قراءة رمضانية: كارين أرمسترونغ.. والحاجة إلى فهم الإسلام غربيا

إميل أمين *

TT

رغم الصدام الحضاري والعسكري وربما الديني بدرجة أو بأخرى بين الغرب والشرق، فإن العالم الغربي لم يعدم أصواتا تميل للعقل والإنصاف، سواء كان ذلك بدرجة كبيرة، أو قليلة، أحدها صوت كارين أرمسترونغ.

نشأت كارين أرمسترونغ راهبة كاثوليكية إنجليزية، ثم تعمقت في الشرق الأوسط وأديانه وثقافاته وتاريخه، ومنذ بضع سنوات هالتها الصورة النمطية المشوهة لنبي الإسلام، التي تربى عليها الغرب منذ الحروب الصليبية فوضعت كتاب «حياة محمد» ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتدفعها لوضع كتابها الأخير «محمد نبي لزماننا».

والشاهد أنه ربما لا تكون هناك شخصية تعرضت للهجوم المنهجي المستمر في العالم الغربي، مثل شخصية النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ومنذ القرن الحادي عشر شنت أوروبا حروبها طوال ثلاثة قرون لاستعادة الأراضي المقدسة من أيدي الكفار، أتراكا وعربا، وبعد أن أسالوا دماء المسلمين واليهود والمسيحيين الشرقيين، ودماءهم، غادروا المنطقة مخلفين صدعا كبيرا بين أوروبا الغربية المسيحية والشرق الأوسط المسلم.

وربما استمرت هذه الحالة من العداوة لقرون طويلة خلافا على ما نص عليه العهد الجديد من الإنجيل - كما تؤكد كارين - من دعوات السيد المسيح للحب والسلام واجتناب الماديات الدنيوية.

غير أنه ومن أسف فإن الغرب بني الكثير من رؤاه وسياساته على ما جاء في الأسفار الرمزية والكتابات الرؤيوية، التي يجب أن لا تفسر تفسيرا حرفيا، مثل الحديث عن أسطورة نهاية العالم، وضرورة قيام حرب دموية في هرمجدون، وقد رأى مفسروها من اليمين المسيحي في أميركا، أنها حرب نووية يموت فيها مئات الملايين، حتى يهبط المسيح ثانية، ليعيش العالم المسيحي في سلام على دماء ثلث البشرية في أحد التأويلات الغربية.

ولم نسمع عن أحد في الشرق يحذر من ذلك آو يطالب بتغييره، والشاهد أن كارين أرمسترونغ قد تنبهت في أوائل التسعينات لخطورة ما يروجه الأعلام الغربي عن نبي الإسلام، ومن ثم عن المسلمين ويبدو أنها خشيت أن يكون ذلك تمهيدا لمغامرة عسكرية جديدة.. فوضعت كتابها عن شخصية النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

ومع أحداث الصدام التي بدت ظاهرة للعيان منذ الحادي عشر من سبتمبر وحتى الآن، فقد كان لا بد من رجعة تاريخية للزمان والمكان، حتى يمكن استقصاء الأمر على مختلف جوانبه، وهنا تقر كارين أرمسترونغ بأنه لدينا في الثقافة الغربية تاريخ طويل من الرعب من الإسلام (إسلاموفوبيا)، يرجع لأيام الصليبيين، فقد صمم دينيون من أوروبا في القرن الثاني عشر على أن الإسلام دين عنف انتشر بالسيف، وأن محمدا كان دجالا فرض دينه على العالم الرافض بقوة السلاح، وكانوا يسمونه فاسقا ومنحرفا جنسيا.

أصبحت هذه القصة المشوهة عن حياة النبي واحدة من الصور النمطية المقبولة من الغرب، وكان من الصعب على الغربيين رؤية محمد في ضوء أكثر موضوعية.ومنذ تدمير مبنى مركز التجارة العالمي في 11 - 9 استمر أعضاء من اليمين المسيحي في الولايات المتحدة وبعض قطاعات وسائل الأعلام الغربية، في هذا العداء التقليدي.

غير أن كارين أرمسترونغ تدفع بعيدا تلك الاتهامات بقولها، لا يمكننا أن نتحمل إطلاق العنان لهذا النوع من التعصب الأعمى، لأننا بذلك نقدم هدية للمتعصبين الذين يستخدمون هذه الأقاويل لإثبات أن الغرب وفر حرب صليبية جديدة ضد العالم الإسلامي، وتكمل بقولها «لم يكن محمد قط رجل عنف.. لا بد أن نقترب من حياته بطريقة متوازنة حتى نستطيع تقدير إنجازاته المعتبرة.. إن تكريس هذا الإجحاف غير الدقيق يدمر التسامح والتحرر والعاطفة، التي يفترض أنها تشخص الحضارة الغربية.. لكن كيف يمكن تقديم رؤية إيجابية عن الإسلام في زمن تحول فيه إلى حجر رحى في الهجومات من كل صوب وحدب؟».

تشير كارين أرمسترونغ إلى أنها اقتنعت بجدوى البحث عن وجهة نظر إيجابية تقوم في وجه داعمي التيار السودواي السائد فتقول: اقتنعت بهذا منذ خمس عشرة سنة ماضية، بعد فتوى آية الله الخميني بقتل سلمان رشدي وناشريه، بسبب ما رأى أنه تجديف على محمد في كتابه «آيات شيطانية».. لقد اشمأززت من هذه الفتوى واعتقدت أنه من حق رشدي أن ينشر ما يختاره، ولكنني كتبت منزعجة من طريق محاولة بعض مساندي حرية رشدي، في تحويل القضية من شجب الفتوى إلى إدانة للإسلام نفسه، لا تقوم على حقائق يبدو أنه من الخطأ الدفاع فيها عن مبدأ ليبرالي بإحياء تعصب القرون الوسطى، وبدا أننا لم نتعلم شيئا من مأساة ثلاثينات القرن العشرين عندما مكن هذا النوع من التعصب هتلر أن يقتل 6 ملايين يهودي. ولكني أدركت أن كثيرا من الغربيين لم تكن عندهم فرصة لمراجعة انطباعهم عن محمد، لذلك قررت أن أكتب رواية شعبية مبسطة عن حياته لتحدي وجهة النظر «الغربية» الراسخة عنه كانت النتيجة هي كتاب «محمد سيرة النبي».

تصف كارين شخصية الرسول بأنها نموذجية وأن فيها دروسا مهمة، ليس فقط للمسلمين، ولكن أيضا للغربيين، حيث كانت حياته كلها جهادا، كما سوف نرى وهذه الكلمة لا تعني الحرب المقدسة، ولكنها تعني كفاحا؛ كدح محمد بكل معاني الكلمة ليجلب السلام على العرب الذين مزقتهم الحروب، ونحن نحتاج لمن هم مستعدون لعمل ذلك اليوم.

كانت حياته جملة لا تكل ضد الطمع والظلم والتكبر، لقد أدرك أن العرب في مفترق طرق، وأن طريقة التفكير السابقة لم تعد تنفع، لذلك قدم نفسه في جهاد مبتكر لينشئ حلا جديدا تماما، لقد دخلنا تقويما تاريخيا جديدا في 11 - 9 ولا بد أن نكافح بمستوى مماثل لتطوير وجهة نظر مختلفة.

وعند الكاتبة كذلك أنه من الغرابة أن الأحداث التي جرت في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع، بها الكثير الذي نتعلم منه كيف نواجه الأحداث التي تجري في وقتنا هذا، وأهميتها التأسيسية أكثر كثيرا من التعليقات الصوتية للسياسيين.

لم يحاول محمد أن يفرض معتقدا دينيا تقليديا، إنه لم يكن مسرفا في الاهتمام بما وراء الطبيعة «الميتافيزيقيا»، ولكن اهتمامه الأكبر كان تغيير قلوب وعقول الناس، كان يطلق على الروح السائدة في ذلك الوقت الجاهلية عادة، ما فهم المسلمون مقصودة بأنه «زمن الجهل»، وهي فترة ما قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية، ولكن كما أظهرت أبحاث حديثه «محمد» لم يستخدم لفظ الجاهلية ليشير إلى زمن تاريخي، وإنما إلى حالة من العقل التي تسبب العنف والإرهاب في القرن السابع في الجزيرة العربية، وهنا من المثير أن نرى كارين أرمسترونغ تحاجج بأن هناك دليلا كبيرا على أن الجاهلية تعيش في الغرب اليوم كما كانت تعيش في العالم العربي قبل الإسلام.

وعندها كذلك أنه من المفارقات أن أصبح محمد شخصية مجاوزة للزمان، لأنه كان مرتبطا جذريا بزمنه، وأنه لا يمكننا فهم إنجازاته، إذا لم نقدر ما كان يعمل ضده، وحتى يمكننا فهم ما يمكن أن يقدمه لمأزقنا، لا بد أن ندخل العالم المأساوي الذي جعله نبيا منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وهو على قمة جبل خارج المدينة المقدسة مكة.

تقول كارين: إننا نعرف القليل عن تلك السنوات الأولى في حياة النبي، ولكن يمكننا أن تستنتج السيرة اللاحقة، إن محمدا قد أدرك الخلل الذي أصاب مكة خاصة في أجيالها الجديدة، فقد أصبحت التفرقة واضحة بين الأغنياء والفقراء عاش الأوائل حول الكعبة وعاش الباقون في أطراف مكة البعيدة، وتخلى أهل مكة عن المروءة والكرم وانقلبوا بخلاء تحت زعم مهارة التجارة والاقتصاد وأصبح بعضهم لا يؤمن بالقدر، بعد أن نجح في تغيير حظه بل وصل ببعضهم التفكير إلى أن الثراء سيجلب لهم نوعا من الخلود.

تزايد إدراك محمد بأن قريشا تخلت عن أفضل ما في المروءة، وأبقت أسوأ صورها من طيش وتكبر إلى إحساس متضخم بالذات، مما يدمر أخلاقيات المجتمع ويؤدي به إلى الهلاك.

اعتقد بوجوب إجراء إصلاح اجتماعي مبني على حل أخلاقي وروحي جديد وإلا فلن يؤتي ثماره.. ربما أدرك في أعماقه بأن له موهبة استثنائية ولكن ما عساه أن يفعل؟ لن يأخذه أحد على محمل الجد.. كان هناك قلق واضطراب وروحي واسع، لقد طور العرب الذين استقروا في المدن والمجتمعات الزراعية في الحجاز رؤية دينية جديدة، وصاروا أكثر اهتماما بالآلهة من البدو ولكن آلهتهم البدائية كانت عديمة الجذور في الجزيرة العربية، ورويت قصص أسطورية قليلة جدا عن آلهة متنوعة كان، الله أهم إله، وكان ينظر إليه أيضا على أنه إله الكعبة، ولكن كان ينظر إليه مثل بقية الآلهة العليا أو آلهة السماء المعروفة في الأديان القديمة.

لم يطور الله لهم عبادة متكاملة، ولم يصنعوا له تماثيل، يعرف كل الناس أن الله خلق العالم وأنه يضع الحياة في الأرحام، وأنه يسقط الأمطار، ولكن ظلت تلك المعتقدات مجرد صلاة العرب لله في الأزمات، ولكن تناسوه كلية بعد انتهاء الخطر، وفي الحقيقة بدا الله بذلك - على حد قول المؤلفة - كأب غير مسؤول غائب ترك العالم بعد أن خلقه.

ورغم أن تلك الآلهة لم يكن لها أصل في مكة، فقد أحبتها قريش وتوسلت إليها للتوسط بينها وبين الله الذي لا يمكن الوصول إليه.هكذا كانت حالة العرب غارقة في الوثنية، وما بين حياة النبي وموته رحلة طويلة من الدعوة إلى التوحيد وعبادة الإله الحقيقي الواحد الأحد الفرد الصمد، وهذا هو تأثير ورسالة محمد التي تركها من خلفه.

ويبقى التساؤل ما الذي يحتاجه زماننا لفهم الإسلام ونبيه فهما صحيحا مريحا لا لبس ولا غش فيه، ولا التواء على دروب اللقاء؟

تجيب كارين أرمسترونغ: «إن زماننا يحتاج إلى روح نقدية.. يعتبر بعض المفكرين المسلمين أن ذروة مهمة محمد هي جهاده ضد مكة، ويقصرون عن رؤية شجبه لأعمال الحرب وتبنيه لسياسة اللاعنف».

كذلك يصر النقاد الغربيون على رؤية محمد كرجل حرب، ويقصرون عن رؤية معارضته منذ البداية لروح التكبر والأنانية الجاهلية، التي أسفرت عن العدوان على الآخرين، ليس فقط في عصره ولكنها ما زالت متقمصة بعض قادة الغرب وقادة المسلمين على حد سواء.

الآن يتحول النبي الذي كان هدفه السلام والتراحم إلى رمز للفرقة والنزاع، في تطور ليس فقط مأساويا، ولكنه أيضا خطير على الاستقرار الذي يعتمد عليه مستقبل البشر وتصل المؤلفة في نهاية كتابها إلى القول: إنه في نهاية محاولتي الأولى لكتابة سيرة محمد نقلت كلمات المعاني التي أبصرها العالم الكندي ويلفريد كانتويل سميث، حين كتب في منتصف القرن العشرين قبيل أزمة قناة السويس ملاحظا أن التطبيق الصحي للإسلام، ساعد المسلمين لعدة قرون على التمتع بقيم جديرة بالاحترام، بالمشاركة مع الغرب لأن تلك القيم تنبع من تقاليد مشتركة..

وتنتهي بالقول: لقد أظهر التاريخ القصير للقرن الحادي والعشرين أن الشرق والغرب، لم يتقنا الدرس بعد، وإذا أردنا اجتناب الكارثة فعلى المسلمين وعلى العالم الغربي أن يتعلموا ليس فقط التسامح مع الآخر بل تقديره، ونقطة انطلاق طيبة هي شخصية النبي محمد الذي يستعصي على التصنيف الإيديولوجي ذي العبقرية الأصيلة الذي أسس دينا وتقاليد ثقافية، ليس على السيف ولكن على السلام كما يعني اسم الدين وعلى التصالح كذلك.

* كاتب مصري