روان ويليامز أسقف صديق للإسلام والمسلمين

إميل أمين

TT

أحسب أنه من الضروري أن نتوقف للتزود بمدد روحي إنساني، من خلال سيرة ومسيرة رجال لعبوا جسرا وقنطرة بين الغرب والإسلام.

وغاية المراد من هذه السلسلة التأكيد على أن التعميم خطيئة لا تغتفر، ففي كل مكان وزمان توجد ركب لا تجثو لبعل الكراهية، ولا تتعبد في محراب العداوات. ومن بينها وفي مقدمتها يأتي الحديث عن الأسقف البريطاني رئيس الكنيسة الإنجليكانية، روان ويليامز.

وروان ويليامز هو أول زعيم ديني في أوروبا الحديثة يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية فيما خص المسلمين المقيمين في أوروبا، وهو في الوقت ذاته الرجل الذي يرى أن الجدار العازل يعكس الخوف واليأس، والجدار ولا شك هو جدار إسرائيل العنصري.

لا يتوقف روان ويليامز أمام النصوص الدينية بوصفها ألواحا محفوظة غير قابلة للنقاش أو الجدال، بل يرى أنها مسخرة لخدمة الإنسان، ولهذا فإنه كان يثير، مؤخرا، ثائرة الحكومة البريطانية لتدخلاته السياسية، أما عن تلك التدخلات فهي تتعلق بتصريحاته المرتبطة بالأزمة المالية العالمية.

يقول روان ويليامز: «إن هؤلاء الذين يحققون فائدة كبيرة من الدولة، وعلى رأسهم المصرفيون وأعضاء البرلمان، لا ينبغي أن يتجاهلوا الفقراء، وخاصة الأطفال، الذين لم يختاروا الفقر».. ويضيف: «إن كثيرا من العاطلين عن العمل ليسوا كسالى أو فاسدين، لكنهم ضحايا الظروف التي ستجرهم لدوامة اليأس».

يمكننا البدء في الحديث عن روان ويليامز انطلاقا من تصريحاته الأخيرة، التي تتقاطع مع الأزمة المالية العالمية المهيمنة باحتراف على المشهد الدولي الآني، وفي إنجلترا على وجه الخصوص، لا سيما أن تصريحاته الأخيرة في هذا السياق قد أثارت ضجة واسعة في عموم بريطانيا وعلى الساحة الدولية، وطرحت أسئلة كثيرة حول دور المؤسسات الدينية، ورجال الدين عموما، في الحياة العامة للمجتمعات الإنسانية.. ما الذي قاله رئيس أساقفة كانتربري ودعا لردود الأفعال تلك؟

قال رجل الدين البريطاني الشهير: «إن المصرفيين مثل عبدة الأصنام، ولم يعلنوا توبتهم بعد»، وقد جاءت هذه التعليقات عبر برنامج «نيوز نايت» الإخباري، وبصورة واضحة لا لبس فيها، وتضمنت هجوما شديدا على النظام المصرفي البريطاني والعالمي، وعلى الجشع المنقطع النظير للمصرفيين الذين تخطوا كل الحواجز القانونية والأخلاقية في سعيهم إلى تكديس الأرباح والمنافع الشخصية، لدرجة فاقت طاقة المصارف ذاتها على التحمل، وأدت بها إلى الانهيار، جالبة معها المآسي والعذاب والتشرد والجوع لمئات الملايين من الناس العاديين الأبرياء، الذين فقدوا مدخراتهم ووظائفهم، وانضموا إلى صفوف العاطلين عن العمل والمتسولين للقمة العيش.

ولعل الأمر المثير للغاية في تصريحات روان ويليامز هو تأكيده على أن الأزمة الاقتصادية الحالية، واتساع الهوة بين الغني والفقير، ستؤدي حتما إلى الاختلال الوظيفي للمجتمع بأكمله، وقد رفض اعتبار أن الأزمة الاقتصادية انتهت، وأن الاقتصاد مهم لدرجة أنه يجب أن لا يترك فقط للاقتصاديين، الأمر الذي يؤشر لتدخله شخصيا، كرجل دين، في الجدل الدائر حول الأزمة الاقتصادية ومخاطرها على الحياة العامة للناس.. هل كانت هذه التصريحات هي الأولى من نوعها المثيرة للجدل فيما خص روان ويليامز؟

قطعا لا، ففي العام الماضي أشار الرجل، على هامش الأحاديث الكثيرة حول فشل النظام الرأسمالي بشكل أو بآخر، إلى أن كارل ماركس، الذي يعتبر الأب الروحي للحركة الشيوعية العالمية، «كان على حق في بعض جوانب نقده للنظام الرأسمالي العالمي»، خصوصا في تشخيصه لكيفية تحول الطبقة الرأسمالية إلى عبادة المال، عوضا عن عبادة الله. هذا الحديث نشره الأسقف روان ويليامز في مجلة «ذي سبيكتاتور» الناطقة بلسان حزب المحافظين البريطاني، العدو اللدود للشيوعية، ودعا إلى توزيع عادل للثروة، وقال إن الرأسمالي الناجح والجيد هو «الذي يرفع من مستوى معيشة الناس المحيطين به، وليس إفقارهم»، مشددا على ضرورة وضع حد لتغول الطبقة الرأسمالية، والبنوك بشكل خاص، التي يتردد على لسان الكثيرين في بريطانيا أن أبنيتها الكلاسيكية في حي «سيتي» للمال والأعمال وسط لندن أشبه بالمعابد القديمة.

لم يكتف الرجل بترديد هذا الحديث شفاهة، بل قام بتسجيله في شرائط فيديو ووزعها على كل تابعيه، مطالبا إياهم بالعمل على محاربة الفقر.. هل كان روان ويليامز عبر هذه الدعوة عامل إزعاج للرأسمالية الضاربة جذورها في بطن الإمبراطورية المالية الإنجليزية؟ ذلك كذلك بالفعل، فهو كرجل دين يصيح على الدوام بحتمية إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

وفي السابع من فبراير (شباط) من عام 2008، وبدعوة من محفل للمحامين البريطانيين، كان روان ويليامز يتحدث عن دور الإسلام في المجتمع البريطاني، وقد قال الرجل ضمن ما قال: «إن تبني بعض عناصر الشريعة الإسلامية في القانون البريطاني بات أمرا لا راد له»، وإن على بريطانيا أن تواجه حقيقة أن عددا من المواطنين لا يعتمدون كثيرا على النظام القانوني البريطاني، وأضاف قائلا: «إن تطبيقا جزئيا لبعض قواعد الشريعة الإسلامية قد يساعد على بلوغ انسجام اجتماعي»، وضرب مثلا على ذلك بأن يمكن المسلمون من فض نزاعاتهم العائلية والمالية أمام محاكم شرعية، وقال ويليامز: «لا ينبغي أن يفرض على المسلمين الخيار الصعب بين الولاء الثقافي والولاء السياسي».

اشترط الزعيم الديني الإنجليكاني لهذا الأمر تفهما عميقا لقوانين الشريعة الإسلامية، مشيرا إلى أن الرأي العام في الوقت الراهن لا يزال تحت سطوة بعض التقارير الإعلامية المغرضة.

وأوضح قائلا: «لا أحد يمتلك عقلا سويا يريد أن يرى الشريعة تطبق في هذا البلد بالطريقة اللاإنسانية التي ترتبط بتطبيقها أحيانا في بعض البلدان»، على حد قوله.

كان روان ويليامز واضحا وصادقا مع ذاته في قوله: «لا مفر من أن تفسح بريطانيا لمسلميها البالغ عددهم 1.7 مليون نسمة المجال؛ حيث إنه لا يتعين إرغام المسلمين على الاختيار بين الولاء الثقافي أو الولاء للدولة». وإنه «من غير المريح أن يرسخ في أذهاننا عن القانون شيء شبيه بعنصر السوق، أي منافسة على الولاءات، وذلك على نحو ما يرى البعض».. كيف كانت ردود الفعل في مواجهة ما ذهب إليه رئيس أساقفة كانتربري؟

حتما ولا بد كانت الإسلاموفوبيا الأوروبية كائنة خلف الباب رابضة لتصريحات الرجل التقدمي، الذي وصف بأنه أسقف لكل العصور.

أول تلك المواقف جاء وقتها من جانب الحكومة العمالية بزعامة جوردن براون، التي قالت في بيان لها: «إن رئيس الوزراء يعتقد أن القانون البريطاني الذي يستند إلى القيم البريطانية هو الذي يتعين أن يطبق في هذا البلد».

وبينما رأى رئيس الكنيسة الإنجليكاني أن فتح الباب أمام مناقشات مفتوحة حول تلك القضية الحساسة أمر ضروري لدعم التماسك الاجتماعي، ووقف عملية «الابتعاد» للشباب المسلم التي طال الحديث عنها، بعد هجمات عام 2005 في لندن، قال منتقدون: «إن الفوضى الاجتماعية ستكون هي النتيجة».

أما نيك كليغ، زعيم الحزب الليبرالي، فقد قال: «المساواة أمام القانون هي اللحمة التي تربط مجتمعنا بعضه ببعض».

هل تتوقف آراء روان ويليامز عند حدود القضايا ذات الأبعاد الفقهية أو اللاهوتية، أم تمتد كذلك إلى القضايا السياسية والصراعات الملتهبة حول العالم؟

قطعا نرى للرجل مواقف سياسية واضحة وحادة وإيجابية في الوقت نفسه، وقد تبدى أحدها في أثناء زيارته لكاتدرائية سان جورج الخاصة بالكنيسة الإنجليكانية في القدس الشرقية المحتلة، إذ اعتبر أن الجدار الفاصل الذي كانت إسرائيل تشيده وقتها يعد رمزا رهيبا للخوف واليأس الذي يشعر به الإسرائيليون والفلسطينيون، داعيا الشعبين بدلا من ذلك لبناء سلام مشترك، وأضاف: «إن الجدار الأمني يشكل رمزا رهيبا للخوف واليأس، الذي يهدد الجميع في هذه المدينة وهذا البلد، وكل من يتقاسمون الأرض المقدسة».

في عظته، كانت خلفية روان الدينية مسخرة لمصلحة الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وموجها إياها لخدمة المصالحة بين البشر.. قال يومها إن الكثيرين ينظرون إلى الجدار الذي تبنيه إسرائيل لتفصل نفسها عن الضفة الغربية على أنه تحرك من جانب مجموعة بشكل حاسم تدير ظهرها لأخرى، وتيأس من التوصل إلى أي شيء يشبه حلا مشتركا أو مستقبلا مشتركا أو سلاما مشتركا.

ويحلل روان ويليامز ظاهرة الجدار بقوله: «إن الحاجز ليس هو المثال الوحيد على رفض التفكير في مستقبل مشترك، كما أن أشلاء جثث منفذي التفجيرات وضحاياهم تشكل علامة أعمق على رفض هذا المستقبل، واختيار الظلمة والاغتراب المتبادل».

وقد أجمل رأيه في هذا الجدار بأنه جدار العداوة الذي لا بد أن يزول، واستشهد في حديثه ببعض النصوص الدينية المسيحية التي أشارت إلى العداوة التاريخية القديمة بين اليهود وغيرهم من الأمم حول العالم.

وقد كانت تصريحات روان ويليامز صادمة ولا شك للحكومة الإسرائيلية، فالرجل يأتي من البلاد التي صدر عنها وعد بلفور، والتي تسببت في مأساة الشعب الفلسطيني حتى اليوم، لكنها شهادة حق عند سلطان ظالم في كل الأحوال، وتكتسب مصداقيتها بشكل أفضل نظرا لأنها تأتي من رجل دين متنفذ، ويرأس طائفة كبيرة حول العالم.

ومن بين أهم ما يجده المرء في السيرة الذاتية لرئيس أساقفة كانتربري، روان ويليامز، هو أن الرجل من المؤمنين والمعتقدين بجدوى حوار الأديان وبقوة، وقد شهد كاتب هذه السطور بنفسه لقاء جمع بينه وبين شيخ الأزهر فضيلة الدكتور الراحل محمد سيد طنطاوي، رحمه الله رحمة واسعة، في مشيخة الأزهر بالقاهرة قبل رحيله، وقد كان الرجل ذا أفق واسع وروح تصالحية وثابة، وقد وصف الأزهر يومها بأنه قلعة للمؤمنين بالإسلام السمح المعتدل، وأكد أن كنيسته ترحب طولا وعرضا بالحوار مع العالم الإسلامي.

وروان ويليامز ليس بغريب عن عدد كبير من العوالم والعواصم العربية، ذلك أنه من بين سنوات خدمته الكنسية التي تناهز الربع قرن من الزمان، قضى نحو تسع سنوات في خدمة الكنيسة في السودان، معلما في كلية الأسقف «قوانين اللاهوتية»، كما قضى حقبة من خدمته الكنسية في القاهرة، معايشا وقريبا من المجتمع الإسلامي.

وفي محاضرة ألقاها في الملتقى التاسع لمجلس الكنائس العالمي في البرازيل، أوصى الدكتور روان ويليامز بالنظر إلى الهوية المسيحية في إطار عالم متعدد الثقافات والرؤى، وطالب رجال الدين المسيحي بأن يكفوا عن ادعائهم امتلاكهم المعرفة المطلقة.

ويرعى الأسقف ويليامز «منبر الحوار المسلم - المسيحي»، الذي يهدف إلى تحقيق الاستقرار، ويطور التفاهم بين معتنقي الديانتين في القضايا المتفق عليها بينهم، وفيما هم فيه مختلفون، فضلا عن سعيه لترقية إسهامهم في الحياة العامة.

ويرى الدكتور روان ويليامز أن القوة الدافعة في القرآن الكريم وعبر مجمل التاريخ الإسلامي، هي كون الدين يشتمل على قدرة على التعبير السياسي، وأن الدين يملك بالضرورة بعدا اجتماعيا، وبالتالي فالإسلام معني بالسلطة. ويضيف أن الإسلام معني بصياغة وتشكيل المجتمع، ولو كان ذلك تعبيرا عن عقيدة سياسية، فالإسلام بعد عقائدي بكل تأكيد.. هل لكل ما تقدم يعد روان ويليامز علامة في كنسية إنجلترا؟

بل أبعد من ذلك؛ إذ ربما يكون بالفعل أسقفا لكل العصور صديقا للإسلام والمسلمين.

* كاتب مصري