مصر: الأزهر يرعى أول مؤتمر عالمي عن تاريخ الصوفية في الشرق الأوسط

يهدف لإنقاذ الحضارة الإسلامية من «مستنقع المادة» ويدعو للإصلاح ومواجهة الضغوط الخارجية

TT

أعلن الأزهر الشريف رعايته لأول مؤتمر في الشرق الأوسط عن تاريخ الصوفية، بحضور عدد كبير من علماء التصوف والإسلام والمفكرين من العالم العربي والإسلامي، الأسبوع المقبل، وقال علماء أزهريون إن المؤتمر يهدف إلى إنقاذ الحضارة الإسلامية من «مستنقع المادة»، ويدعو للإصلاح ومواجهة الضغوط الخارجية، وتوجيه الطاقات الإيمانية في ربوع العالم الإسلامي نحو البناء والإصلاح على المنهج الرباني الروحي الأصيل، بدلا من الهدم والتفريق والتكفير الذي تنتهجه بعض الجماعات المتطرفة، بينما واصل الأزهر وضع رؤى علمائه لإعداد وثيقة لإصلاح الشأن العربي وتحقيق الديمقراطية.

وتعقد أكاديمية الإمام الرائد لدراسات التصوف وعلوم التراث بالعشيرة المحمدية بمصر، مؤتمرا دوليا بعنوان «التصوف منهج أصيل للإصلاح»، تحت رعاية الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وبإشراف المشيخة العامة للطرق الصوفية ووزارة الأوقاف المصرية، في الفترة من 24 - 26 سبتمبر (أيلول) الحالي، بمركز مؤتمرات الأزهر بحي مدينة نصر شرق القاهرة.

ويعد المؤتمر، الأول من نوعه في الشرق الأوسط في تاريخ التصوف، وسوف يقدم خلاله ما يقرب من 50 بحثا لكبار علماء الدين وأتباع المنهج الصوفي المعتدل، منهم: الشيخ عبد الله بن بيَّه، نائب رئيس اتحاد علماء المسلمين، والدكتور محمد سعيد البوطي، أحد علماء الدين السنة، والداعية علي الجفري.

ويشارك في المؤتمر عدد كبير من علماء التصوف والإسلام والمفكرين من العالم العربي والإسلامي، إلى جانب كبار القيادات الدينية بمصر، الدكتور علي جمعة، مفتي الديار، والدكتور محمد عبد الفضيل القوصي، وزير الأوقاف، والسيد محمود الشريف، نقيب الأشراف، والدكتور عبد الهادي القصبي، شيخ مشايخ الطرق الصوفية.

ومن جانبه، أكد الشيخ محمد عصام الدين، رائد العشيرة المحمدية، أن المؤتمر يكتسب أهمية كبيرة في ظل الضغوط الخارجية المتواصلة على الشرق الإسلامي، لافتا إلى أن المؤتمر يسعى لفرض نموذج معين للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية، بعد الشعارات التي ظهرت في الآونة الأخيرة، منها «شعار الإصلاح كمبرر لتمرير نماذج من الخارج لا تتفق مع طبيعة التراث الحضاري للأمة وتحقيق أهدافها القومية».

وأشار عصام الدين «إلى وجود ردود أفعال برزت لمقاومة هذا التيار من قِبَل أنظمة الحكم المختلفة في دول الشرق، تمثلت في رفع شعار الإصلاح من الداخل؛ إلا أنها بدت عاجزة عن تحقيقه بسبب فقدان حسن النية، وعدم الجدية في الإصلاح، وانخداع بعض قطاعات من الجماهير بالشعارات القادمة من الخارج، فضلا عن سلسلة الأزمات العالمية التي تأثرت بها بلاد الشرق على كل المستويات: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتواصل الضغوط الخارجية، الأمر الذي أدى إلى وقوع ثورات في عدد من البلدان، كما تسجله الأحداث منذ بداية العام الحالي». وأوضح الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، المستشار الإعلامي للمؤتمر، أن المؤتمر يهدف إلى بيان دواعي الإصلاح وضروراته في المرحلة الراهنة من تاريخ الأمة، وتحرير محل النزاع فيما يتعلق بجدلية الإصلاح، وإصلاح الهياكل أو المؤسسات، وإصلاح الأفراد والمجتمعات، وكذا بيان أهمية الخيار الصوفي في ضوء الخيارات المتاحة للإصلاح، وتوجيه وترشيد التصوف، ورد الممارسات الصوفية إلى الكتاب والسنة بفهم العلماء العاملين من السلف الصالح، دون إفراط أو تفريط. وتابع نجم: «إن المؤتمر يهدف أيضا إلى توجيه الطاقات الإيمانية لدى قطاعات عريضة من الجماهير في ربوع العالم الإسلامي، نحو البناء والإصلاح على المنهج الرباني الروحي الأصيل، بدلا من الهدم والتفريق والتكفير الذي تنتهجه بعض الجماعات المتطرفة، والتأكيد على أهمية إنقاذ الحضارة الإسلامية من (مستنقع المادة) التي طغت قوانينها على كل مناحي الحياة بكل صورها ومستوياتها».

وأضاف الدكتور نجم أن المؤتمر يبحث خمسة محاور، هي: «دواعي الإصلاح في المجتمعات العربية والإسلامية، وطرح التصوف كمنهج للإصلاح، إشكاليات التصوف والإصلاح، التصوف وإمكانيات الإصلاح، نماذج من الإصلاح عند الصوفية». وعن فكرة الإصلاح التي يعرضها المؤتمر، أوضح الدكتور حسن الشافعي، رئيس أكاديمية الدراسات الصوفية، رئيس المكتب الفني لمشيخة الأزهر، أن محاولات الإصلاح، سابقا، كانت دائما محصورة في إطار الأشكال والهياكل دون الجوهر والمضمون، مضيفا: «إن إصلاح الهياكل والمؤسسات دون الاهتمام بإصلاح القائمين عليها قليل الجدوى»، لافتا «إلى أن بناء الفرد المؤمن هو أساس كل إصلاح، وأن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يبدأ من قمة النظام مع إغفال قاعدة البناء، ألا وهو الفرد المؤمن».

وقال الدكتور الشافعي: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقام مجتمع المدينة المنورة عند هجرته، لم يؤسس البناء باستيراد أنظمة مما كان سائدا في زمانه من إمبراطوريات الروم والفرس؛ إنما كان أساس البناء هو الفرد المؤمن، المتعالي على تحديات الواقع بتقواه وصدقه، وأمانته وإخلاصه، وتوكله وصبره، وكرمه ومحبته، وسماحته، وغير ذلك من مكارم الأخلاق».

وتابع الدكتور الشافعي: «فكان محصلة ذلك مجتمعا مثاليا، إن كان الفرد فيه تاجرا فهو التاجر الأمين، وإن كان قاضيا فهو القاضي العادل، وإن كان أجيرا فهو الأجير القوي الأمين، وإن كان حاكما فهو التقي الحكيم العادل، وهكذا، فالمجتمع فرد مكرر، إذا صلح صلحت الأسرة، وإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع، وإذا صلح المجتمع صلحت الدولة، وبصلاح دولة الإيمان يصلح العالم كله، وبفسادها يفسد العالم كله».

وشدد الدكتور محمد مهنا، أمين نائب رئيس أكاديمية لدراسات التصوف وعلوم التراث بالعشيرة المحمدية، عضو المكتب الفني لشيخ الأزهر، على أن كل إصلاح يغفل الفرد باعتباره أساس أي بناء أو إصلاح، فقد أغفل المنهج الرباني، وقال تعالى: «كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون»، مضيفا: «إن التصوف هو الضمان الحقيقي لبقاء الإصلاح، شريطة أن يكون نابعا من عمق وحقيقة الحضارة الإسلامية وتراث الأمة». وأشار الدكتور مهنا إلى أن المجتمع الرباني هو مجتمع يحكمه الحب والسلام والتسامح، والتيسير واللين، والشرف وتحري معالي الأمور، فالعنف والقسوة، والقهر والإرهاب، والتعالي، والخبث والبذاءة، والتعالم والاندفاع، وأذى الناس، أقذار لا يعرفها التصوف ولا تعرفها المجتمعات الربانية.

ويشار إلى أن العشيرة المحمدية من أكبر الهيئات الإسلامية بمصر والعالم، ومعتمدة رسميا في مصر بالقرار الجمهوري رقم 750 لسنة 68، أسسها الشيخ محمد زكي إبراهيم، رائد الإصلاح الصوفي، ومجدد التصوف في العصر الحديث، عام 1930. وأهم ما تسعى إليه رسالة العشيرة المحمدية هو «بناء الإنسان المسلم والمجتمع المسلم، على قواعد الربانية والتزكي، والمحبة والسماحة، حتى يؤدي حق ربه وأسرته، وأهله ووطنه، ودينه ووظيفته، بالأمانة والدقة والشرف والأدب، باعتبار أن ذلك كله عبادة». وتعتبر رسالة العشيرة المحمدية أن كل خير يعود على الفرد والمجتمع خالصا لوجه الله فهو عبادة.

وتخدم العشيرة المحمدية مذهب التصوف الإسلامي ورسالته، علميا وعمليا بصفة عامة، ولا نظر فيها إلى شيخ معين أو طريقة محدودة، فالكل دائر في محيط التصوف الإسلامي، فالعشيرة ليست طريقة مخصوصة؛ بل هي هيئة تخدم كل الطرق الشرعية، وتحتويها في محيط الكتاب والسنة، وتنقيها من شوائبها ومعايبها المختلفة بكل الحكمة والسماحة. ويتضمن منهج العشيرة «الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، على أساس الحب في الله، والتزام الوسطية الإسلامية المنصفة، والاعتدال في الدعوة، حسن الظن بأهل القبلة واحترامهم، فرادى وجماعات، سلفا وخلفا، التماس العذر في الخلافات الفرعية والبعد عن الفتن والشكليات، تقديم الأهم واغتنام الممكن، وبذل الجهد المستطاع نصحا للأمة».

ومن ناحية أخرى، يعكف علماء الأزهر الشريف حاليا على إعداد مشروع وثيقة عربية على غرار وثيقة الأزهر، التي أطلقها الدكتور أحمد الطيب في يونيو (حزيران) الماضي، والمتعلقة بالشأن المصري، وتضمنت رؤى الأزهر بالتعاون مع المثقفين والكتاب لمستقبل مصر بعد ثورة 25 يناير، وإقامة الدولة الديمقراطية الدستورية الحديثة.

وقالت مصادر مسؤولة بمشيخة الأزهر لـ«الشرق الأوسط»: «إن الوثيقة العربية تتضمن رؤى الأزهر لإصلاح الشأن العربي وتحقيق الديمقراطية، كما تتضمن مختلف جوانب الشأن العربي اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا». وذكرت المصادر أن الوثيقة العربية تقترح سبل تحقيق الإصلاح الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، وحسن توزيع الثروات العربية، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعوب العربية، وذلك وفق مبادئ الحضارة والشريعة الإسلامية السمحة، وبما يحقق الاستقرار والأمن في المنطقة العربية، ويلبي مصالح وطموحات شعوبها، لتستعيد الأمة العربية والإسلامية ريادتها التي فقدتها على مختلف الأصعدة.

وأوضحت المصادر أن الوثيقة تأتي في إطار تفاعل الأزهر مع التطورات التي تشهدها المنطقة العربية، ونشوب ثورات الشعوب فيما أطلق عليه الربيع العربي، ومنها ما يحدث في سوريا وليبيا واليمن، وقبلها في تونس.

وأشارت المصادر إلى أن الأزهر يقترح هذه الوثيقة العربية في إطار دوره الوطني والتاريخي والحضاري لبلورة الفكر الإسلامي الوسطي، ومع خبرته الثقافية والعلمية والشرعية، وانعكاسا لأمانة الأزهر في حمل هموم الأمة، وسعيه للحفاظ على هويتها وحضارتها وثقافتها العربية والإسلامية.