تونس: مساجد المدينة العتيقة.. منارات للإيمان والذكر الحكيم

أقدم المساجد على الإطلاق في العاصمة

أحد مساجد المدينة العتيقة في تونس («الشرق الأوسط»)
TT

يشع «جامع الزيتونة» المعمور بنوره على المدينة العتيقة، فهو أقدم المساجد على الإطلاق في تونس العاصمة، وهو الذي يحظى بالكثير من الاهتمام، إحدى منارات العلم والمعرفة ونشر الدين الحنيف في بلدان المغرب العربي، وهو كذلك أول جامع خطبة في تونس منذ القرن الأول للهجرة. إلا أنه إلى جانب «جامع الزيتونة» هناك مجموعة كبيرة من المساجد التي توسعت بتوسع سكان المدينة وباختلاف مذاهبهم مما مثل إضافة حقيقية لبيوت الرحمان في العاصمة التونسية. ونجد إلى جانب «جامع الزيتونة» الذي يحتل وسط المدينة العتيقة مجموعة من المساجد التي أحاطت بمختلف أركان المدينة، وهي ذات ثقل معرفي وديني وتخفي وراءها الكثير من المزايا الفنية والمعمارية. كما تقف وراء كل مسجد من المساجد قصة طويلة في بناء المسجد وأسباب بنائه ومن مروا عليه من العلماء والفقهاء. والروايات كثيرة حول تاريخ بناء تلك المساجد وتصنيفها كجوامع لخطبة الجمعة، وهي تخفي تطور الحياة في تونس، إحدى أعرق المدن الإسلامية، كما ذكر المحامي التونسي الشاذلي بن يونس في تقديمه لبعض المساجد.

ومن بين تلك المساجد تذكر المراجع التاريخية «جامع الهواء» وقد مر على تشييده أكثر من 750 سنة (7 قرون ونصف القرن) ويسمى كذلك «جامع التوفيق» ويقع قرب الكلية الزيتونية بالمدينة العتيقة وهذا المسجد بنته أميرة اسمها «عطف» وهي زوجة الأمير أبو زكرياء الحفصي. واشتهر الجامع بتسمية «جامع الهواء» لكونه مبنيا على تل عال وقد اتسم بهوائه واتساع فضائه. وكانت الأميرة عطف على الديانة النصرانية عندما بنت الجامع، وقد اهتدت إلى الديانة الإسلامية بعد ذلك وتزوجها الأمير أبو زكرياء الحفصي. وحسب المؤرخين، تعتبر الأميرة عطف الوحيدة التي تركت الديانة المسيحية وانتقلت للإسلام. وبنت الأميرة عطف كذلك مدرسة تحمل اسم مدرسة جامعة الهواء وقد تولى فقهاء من المذهب المالكي الإمامة في «جامع الهواء». ويعقد في الثامن والعشرين من رمضان من كل سنة ختم الحديث في هذا الجامع. والى جانب «جامع الهواء» نجد جامع «سبحان الله»، وقد أسست هذا الجامع الجالية الأندلسية التي توافدت على تونس بعد طردهم من الأندلس، وهو موجود بباب سويقة إلى الغرب داخل المدينة العتيقة وقد أسس بين سنة 1607 و1624 للميلاد. ويورد المؤرخون حول تسمية هذا المسجد أن مؤسسه لم يعمد إلى إطلاق تسمية عليه كما تعود على ذلك باعثو بيوت الله، وهو ما جعل أمر بعث هذا المسجد يرجع إلى مجموعة مؤسسة وليس فردا واحدا، وهو ما جعل مرتاديه يطلقون عليه تسمية جامع «سبحان الله» كبيت للبركة والرحمة. وقد عين في إمامة هذا المسجد الكثير من الفقهاء، من بينهم الشيخ علي السويسي والشيخ محمد بن سلامة والشيخ الطيب السبعي وآلت خطة الخطابة إلى الشيخ التونسي المعروف سالم بوحاجب.

ولقصة «جامع الحلق» بباب الجديد أكثر من عبرة ومعنى فقد بنته إحدى الزنجيات بعد أن باعت كل حليها، وترجع تسميته بـ«جامع الحلق»، حسب بعض المؤرخين، إلى أن امرأة قررت بناء الجامع من مالها الخاص وقدمت للغرض مجموعة من الحلق الذهبية ويرجح هؤلاء أن يكون تم بناؤه في القرن الثالث عشر للميلاد، وهو مبني بعد «جامع الزيتونة» المعمور.

ولـ«جامع الزراعين» أو «الزرارعية» أو «جامع الزيتونة البراني» (أي الخارجي) كما يسميه أهل المدينة العتيقة قصة تاريخية متشعبة، وهو يقع قرب باب البحر وقد بني منذ أكثر من 7 قرون وهو جامع الخطبة الرابع في تونس العاصمة. وتقول المصادر التاريخية إن هذا الجامع قد بناه «خياط» في حقيقة الأمر يدعى أحمد بن مرزوق ابن أبي عمارة المسيلي وقد تعلم الخياطة في مدينة باجة الواقعة على بعد 100 كلم شمال غربي تونس العاصمة، وهو يعتمد على الكهانة، وأمكن له بالحيلة الوصول إلى الحكم، وبنى «جامع الزرارعية» لكسب ود سكان المدينة العتيقة. وتشير المصادر التاريخية إلى أن الإسبان عندما هاجموا الجامع استولوا عليه وحولوه إلى مخزن للذخيرة قبل أن يسترجعه الوزير سنان باشا ويعيد فتحه أمام المصلين.

وفي باب سويقة وسط المدينة العتيقة نجد جامع «أبي محمد» ويرجع تاريخ بنائه إلى القرن الثالث عشر للميلاد (نحو 1225 ميلادية) وقد بناه أبو محمد عبد الله المرجاني وقد بنى كذلك المدرسة المرجانية، وتذكر المصادر التاريخية، كان من أصحاب الشيخ بلحسن الشاذلي رجل الدين والتقوى الأشهر في تونس وهو جامع الخطبة الخامس في العاصمة التونسية، وقد مر على إمامته عدد كبير من مشاهير الفقهاء أمثال الشيخ محمد النيفر المفتي المعروف. وفي جامع أبي محمد منبر خشبي مصقول بعناية كتبت عليه الشهادتان بتاريخ 1493 ميلادية وهو على ما يبدو تاريخ صناعة ذلك المنبر.

أما «جامع صاحب الطابع» فيعود بناؤه إلى الوزير التونسي يوسف صاحب الطابع وذلك بين عامي 1808 و1814 للميلاد، وهو موجود في الحلفاوين وهو سابع جامع من المذهب الحنفي في تونس. وقد تكون في هذا الجامع مجلس علمي يدرس علوم الدين وهو أول بذرة لنشاط علمي في تونس العاصمة مما جعل الجامع من أكبر مدارس العلم والمعرفة. وتذكر المصادر التاريخية أن من بنوا الجامع كانوا مساجين إيطاليين بمنطقة غار الملح (من ولاية - محافظة - بنزرت شمال تونس العاصمة)، ومعروف عنهم دقة المعمار وجمالية البناءات. والمساجين الإيطاليون كانوا من الأسرى الذين ألقت عليهم السلطات التونسية القبض بعد ارتكابهم مخالفات بحرية ومعظمهم من جزيرة «سان بيار» التابعة لجزيرة سردينيا الإيطالية. وكان عددهم 27 سجينا إيطاليا. ويقدم «جامع صاحب الطابع» أمثلة آية في الإتقان في مجال العمارة على غرار نقوش الحديد المثبتة في الأسقف والنوافذ، كما أن الرخام الرفيع والأعمدة التي بني منها الجامع قد جلبت كلها من إيطاليا. لكن جامع يوسف صاحب الطابع توفي مؤسسه قبل أن يشهد استكمال عمليات بناء الصومعة.

ولا تزال قائمة مساجد المدينة العتيقة مفتوحة فنجد «جامع الحجامين» وهو موجود بين باب الجديد وباب الجزيرة شرق المدينة العتيقة، ونجد كذلك «جامع التبانين» وهو موجود بباب الأقواس وله من العمر أكثر من خمسة قرون وقد بناه السلطان أبو عمرو عثمان الحفصي. ونهج سيدي محرز بالمدينة العتيقة نجد «جامع سيدي محرز» وهو يحمل نفس تسمية الولي الصالح المعروف لدى سكان تونس وكان الباي حمودة باشا لا يتخلف عن ختم الحديث بـ«جامع سيدي محرز» كل يوم 22 من رمضان. أما «جامع القصر» فيقع بباب منارة وتفيد المراجع التاريخية بأنه بني على أنقاض كنيسة ويرجع تاريخ بنائه إلى القرن الـ12 للميلاد ومحرابه مخالف في شكله للمحاريب المعروفة في المساجد وحيطانه سميكة يرجع بناؤها إلى العهود الرومانية وهو جامع خطبة للمذهب الحنفي.

والملاحظ أن كل هذه المساجد لا تزال كلها تقوم بدورها الديني والاجتماعي في حياة سكان المدينة العتيقة على مر مئات السنين.