كيف يمكن الخروج من الاستغلال والاستنزاف؟

رضوان السيد

TT

اشتهر عن الأستاذ الراحل مالك بن نبي قوله إن الأكبر من تحدي الاستعمار، إنما يبقى تحدي القابلية للاستعمار! وكذلك الأمر - مع الفارق- فيما يتعلق بالدين. فالمعروف أن الديانات الإبراهيمية هي ديانات تبشيرية أو دعوية، بمعنى أنها تقول بحصرية الحقيقة، وتدفع في اتجاه الإيمان بها بضغوط شديدة. وصحيح أن اليهودية ما عادت دينا تبشيريا منذ زمن طويل، لكن أتباعها تمسكوا بها عبر آلاف السنين مما يشعر بجاذبيتها الشديدة لدى من اعتادوا عليها. والواقع أن قوة الدين وقوة جاذبيته هي التي تدفع فرقاء لاعتناقه والانصراف للانحياز إليه في شتى المواقف والظروف، وقد يكون الانحياز ظاهرا أو بقصد التضليل والاستغفال والاستغلال! واستغلال الدين من أجل الإفادة منه معروف جيدا في العالم الحديث، وأفظع جرائمه إقامة الدولة الصهيونية/ اليهودية على أرض فلسطين. ولا تزال الحاخامية العليا في إسرائيل هي التي تحدد من هو اليهودي الذي يستحق المجيء إلى إسرائيل! وبالطبع فإن هذا الاستغلال قد يكون استراتيجيا وشاملا مثلما فعل الصهاينة، وقد يكون جزئيا مثلما فعل بن لادن، عندما اعتبر نفسه وأتباعه مجاهدين لإحياء قيم وفرائض تخلى عنها المسلمون الآخرون، وأراد هو ومن شايعه أن يواجه المسلمين «الغافلين» والعالم بها.

إن السؤال الذي أعيد طرحه عشرات المرات في العقود الماضية، يتصل بطبيعة الدين الإسلامي من جهة، وإمكان استغلاله في مسارات عنفية أو عنيفة. وإذا كانت أكثر الدراسات والاستطلاعات من هذا النوع قد اتخذت طابعا سياسيا واستراتيجيا؛ فإن هناك بحوثا من جانب أكاديميين مسلمين، حاولت طرح هذا السؤال من الجانب الأكاديمي التي ذهبت إلى موضوعيته وعدم تأثره بالظروف الحديثة والمعاصرة. من هذه الكتب أو البحوث كتاب للأكاديمي المسلم شابير أكبر الذي يدرس في إحدى الجامعات الأميركية. سمى أكبر كتابه الصادر عام 2010 «الإسلام بوصفه دينا سياسيا.. مستقبل ديانة إمبريالية». والعنوان في حد ذاته صادم بجزأيه: اعتباره الإسلام دينا سياسيا، واعتباره له استطرادا دعوة إمبريالية، أي تتقصد الامتداد عن طريق الفتوحات. أما فصل الكتاب الأول فهو بعنوان: الدعوة النبوية، أو الإسلام باعتباره دينا مستقلا وخاتما للديانات الإبراهيمية. وهو يدرس فيه ثلاث مسائل: الدين النبوي، والدين الكتابي، والدعوة العالمية. في الجانب النبوي يعتبر الكاتب أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - اعتبر الدين الذي بعث به دينا نبويا، أي إنه مثل الديانات الإبراهيمية الأخرى. بل أكثر من ذلك، فقد اعتبر أنه مثل مصحح للانحرافات التي داخلت التوحيدية الإبراهيمية. وبذلك فهو الدين الإبراهيمي الأصلي ذاته والذي يعتمد مبدأ الرسالة الإلهية المقررة والنهائية شأن ما كانت عليه دعوة إبراهيم أبي الأنبياء. أما نهائيته المستندة إلى عودته للأصل الإبراهيمي الأول فهي ثابتة من خلال كونه دينا كتابيا، أي إنه كما يملك النبوة الخاتمة المنجزة لدعوة إبراهيم؛ فإنه يمتلك الطرف الآخر من المعادلة بأنه بعث بكتاب سيظل هو الهادي والوارث والنهائي بمقتضى هذا الميراث وهذا الثبات وهذه النهائية. فالقرآن الكريم هو الرسالة الإبراهيمية، وهو الرسالة المحمدية التي تدعى إليها البشرية كما دعاها إليها إبراهيم وأبناؤه وأحفاده من الأنبياء؛ بل إنه في أصله البعيد يمثل دعوة آدم أبي البشر منذ كانوا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فالإنسان بمقتضى هذا الدين مخلوق لله عز وجل، ومأمور بعبادته، ومستخلف على إعمار الكون بمقتضى الاعتقاد التوحيدي، والقيم العبادية والأخلاقية الكبرى. ولهذا كله فإنه في رؤية القرآن، وفي رؤية النبي، هو دين عالمي، ويحمل دعوة عالمية للخلاص ستظل ديدن كل المؤمنين به إيمانا واعتقادا ونشرا.

وبمقتضى هذا التأصيل وهذا الفهم للرسالة القرآنية، يعقد المؤلف فصلا ثانيا بعنوان: الولادة المزدوجة، أي بزوغ الدين، وبزوغ المفهوم الجديد للقوة. فالإسلام دين سياسي لأن النبي محمدا أنشأ دولة لتكون البيئة التي تنطلق منها الدعوة للامتداد في العالم بالمعنى السياسي لذلك. ولذا ينطرح منذ البداية السؤال الآخر: هل الإسلام إيمان ينشئ جماعة مؤمنة، أم أنه بالإضافة إلى ذلك هو آيديولوجيا فاتحة ومنتشرة بمقتضى تلك الرؤية التي تقع الدعوة ويقع الفتح في أصل قيامها. وهكذا ينتهي المؤلف في فصل كتابه الثاني إلى فقرة تقول إن الإسلام هو دين فاتح أو إمبريالي. وكما سبق القول فإنه أصل ذلك على ازدواجية الإسلام منذ البداية: إيمان أو اعتقاد وآيديولوجيا فاتحة في الوقت نفسه. بيد أن الكاتب يستشكل هنا مسألة مؤداها أنه لا جدال في أن الدين الإسلامي خلال تجربته الوسيطة امتلك طابعا تشريعيا أو قانونيا، بمعنى أنه ينظم مجتمعه الأصلي في سائر الشؤون، وأنه بالتالي ينشر مسائله التنظيمية والقانونية على امتداد الديار التي ينتشر فيها. وما يستشكله الكاتب أن هذا الطابع ليس واضحا تماما في القرآن، فهل التنظيمات القانونية نابعة من القرآن أم أنها فيما يتجاوز العبادات والطقوس جاءت فيما بعد خلال التجربة الإمبريالية أو تجربة الفتوح والامتداد التاريخي.

إن الطريف أن المؤلف بعد أن عرض في فصلين اثنين الدعوة الإسلامية باعتبارها نهائية الطابع، وباعتبارها عالمية، وباعتبارها فاتحة، يعود في الفصل الثالث ليعرض وجوها أخرى للإسلام إن لم تناقض ما سبق أن قرره، فإنها على الأقل مختلفة عنه. عنوان الفصل الثالث: بوتقة العقل أو بوصلته، الإسلام بوصفه ديانة معاصرة. وعصرانية الإسلام تبدو في نظر المؤلف في ثلاثة أوجه للتجلي: الدين العقلاني، والدين الأخلاقي، والدين الضابط لذهنية الفرد وسلوكه. يبدو الوجه العقلاني في التفكير الدنيوي المتقدم - إذا صح التعبير- والذي ينشره المسلمون فيما بينهم، ويعرضونه على العالم أيضا. فالأمة الإسلامية تتحرك في شتى مجتمعاتها بحرية، ويتعايش أهلها مع العالم بدون مشكلات كبرى، وبنظرة يقولون إنها تقع في أصل دعوة النبي، وأصل رسالة القرآن. ويمتلك المسلمون مبادئ أخلاقية يتعاملون بها فيما بينهم ومع العالم تؤكد على قيم وفضائل الرحمة والعدالة والمساواة وتقصد التعارف وعمل الخير. وهذه القيم ليست للدعاية أو حتى للتواصل المعلن؛ بل هي قيم حاكمة في تصرفات الأفراد فيما بينهم، وتصرفات الواحد منهم مع الآخرين ممن لا يؤمنون بالإسلام. فالمسلم يمتلك نفسية مطمئنة ومسالمة ووديعة وأخلاقية. وتستند أكثرية المسلمين إلى تراث صوفي غني، يبدو الآن في صورة إحياء قوي لتلك التقاليد العريقة.

وبالنظر إلى الجانبين اللذين عرضهما أكبر للإسلام، وأحدهما كلاسيكي، والآخر معاصر، يعود الكاتب في الخاتمة أو التذييل إلى طرح أسئلة سبق أن عرض لها في مقدمته الطويلة. يقول المؤلف إن العقود الأخيرة، وفي ضوء الأحداث والتطورات، غلبت الجوانب السلبية على الصورة العامة، وسواء لجهة النظر إلى القرآن أو لجهة النظر إلى مسالك المسلمين. وهو يقصد بالجوانب السلبية ثلاثة أمور قال بها أو ادعاها كثيرون في الغرب على الأقل: أن الإسلام دين عنيف أو في أحسن الحالات دين انعزالي بحسب ما يرى في سلوك المسلمين تجاه الأغيار. وأن المسلمين يواجهون مشكلات كبرى مع الحداثة وما توصلوا إلى حل أي مشكلة من الناحية النظرية؛ بمعنى أن رؤية العالم لديهم لا تزال شديدة الاضطراب، فيها العنف، وفيها الانكفاء، وفيها التجاهل لتطورات العالم. والأمر الثالث: أن المسلمين لا يظهرون استعدادات واضحة للتفكير في المستقبل مع العالم وفيه. إذ لديهم شكوك كبرى وهواجس بشأن نيات الآخرين وتصرفاتهم نحوهم، وهم لا يبذلون جهدا ملحوظا للخروج من المأزق أو التصرف وفتح الآفاق والخيارات المتعددة.

وإذا كانت هذه التصورات تجاه الإسلام والمسلمين قد انتشرت في العقود الأخيرة؛ فإن المؤلف يرى أن المسألة هنا ليست مسألة عدل أو ظلم أو مؤامرة، بل يكون علينا نحن المسلمين، ومن خلال مثقفينا وشبابنا أن نحدد رؤى وتوجهات للمقاصد والأهداف الكبرى، آخذين في الاعتبار بالطبع الرسالة القرآنية في جانبها القيمي الكبير، والتجربة التاريخية لأمتنا وثقافتنا وحضارتنا. فقد أظهر الإسلام وأظهر المسلمون قدرات هائلة على الصبر والتجلد والانطلاق مع العالم وفيه. إن المشكلة كانت ولا تزال في ذلك الاستنزاف الهائل الذي تعرضنا له، والذي لا يتصل وحسب بموقف العالم منا، بل وبإدراكاتنا العميقة نحن لكيفيات التجاوب مع الرسالة الأصلية، ومع متغيرات العالم. ويرى المؤلف أخيرا أن هذا الموقف الذي نجد أنفسنا فيه، يحتاج لمواجهته إلى نهضة في الفكر الإسلامي أو إلى إصلاح ديني ما قامت به نخبنا العالمة خلال القرن العشرين، ليس بسبب القصور فقط؛ بل وبسبب الظروف التي تعرضنا لها ولا نزال. لقد ظهر من المرحلة الماضية، أن الإسلام يمكن استغلاله من جانب الخصوم ومن جانب الأصدقاء. وأول مهمات حركة النهوض جعل هذا الدين الكبير غير قابل للاستغلال في المسائل والنقاط التي ظهرت خلال القرن العشرين المنقضي.