الحسن البصري.. وموقفه من أزمة السلطة في عصره

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

يمكن القول إن ثمة خطين متكاملين كانا يحكمان طبيعة العلاقة التي تربط ممثلي السلطة الدينية من علماء وفقهاء ومتصوفة بممثلي السلطة السياسية من خلفاء وملوك وأمراء، وهذان الخطان هما:

أولا: خط المبادئ الأساسية والقواعد المذهبية الثابتة، والعمل على تجسيدها من خلال التنشئة الروحية والسياسية والتوعية والقيام بحق المسؤولية الاجتماعية.

وثانيا: خط المواقف التكتيكية التي تتأزم أحيانا لدرجة تبيح فيها الخروج على السلطة، أو على الأقل مقاطعتها ومعارضتها في أغلب الأحوال، أو التصالح والتعاطي معها، ولو كنوع من «التقية»! وضمن هذين الخطين يمكن قراءة تجربة الإمام الحسن البصري (21 - 110هـ) الثرية في مجملها، خاصة ما يتعلق منها بموقفه العام من السلطة السياسية في عصره.

ومما لا شك فيه أن الأسباب التي تدفع بالسلطة الحاكمة لاتخاذ مواقف عدائية تجاه ممثلي التيارات الدينية تتعدد بحسب اختلاف الأمكنة والأزمنة، وبالمثل تتعدد تمظهرات ردود الفعل بالنسبة للعلماء من موقف السلطة القائمة، حيث تؤطر بعض الأفكار لنزاعات وصراعات مع آيديولوجية الدولة الرسمية.

وضمن هذا الإطار العام تنتمي معظم مواقف الحسن البصري من السلطة الأموية، خاصة ما يتعلق منها بتبنيه القول بالقدر (حرية الإرادة الإنسانية) في مقابل عقيدة الجبر الأموية. فمن شأن النظرة الدقيقة الفاحصة لمواقف الرجل تجاه ممثلي السلطة السياسية في عصره أن تصل بنا إلى نتيجة مهمة مفادها: أنها كانت تنتظم ضمن هذين الخطين بوضوح شديد.

فمن ناحية، انتقد الحسن البصري الحجاج بن يوسف الثقفي أشد انتقاد، وكان حكمه فيه أنه فاجر فاسق. ولا يقصد بالفجور هنا معناه الجنسي؛ وإنما المعنى العام للعصيان وارتكاب الكبائر كالقتل ونحوه.

ويتصل بهذا ما قاله الحسن البصري حين رأى الدار التي بناها الحجاج بمدينة واسط سنة 86هـ، فلما دخلها قال: «الحمد لله، إن الملوك ليرون لأنفسهم عزا، وإنا لنرى فيهم كل يوم عبرا. يعمد أحدهم إلى قصر فيشيده، وإلى فرش فينجده، ثم يحف به ذباب طمع، وفراش نار، وأصحاب سوء، فيقول: انظروا ما صنعت! فقد رأينا أيها المغرور! فكان ماذا يا أفسق الفاسقين؟ أما أهل السماوات فقد مقتوك، وأما أهل الأرض فقد لعنوك، بنيت دار الفناء وخربت دار البقاء، وغررت في دار الغرور لتذل في دار الحبور!، ثم خرج وهو يقول: إن الله سبحانه وتعالى قد أخذ عهده على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه»! ومن ناحية أخرى؛ ينتظم موقفه إزاء غضبة الحجاج من فعله هذا ضمن جملة المواقف التكتيكية التي اتبعها العلماء لتحاشي الصدام مع السلطة القائمة. فالحجاج، طاغية العراق، ما إن سمع بقول الحسن هذا حتى سارع بطلب إحضاره، فجاء وهو يحرك شفتيه بما لم يسمع، حتى دخل عليه فقال الحجاج: يا أبا سعيد! أما كان لإمارتي عليك حق حين قلت ما قلت؟ فقال البصري: يرحمك الله أيها الأمير! إن من خوفك حتى تبلغ أمنك أرفق بك، وأحب فيك ممن آمنك حتى تبلغ الخوف، والأمران بيدك: العفو والعقوبة، فافعل الأولى بك، وعلى الله فتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، فاستحيا الحجاج منه واعتذر إليه!! ويبدو لي أن الحسن البصري كان يميل إلى التراجع حين يحين موعد الاصطدام بالسلطة مباشرة ووجها لوجه، وربما كان ذلك تماشيا مع مبدئه القائل بعدم جواز الخروج على الإمام برا كان أو فاجرا، لكن ذلك لم يمنعه بحال من الأحوال من أن يدلي بشهادته انصياعا للأمر الإلهي «ليبيننه للناس ولا يكتمونه» إنه فقط يقول رأيه، ولا يلجأ إلى العنف في الدفاع عنه، ولا يحتمل الاستشهاد في سبيله، خاصة بعد أن عاين بنفسه جرائم الحجاج وقتله سعيد بن جبير وأمثاله.

وفي السياق ذاته، يأتي موقف الحسن البصري من مسألة حكم الخروج المسلح على الحجاج؛ فحين سئل عن ذلك أجاب بالقول: أيها الناس، اتقوا الله وتوبوا إليه يكفكم جوره، واعلموا أن عند الله حجاجين كثيرا!! وكأنه يروم إصلاح القاعدة/ الرعية أولا مما سيفضي إلى إصلاح قمة الهرم السياسي بالتتابع.

أما الحجاج؛ فظل على رأيه وتوجسه من سطوة نفوذ الحسن البصري، بل إنه كان يتهكم عليه قائلا: غلبني علج (أي فلاح من السكان الأصليين) تواريه أخصاص البصرة! وفي الأحوال كلها؛ فمما لا شك فيه أن الجانب السياسي قد أثر في حياة الحسن البصري تأثيرا مباشرا، فالدولة لا ترى في أمثاله الراحة ولا الاستقرار، حتى وإن تواروا في زوايا المساجد وأركانها وغضوا الطرف عن كل تجاوزاتها بحثا عن الشرعية الغائبة.

والدليل على ذلك؛ أنه حين سأله الحجاج عن رأيه في أمر عثمان وعلي، رضي الله عنهما، أجابه قائلا: أقول قول من هو خير مني عند من هو شر منك: قال فرعون لموسى «فما بال القرون الأولى، قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى»، علم علي وعثمان عند الله. فرد الحجاج قائلا: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد! ودعا بغالية وغلف بها لحيته!! على أن المسألة الأكبر التي عارض فيها الحسن البصري آيديولوجية الدولة الأموية، كانت تتعلق بالقدر، فقد كان كل من معبد الجهني وعطاء بن يسار يأتيانه فيسألانه ويقولان: يا أبا سعيد، إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون الأموال بغير حق ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله. فكان يقول: كذب أعداء الله! وهو موقف صريح سرعان ما تراجع عنه الحسن البصري تحت الضغوط المزدوجة من قبل ممثلي السلطتين: السياسية والدينية، فقد أرسل إليه الخليفة عبد الملك بن مروان رسالة يستفسر فيها عن قوله بالقدر، فرد عليه برسالة شرح فيها حيثيات قوله هذا معللا إياه بملابسات خاصة تتمثل في حرصه التأكيد على نفي نسبة المعاصي إلى الخالق عز وجل. يقول الحسن في موقفه الجديد هذا: «كل شيء بقضاء وقدر؛ إلا المعاصي»، وهي صيغة معدلة تراجع بها البصري عن أقواله السابقة.

ومن ناحية أخرى، بدلا من أن يلقى هذا الطرح القائل بحرية الإرادة الإنسانية والمنتصر لقضية العدل في مواجهة السلطة، موافقة جمهور الفقهاء والمحدثين، كان نصيب القائلين به أن تبرأ منهم المتأخرون من الصحابة وأوصوا أخلافهم بألا يسلموا على القدرية ولا يصلون على جنائزهم ولا يعودوا مرضاهم!! ليس غريبا إذن - والحال هذه - أن يتراجع الحسن البصري عن القول بالقدر، خاصة بعدما عاين مقتل كل من معبد الجهني (80هـ) وغيلان الدمشقي (99هـ)، بينما ذبح الجعد بن درهم، تحت المنبر يوم عيد الأضحى، على يد خالد بن عبد الله القسري، والي الكوفة، سنة 120هـ! بعد وفاة الحسن بعقد من الزمان! ورغم ذلك، لم يكف الحسن مطلقا عن نقد الولاة والحكام صارخا في الناس: أيها الناس، لا تنظروا إلى ترف عيشهم ولين رياشهم، ولكن انظروا إلى سيرة طعنهم وسوء منقلبهم. لقد حدثت عن بعض الصحابة - رضوان الله عليهم - أنه كان يقول: إن من أشراط الساعة أن يكون في الأرض أمراء فجرة، ووزراء كذبة، وأمناء خونة، وعلماء فسقة، وعرفاء ظلمة، وإني لأتخوف أن يكون وقتنا هذا، يقول الحسن، فما الظن لو عاش في عصرنا الحالي!! من جهة أخرى، عندما تولى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أمر الخلافة كتب إلى الحسن البصري أن يعظه، فأرسل إليه رسالة «الإمام العادل»، فلما قرأها الخليفة الزاهد قال: «يرحم الله الحسن؛ فإنه لا يزال يوقظنا من الرقدة، وينبهنا من الغفلة، ولله من مُشْفقٍ ما أنصحه، وواعظ ما أصدقه وأفصحه».

يتحصل مما سبق؛ أن أحكامه السياسية لم تكن على نحو ما كان مألوفا وقتذاك، أي إعلان بالولاء لحزب من الأحزاب السياسية بعينها؛ وإنما كانت تنبع من فرط التزامه بمبادئه الدينية. فلقد نقد الحسن بلا هوادة حكام زمانه وحيثما أبعد في النقد فسخط عليه الحجاج لم يجد بدا من الاختفاء حتى أدركت المنية هذا الوالي. ومع ذلك؛ فإنه لم يرض مطلقا عن أولئك الذين شاركوا في محاولات «تغيير المنكر» باليد؛ أي الإطاحة بالولاة غير الصالحين عن طريق حمل السلاح.. وتلك قضية أخرى!!

* كاتب مصري