الخوف والرجاء عماد تصوف الحسن البصري

محمد حلمي عبد الوهاب *

TT

يعد الحسن البصري الكيان الذي شخصن بذاته مبادئ استقلال السلطة الدينية عن نظيرتها السياسية، وقد ذلل في ذاته الاجتماعية - الأخلاقية ضيق السلطة وغلو ذواتها، في حين تحسست السلطة الأموية في صمته معارضة مستترة، وفي آرائه القدرية تحديا لجبريتها السياسية.

والواقع أن شخصنته للحزن، كما لاحظ ميثم الجنابي بحق، كانت عبارة عن رد فعل اجتماعي - أخلاقي ضد الرذيلة الاجتماعية والسياسية التي كانت منتشرة وقتذاك. أما قدريته؛ فلم تكن إلا القدر المتسامي للحرية في إدراك جوهرية الحق والعدل. فقد أكد في جوابه على استفسار الخليفة عما إذا كان كلامه بالقدر يتفق مع ما في القرآن والسنة، قائلا: إن من الضروري الاحتجاج بحجج الله لا الهوى (السلطاني)، وأن معنى الإرادة وحقيقتها في اتباع الحق، وأن قضاء الله وقدره هو أمره بالمعروف والعدل والإحسان.

فقد مثل ارتفاع المحايدين عن هوى المتصارعين الصيغة الأخلاقية المتسامية للعدل، وجسدت تصرفاتهم المستقلة وأحكامهم الجريئة على السلطة تجليا نموذجيا لما ينبغي أن يكون عليه ممثل السلطة الدينية من استقلال إزاء السلطة السياسية وممثليها.

وفي المقابل من ذلك؛ لم تكن مواعظ الحسن البصري لتنتشر في الناس انتشار النار في الهشيم لولا صدورها عن قلب مخلص أولا، ولولا شدة بلاغتها ثانيا، ولولا أنها كانت تنبه إلى الأخطار المحدقة بالمجتمع الإسلامي ثالثا، خاصة وأن العصر الذي عاش فيه إمام التابعين زادت فيه حدة الانحطاط الخلقي والإفلاس الروحي، فإذا بأمة الإسلام تتقدم إلى انهيار في الأخلاق والروح، وخمود في العاطفة والوجدان، وضعف في صلتها بالله، وهي خسارة لا تعوضها كثرة الفتوحات ولا انتشار الإسلام، إذ لا بقاء لأمة فقدت عقيدتها مهما حازت من أسباب القوة المادية طالما كان ذلك على حساب الباطن الذي هو بمثابة رأس المال الحقيقي! يقول البصري مذكرا بما كان عليه الصحابة، وكاشفا لما آل إليه حال الناس: «هيهات هيهات! أهلك الناس الأماني، قولٌ بلا عمل، ومعرفةٌ بغير صبر، وإيمانٌ بلا يقين، مالي أرى رجالا ولا أرى عقولا! وأسمع حسيسا ولا أرى أنيسا! دخل القومُ والله ثم خرجوا، وعرفوا ثم أنكروا، وحرَّموا ثم استحلُّوا، إنما دينُ أحدكم لَعقةٌ على لسانه! إن من أخلاق المؤمن قوةً في دين، وإيمانا في يقين، وعلما في حلم، وحلما بعلم، وكَيسا في رفق، وتحمُّلا في فاقة، وقصدا في غنى، وشفقة في نفقة، ورحمة لمجهود، وعطاءً في الحقوق، وإنصافا في الاستقامة، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم في مساعدة من يحب.

فالمؤمن في الصلاة خاشعٌ، وإلى الركوع مُسارع، قولهُ شفاء، وصبرُه تُقى، وسكوتُه فكرة، ونَظرُه عِبرةٌ، يُخالطُ العلماء ليَعلم، ويَسكتُ بينهم ليَسلم، ويتكلّمُ ليَغْنَم، إن أحسن استبشر، وإن أساء استغفر، وإن عتب استعتَب، وإن سُفه عليه حلُم، وإن ظُلمَ صبر، وإن جير عليه عدَل، ولا يتعوذُ بغير الله، ولا يستعين إلا بالله، وَقورٌ في الملأ، شكورٌ في الخلاء، قانعٌ بالرزق، حامدٌ في الرخاء، صابرٌ على البلاء، إن جلس مع الغافلين كُتبَ من الذاكرين، وإن جلس مع الذاكرين كُتِبَ من المستغفرين.

هكذا كان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، الأوَّل بالأول، حتى لحقوا بالله عز وجل، وهكذا كان المسلمون من سلفكم الصالح، وإنما غُيِّرَ بكم لِما غَيَّرتُم». ثم تلا: «إنّ الله لا يُغيرُ ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال».

لقد كان أوائل الزهاد والمتصوفة يشاركون الناس حياتهم ويقومون بدور فعال في توجيه المجتمع وإصلاحه على الجد والعمل، ومن اليسير علينا أن نجد في مواعظ الحسن البصري محاولة جدية لمقاومة الأدواء الاجتماعية والسياسية والعقائدية في عصره وسعيه لتغيير الأوضاع وتحسينها، إيمانا منه بقدرة الإنسان على تقرير مصيره.

وبالمثل لم يكن كل من: الأوزاعي، وسفيان الثوري في مواجهة الخليفة المنصور، وصالح بن عبد الجليل في صراحته من المهدي، وابن السماك في وعظه للرشيد، أقل إيمانا بمسؤولية الإنسان وواجبه في هذه الحياة.

ونتيجة لذلك؛ كان المتصوفة لا يقبلون العمل بوظائف الدولة ما دامت ظالمة، لأنهم لا يرغبون مشاركة الظلمة ظلمهم، لا يرغبون أن يكونوا جزءا من السياسية كلعبة قذرة. فقد ترسخ في وعيهم أن الوظائف الحكومية، بكل أنواعها، مهنة مستحيلة، ممنوعة كليا على الصوفي؛ وذلك لأنها تجعل منه خاضعا لمشيئة الجبابرة، سلاطين الدنيا الظلمة على حد تعبيرهم.

وقد لازم هذا التوجه التصوف الإسلامي منذ نشأته، فها هو أبو هاشم الكوفي - أول من لقب بالصوفي - يقرن علمه بسلوكه، آخذا على علماء السوء تبعيتهم للسلطة الجائرة، وحين نظر إلى شُريك القاضي وهو يخرج من دار يحيى بن خالد، وزير الرشيد، بكى ثم قال: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع»، مستهجنا من القاضي تقربه من يحيى بن خالد، فالعلم في رأيه ينبغي أن يكون تقربا إلى الله وليس إلى أحد سواه.

في هذا السياق، يمكننا أن نفهم جيدا لماذا رفض إمام التابعين تولي قضاء البصرة، ولماذا كتب إلى عدي بن أرطأة، واليها: «أما بعد أيها الأمير؛ فإن الكاره للأمر غير جدير بقضاء الواجب فيه، فعافني عافاك الله وأحسن إلي بترك التعرض لي». فما كان من ابن أرطأة سوى أن عافاه وأكرمه وهو يقول: والله ما كنت لأبتليه بما يكرهه.

وفي سياق حركة النقد الداخلي للتصوف، نصادف لوم الجنيد البغدادي لرويم بعد توليه القضاء، حيث قال فيه: «من أراد أن ينظر إلى من خبأ في سره حب الدنيا عشرين سنة، فلينظر إلى هذا».

فمن الثابت تاريخيا، أن الزهاد والمتصوفة كانوا يحذرون دائما من صحبة السلطان، وفي هذا يقول أبو بكر الوراق: «احذر صحبة السلطان إبقاء على نفسك، والملوك إبقاء على عيشك، والأغنياء إبقاء على مالك». كما كان النوري يحذر مريديه قائلا: «من رأيته يسكن إلى الرئاسة والتعظيم له فلا تقربن منه، ولا ترفق به، وإن أرفقك، ولا ترجو له فلاحا».

فقد لاحظ الزهاد، أكثر من غيرهم، مدى الانحطاط الأخلاقي الذي لحق بأوساط الخلفاء، فعلى حين كان القرار السياسي طوال عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخليفتيه الأول يخضع دائما للأوامر الدينية في المقام الأول والأخير، سرعان ما تفرقت الأمة وانفرط عقدها في النصف الأخير من حياة عثمان وعقب مقتله، وبدا واضحا للعيان أنها تسير في طريق التضحية بالشريعة لأجل السياسة.

وفي الواقع، لن نستطرد هاهنا في سرد مخالفات الخلفاء - فما أكثرها وأبعدها عن عالم المثال - فطوال تاريخ الخلافة في الإسلام نصادف مَن لا يعرف منهم معنى العدل أو الإحسان كالسفاح، ومن يتسم بالغدر كالمنصور، ومن يكون جبارا عتيا كالوليد بن يزيد «فرعون ذلك العصر والدهر المملوء بالمصائب»، فيما يؤكد السيوطي في «تاريخ الخلفاء».

على أن أغلب الخلفاء لم يكتفوا بخروقاتهم وخروجهم عن ظاهر الشرع الحنيف وأحكامه فحسب؛ وإنما سعوا إلى إسباغ الشرعية على انتهاكاتهم السياسية أيضا!! وطلبا لذلك، حاولوا - واحدا تلو الآخر - استمالة ممثلي السلطة الدينية بالترغيب تارة والترهيب والتعذيب تارات أخرى.

ليس غريبا إذن – والحال هذه - أن يعتزل بعض الصحابة وكبار التابعين الساحة السياسية معلنين رفضهم القاطع الدخول في سجالات سياسية ذات صبغة دينية. فحين سأل وكيع بن أبي سود التميمي، والي خراسان المستبد، الحسن البصري قائلا: «ما تقول في دم البراغيث يصيب الثوب، أيُصلى فيه؟»، رد عليه قائلا: «يا عجبا ممن يلغ في دماء المسلمين كأنه كلب، ثم يسأل عن دم البراغيث!!»، فقام وكيع يتخلج في مشيته كتخلج المجنون.

وختاما، لقد كان الإصلاح عند الحسن البصري بمثابة المشروع الكامل الذي ينهض بالأمة من عثرتها، ولذلك نراه يعنف طلبة العلم الشرعي الذين يجعلون علمهم وسيلة للاستجداء قائلا لهم: «والله لو زهدتم فيما عندهم، لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم، فزهدوا فيما عندكم»!!

* كاتب مصري