المسيحيون العرب والإسلام وحركات التغيير

رضوان السيد

TT

أثارت تصريحات البطريرك الماروني اللبناني في فرنسا الكثير من الغبار بداخل الساحة السياسية اللبنانية وخارجها. ويكون علينا قبل أن نناقش تفصيلاتها الملاحظة أنها تتناول ثلاث مسائل رئيسية: رؤية الإسلام السنّي أو الأكثري كما يسميه البطرك - ورؤية ما يجري في العالم العربي اليوم - والموقف من الوضع اللبناني الداخلي في هذه الفترة. ولا بد من القول إنه بالنسبة للنقطتين الأولى والثانية؛ فإنّ البطرك لا ينفرد بهما في أوساط رجال الدين المسيحيين في لبنان وسوريا والأردنّ والعراق وفلسطين. وقد عبَّر عن مثل موقف البطرك الماروني في النقطتين كل من بطريرك الروم الأرثوذكس هزيم قبل شهر، وبطريرك الروم الكاثوليك لحام أخيرا عدة مرات من قبل، وبطريرك السريان الأرثوذكس أخيرا أيضا وبشكل دائم، ومراتب مختلفة من الكنائس الأرمنية! ولكي أكون دقيقا ونزيها يكون علي البدء بالنقطة الثانية، أي رؤية رجال الدين المسيحيين هؤلاء (ومعهم ولا شكّ جمهور كبير من رعاياهم غير المسيَّسين) لحركات التغيير العربية الجارية، وعلى الخصوص في سوريا. ففي دول الهلال الخصيب أو الشرق الأوسط أو بلاد الشام (لبنان وسوريا وفلسطين والأردن والعراق)، يقع مسيحيو لبنان في الواجهة سياسيا وثقافيا، ونحو الثلث منهم (وسكان المدن بالذات) من أُصول سورية. ومسيحيو سوريا هم الأكثر عددا من مسيحيي لبنان؛ إذ يبلغ عددهم نحو المليونين. وقد كان المسيحيون السوريون كثيري الشكوى لاستشراء الهجرة في صفوفهم، ولما يُعانونه من تهميش سياسي واجتماعي. وكانت شكواهم ليس من النظام وحسب؛ بل ومن تطور ثقافة المجتمع الإسلامي السوري، إن لم يكن باتجاه التشدد أو العدوانية، فباتجاه الانغلاق أو التمايُز. بيد أنهم كانوا (إلى جانب فئات مدينية سنية واسعة) يحفظون لنظام الأسد الأب وابنه صون الاستقرار، وأنّ النظام حقّق نفوذا وامتدادا لجهات لبنان والعراق وفلسطين دونما اشتباك مع إسرائيل. ثم كان الغزو الأميركي للعراق، والمشكلات التي لاقاها المسيحيون العراقيون، الذين فرّت فئات منهم إلى سوريا ولبنان في طريقها إلى المهاجر الأوروبية والأميركية. ويضاف لذلك توالي أحداث الاعتداء على الكنائس وعلى المسيحيين في مصر أيام مبارك، وأيام الثورة المصرية. وبين الآمال التي عقدتها الفئات المسيحية الشابة على حركات التغيير (عدة بيانات صدرت عن مثقفين لبنانيين وسوريين وأردنيين وفلسطينيين)، والمخاوف التي أثارتها أحداث العنف ضد المسيحيين، رأت مقامات عليا في الكنائس المسيحية التمسُّك بالحاضر على قسوته، على المغامرة بالمراهنة على الجديد «الواعد»، كما فعلت فئات قبطية واسعة. بيد أنّ هذا المنطق وبهذه الألفاظ، ما كان شأن كثيرين منهم؛ بل تعدوه إلى تفاصيل وتعليلات (ونحن ما نزال في النقطة الثانية: رؤية حركات التغيير) ما أنزل الله بها من سلطان، كما يقول المثل، وذلك من مثل ما قاله البطرك الأرثوذكسي هزيم، أنّ الرئيس الأسد لا يمكن أن يقتل لأنه يعرفه فهو ربُّ أُسرة وعنده أطفال، وامرأته امرأة محترمة. ومن مثل ما قاله البطرك الراعي وبطرك الكاثوليك وبطرك السريان الأرثوذكس، وهو أخطر وأفظع. فمنهم من قال (مثلما قال الأمين العام لحزب الله) إن النظام السوري نظام ممانعة ومقاومة، ولذلك لا تجوز الثورة عليه، وإلا يكون ذلك من صناعة خارجية أميركية وإسرائيلية. ومنهم من قال إنّ هذه الحركات كلَّها حركات عنفية وطائفية، وهي مقدمات لحروب أهلية سينال المسيحيين على الخصوص منها الكثير مثلما حدث في العراق. ومنهم من قال أخيرا إنّ الثورات هذه هي مؤامرات خارجية لتقسيم الدول والبلدان العربية. والخطر في هذه التصورات أنها تعتبر أنّ الشعب السوري سيخون وطنيته وأرضه إن حصل على حريته، ولن يحفظ حقوق بلاده كما حفظها (بل ضيَّعها!) نظام الأسد. كما تتصور أنّ الشعب السوري يريد تقسيم بلاده، أو نشر النزاع الداخلي فيها! وقد كان يمكن تبرير هذه المخاوف والتأويلات حتى لو كان معناها أنّ الأقليات المسيحية العربية في أرض سوريا التاريخية (أقدم مناطق المسيحية في العالم) متحالفة أو كانت متحالفة مع الأنظمة القائمة في العراق وسوريا والأردن ولبنان. إنما في عودة إلى النقطة الأُولى: رؤية البطرك الراعي للإسلام السني أو الأكثري يتبين أنّ الأمر أكبر من ذلك، ولذا فإنّ هذه الزعامات الدينية والسياسية غير المتبصرة، تشكّل بمنطقها وخطابها وتحالفاتها المحلية والدولية، خطرا فعليا على المسيحيين العرب، ينبغي حمايتهم منه بشتّى السبل.

إنّ منطق تلك الزعامات الدينية والسياسية أنّ الإسلام السنّي بالذات، يشكّل خطرا مباشرا على الأقليات المسيحية العربية بالذات أيضا، ولسببين: أنّ معتنقيه يشكّلون أكثرية عددية كبيرة جدا بين العرب (نحو 90%)، وأنّ طلائع هذا الإسلام الأكثري أصوليون ومتطرفون. وإذا أُضيفت الكثرة الغَرورة إلى الأُصولية والتطرف، يصبح الأمر خطرا جدا على المسيحيين في سائر البلدان العربية. وهذا المنطق لم تفِد فيه العودة إلى التاريخ الحديث الذي لجأتُ إليه في محاجتهم. فقد قلتُ لهم إنه في المائتي سنة الأخيرة كانت الأقليات المسيحية والإسلامية هي التي تتصارع على الجغرافيا والسلطة، وكانت الأكثرية السنية (حتى أيام العثمانيين) تتدخل متوسطة ومصلِحة. بل إنه في الحرب الأهلية اللبنانية ما شارك أهل السنة، وحتى الفلسطينيون الذين كانوا هدف الهجوم الرئيسي، كانوا يحمون المسيحيين كلما استطاعوا، وهذا ما فعلوه في قريتنا (ترشيش) برأس جبل لبنان عندما اقتتل المسلمون والمسيحيون من سكّانها. ما أفادت هذه المقاربة لأنّ أعمال الاستشراق الجديد، والسياسات الدولية في الثلاثين عاما الأخيرة، بنت في الإعلام والأكاديميا مقولتين: أنّ الأكثريات الدينية والقومية في عالم الإسلام على الخصوص لا تملك وعيا بالتعددية وقبول الآخر في الدين أو في الدولة، لأنه لم تجر في الإسلام السنّي الأكثري حركة إصلاح ديني، تضرب فكرة العنف فيه، وتفصل الدين عن إدارة الشأن العام. والمقولة الثانية أنه لكي لا تحدث مذابح واضطرابات، وتهجير جماعي للسكّان، كما حدث بين تركيا واليونان وبلغاريا عند نهاية الحرب العالمية الأولى، وكما حدث بين الهند وباكستان عام 1947؛ فإنه لا بد من أحد أمرين أو الأمرين معا: إعطاء الأقليات الدينية والإثنية ملاذات آمنة أو دولا، أو إذا أُريد أن تبقى تلك البلدان موحدة، فلا بد أن تسود فيها تلك الأقليات وتتعاون فيما بينها في الثقافة والسياسة. وبالفعل؛ فإنّ حملة بن لادن على الولايات المتحدة عام 2001 كأنما جاءت إثباتا لمقولة أُصولية الأكثرية الإسلامية. وحروب بوش والمحافظين الجدد التي تلتها كأنما كانت حروبا على هذه الأكثرية السنية لإنقاذ العالم من شرورها. وقد تمت بمساعدة إيران التي اعتبرها الأميركيون دولة أقلية ضمن العالم الإسلامي السني الشاسع. وعندما جاء الانقلاب العسكري في سوريا عام 1963، لاستعادة الوحدة مع مصر فيما زعم القائمون به، رمز المتشككون إلى الانقلاب بـ«عدس» أو«عدسم»، أي علوي - درزي - إسماعيلي - مسيحي. وعندما دخل السوريون إلى لبنان، همشوا الفئة المسيحية التي كانت معارضة لوجودهم، لكنهم قدموا الأرثوذكس، وقدموا الشيعة، واعتبروهم كما كان يقولون لنا: الاحتياطي الاستراتيجي، أما السنة المتذمرون فكانوا في نظرهم إما عرفاتيين أو موساد، هكذا مرة واحدة. وعندما ساد حزب الله في لبنان، أقام تحالفا مع فريق مسيحي رئيسي هو الجنرال عون، وحاول تهميش السنة سياسيا بكلّ سبيل باعتبارهم أهل الخلفية العربية. وكانت لدى السوريين ولدى حزب الله دائما مشكلتان: موقف البطرك صفير المعارض لسيطرة سوريا، ولسلاح حزب الله - وموقف أهل السنة ممثَّلين بآل الحريري وتيار المستقبل. وقد تمكّن الحزب، وتمكنت سوريا أخيرا من تجاوز العقبتين: جاء بطرك جديد بالوعي المطلوب، وتمكنوا من طريق ميقاتي وجنبلاط من تنحية التيار الرئيسي لدى أهل السنة من الحكومة والسلطة.

لا أظن أنّ هذا الوعي المستقرّ لدى الأقليات يمكن التأثير فيه من طريق التواصل وإثبات حسن النية، فليست هناك قطيعة سابقة، ولا نوايا ولا تصرفات سيئة. بل لا بد من الخلاص من استبداد القلّة (الأوليغارشية بحسب أرسطو)، واستبداد الطغيان، وإقامة أنظمة منفتحة تعامل الناس على أساس المواطنة، وليس الانتماء الديني. وهذه هي شعارات أهل الثورة السورية: الحرية والكرامة والعدالة والسلمية. وهكذا فإنّ نظاما مدنيا في سوريا، متحررا من أَوهام السطوة والتآمر والقتل، يشكِّل إنقاذا ليس للأكثرية وحسب؛ بل ولسائر فئات الشعب السوري، من مسلمين وغير مسلمين. لأنّ المسلمين أيضا ليسوا فئة واحدة، وهذا معروف في سائر أنحاء العالم؛ إذ إنه إذا كان من الصعوبة بمكان جمع قلة دينية أو إثنية على رأي رجل واحد، فكيف يمكن أن يكون عشرون مليون سوري أهل نظرة سياسية واحدة؟!