآثره صلى الله عليه وسلم مشهورة، من بينها ما أورده الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه «زاد المعاد» تحت عنوان: «فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام» حيث قال:

«لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات وفطامها عن المألوفات وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، شرع الصوم فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئا وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه».

ومما روي في شأن متابعة الصحابة سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الجوع والزهد ما قالته حفصة لأبيها عمر، رضي الله عنهما، وهو خليفة المسلمين: إن الله قد أوسع في الرزق، فلو أكلت طعاما أكثر من طعامك، ولبست ثيابا ألين من ثيابك؟ فقال: أنا أخاصمك إلى نفسك، ألم يكن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، يقول مرارا. فبكت، فقال: قد أخبرتك، والله لأشاركنه في عيشه الشديد لعلي أشاركه في عيشه الرخي، أي في الجنة! ويستدل بذلك على أن الزهد يكون في الأمر الحلال كما يجب أن يكون في الحرام، خاصة أن جوع النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن لحاجة أو بسبب فقره وهو الذي لو أراد لصيرت له جبال مكة ذهبا، لكنه آثر طريق الفقر بمحض إرادته حتى يعلم أمته الوسطية في كل أمر، لذا لم يتغير حال صحابته الكرام بعد أن فتحت لهم أبواب الدنيا وحكموا ممالك شاسعة من الأرض.

فقد كان عليه الصلاة والسلام يؤثر الجوع على الشبع حتى إنه لم يشبع هو وآله ثلاثة أيام من خبز بر حتى مضى لسبيله فيما تقول أم المؤمنين السيدة عائشة. ولذلك صح عنها أنها دائما ما كانت تقول: أديموا قرع باب الملكوت يفتح لكم. قالوا: كيف نديم؟ قالت: بالجوع والعطش والظمأ. ومن ذلك قول لقمان الحكيم لابنه: إذا ملئت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.

وفي الحديث الشريف: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه». كما قيل أيضا: «الدنيا بطنك، على قدر زهدك في بطنك يكون زهدك في الدنيا».

ومن طرائف ما ورد في هذا الباب ما روي أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام وعليه معاليق، فسأله يحيى: ما هذه؟ قال: الشهوات التي أصيب بها ابن آدم. فقال: هل تجد لي فيها شهوة؟ قال: لا، غير أنك شبعت ليلة فثقلناك عن الذكر والصلاة. فقال: لا جرم، إني لا أشبع بعد اليوم أبدا. قال إبليس: لا جرم، إني لا أنصح بعد اليوم أحدا أبدا!! واتساقا مع وسطية الإسلام هذه، فضلا عن كونه دين رحمة ببني الإنسان، أباح المولى عز وجل للمرضى وكبار السن ومن هم على سفر أن يفطروا حتى لا يتسبب الصوم في ضعفهم وإعيائهم. يقول تعالى: «وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ».

بل إن من الآثار ما يحض على الأخذ بهذه الرخص: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه»، ومن ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه قال: «كنا في سفر فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلا في يوم حار، أكثرنا ظلا صاحب الكساء، فمنا من يتق الشمس بيده. قال: فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله».

وبطبيعة الحال؛ لا يكتمل صوم المرء حتى ينتهي عن كل معصية؛ ذلك أن المقصود بلفظة «الرفث» الواردة في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه». المقصود بها: مطلق اللغو والمعصية.

* كاتب مصري