دعوة الملك عبد الله ومشروع الأخلاق العالمية

إميل أمين

TT

نحو عام قد مضى منذ أن وجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز رسالة إلى الحجيج دعا فيها إلى «تذكر ما يجمع الأديان والمعتقدات والثقافات، والتأكيد على ما هو مشترك»، وأشار إلى أنه «بهذا نتجاوز خلافاتنا، ونقرب المسافات بيننا، ونصنع عالما يسوده السلام والتفاهم ويعمه التقدم والرخاء».

والمتابع المحقق والمدقق لفكر الملك عبد الله لا تفاجئه هذه الدعوة الإنسانية الراقية البليغة، ذلك أنها تتسق مع دعواته ومبادراته السابقة لتعلية شراكة الحوار، وتمتين أسس الحوار الديني والثقافي منذ توليه المسؤولية وحتى الساعة.

والدعوة على بساطتها الظاهرة تحمل في طياتها فلسفة عميقة، ذلك أن الأديان قيم مطلقة، وفلسفيا تعددية المطلق هي تعددية زائفة، لأن المطلق بحكم تعريفه واحد لا يتعدد، وإذا تعدد فصراع المطلقات حتمي، وعلى هذا الأساس فإن الأديان كما يرى الملك عبد الله تحمل في طياتها ما هو كفيل بتجنب هذا الصراع، عبر الالتجاء إلى مرفأ «القيم العظمى» التي تتشارك فيها الأديان على أساس من المفهوم الشامل للإنسانية، وتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات.

وبطريق غير مباشر نكتشف أن الدعوة لتذكر ما يجمع الأديان هي اختصار واضح لطرق الصدام، ولعله يحق لنا أن نتساءل في صورة أوسع: كيف يمكن لنا أن نتذكر؟ وما هي النقاط الواجب تذكرها بناء على هذه الدعوة الكريمة؟

يمكن القول بداية، وقبل كل شيء، إن الأديان سلسلة من التواصل الإيماني والأخلاقي على اختلافها، وتعبير عن شرعية التدين عند الإنسان، وإنها ينبغي أن تكون في خدمة الإنسان، وإن إيمان الإنسانية برب واحد يفرض على الناس احترام كل البشر باعتبارهم مخلوقات الله.

والشاهد أن دعوة الملك عبد الله تعيد وبقوة طرح فكرة كان قد قال بها اللاهوتي الكاثوليكي السويسري الأصل المثير للجدل البروفسور هانس كونغ، التي سماها «مشروع الأخلاق العالمية»، وهو محاولة عميقة واستثنائية لشرح ما يمكن أن تجتمع عليه الأديان بدلا من الأفكار المعلبة والمنمطة (Stereotype) أي المعدة مسبقا، التي يعمد مطلقوها إلى إشاعة التناقض في ما بينها عوضا عن التلاقي والاتفاق على حدود دنيا فيها تدرأ صراع الدوغمائيات القاتل، وينطوي هذا المشروع على صوغ الحد الأدنى من القوانين السلوكية المقبولة من الجميع، وقد ضمن رؤيته هذه في الوثيقة التي كتب مسودتها في إعلان مبدئي ووقع عليها قادة وزعماء دينيون وروحيون وفلاسفة وعلماء من جميع أنحاء العالم في ما سمي وقتئذ «برلمان الأديان العالمي» الذي عقد في ولاية شيكاغو في عام 1993.

والمعروف أنه في 31 مارس (آذار) من عام 2005 كان هانس كونغ يلقي محاضرة في جامعة سانتا كلارا، في افتتاح ما عرف وقتها بـ«ملتقى أديان العالم»، وقد قامت عليه مؤسسة الأخلاق العالمية (Global Ethic Foundation).. ما الذي قاله كونغ ويتطابق مع دعوة الملك عبد الله الأخيرة؟

في محاضرته أكد كونغ أنه يمكن أن نجد في ثقافاتنا - شرقيين وغربيين - عددا لا نهائيا من الأنماط والأشكال الدينية والنماذج السلوكية، ليس هذا فحسب، ذلك أنه إذا دققنا النظر في المعايير الأخلاقية فإننا نجد أيضا القليل من صنوف التراث العظيمة، التي تعد بشكل عملي بمثابة خلفية، فالأديان ذات الأصل الشرقي ومن أصل سام، حيث الشكل النبوي هو علامتها الأساسية، أديان نبوية: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، كلها يجمعها تاريخ مشترك.

وفي المنتصف لدينا ديانات ذات أصل هندي: الديانة الهندية القديمة، والهندوسية، والبوذية، والصينية، التي نمت على أساس الديانة البوذية من الصين حتى وصلت إلى اليابان، كما أن لدينا أديانا ذات أصول صينية، تعد بدورها مختلفة للغاية ولا تتميز بوجود رسول أو معلم روحي بوصفه الشخصية الأساسية أو القائدة، ولكن هناك ما يسمى بالرجل الحكيم: كونفوشيوس، ولاوتسو، الكنفوشيوسية والطاوية.

ويحق للقارئ أن يتساءل، وله في الحق ألف حق: أي جامع يمكن أن يربط بين تلك الأديان السماوية مع اختلافاتها العقدية من جهة، وأديان وضعية ومذاهب إنسانية غير سماوية من جهة مقابلة؟

الثابت أن هانس كونغ في كتابه/ المحاضرة «القيم الأخلاقية المشتركة للأديان.. الإسلام رمز الأمل» لم يبخل بالجواب، بل ضمنه إياه، وعنده أن هناك علامة مفعمة بالأمل نجدها في المعايير الأخلاقية الواحدة والراسخة بشكل أساسي في جميعها.. كيف ذلك؟

حكما، والعهدة على الراوي الكاثوليكي كونغ، أن ما تجده في التوراة، وبخاصة في الوصايا العشر، وما تجده أيضا في القرآن، ستجد وصايا مماثلة له للغاية في التراثين الهندي والصيني. وفي وقت مضى، ذاع عن باتانجالي، مؤسس اليوغا، هذه المقولة: «لا تقتل، لا تسرق، لا تستغل جنسيا»، كما أننا نجد هذه المبادئ أيضا في مجموعة القوانين البوذية وتمثل تلك المبادئ الموضع الحالي لأي بوذي من أجل أن يشرع في سلك الطريق والمسار الذي يقوده إلى بوذا، وتجده أيضا في التراث الصيني، إنك بالفعل تجد وصايا من هذا النوع في كتاب حمورابي، كما تجده في تقاليد الأروميين في أستراليا.. هل تذكرنا هذه الكلمات بطرح صوفي ضرب جذوره الروحية في فهم العلاقة الأزلية بين الخالق جل شأنه وبقية خليقته؟

ربما يمكننا الاستشهاد بما قاله أبو منصور الحلاج: «نحن شواهدك نلوذ بسنا عزتك، لتبدي ما شئت من شأنك ومشيئتك.. يا من تجلى لما شاء كيف شاء، مثل التجلي في المشيئة لأحسن صورة».

غير أن دعوة الملك عبد الله، ومشروع اللاهوتي الكاثوليكي كونغ، في واقع الأمر يبدوان مشروطين بتوافر أرضية لا بد أن تتحقق قبل النهوض في طريق التجميع لا التفريق، وهي أرضية تواجه تحديات كبيرة، فهل يمكن للجميع، بادئ ذي بدء، أن يعلنوا عن استعدادهم للتخلي عن أحقاد الماضي المتبادلة؟ ثم هل تملك الأطراف الباحثة عن وحدة الأخلاق العالمية شجاعة دفن التعصب والنزوع لجهة السياسات الإثنية والثقافية؟ وثالثا ما هو الضامن أن تمضي مثل تلك الدعوة في إطار من العقل المتفتح والنيات والطوايا القائمة على الرغبة في صنع عالم يسوده السلام والتفاهم ويعمه التقدم والرخاء؟

يمكن القول كذلك إن دعوة البحث عن جامع الأديان باتت، وعن حق، اليوم حاجة ملحة، لكنها تضحى، ومن أسف، دعوة طهرانية يوتوبية في مواجهة إشكاليتين:

الأولى: ظاهرة التطرف الوطني أو العرقي المتقوقع على الذات والرافض للآخر المغاير، وهي ليست وطنية في حقيقة الحال، كما أنها، عطفا على ذلك، ليست حبا شرعيا لموطن الشخص أو احتراما لوحدة الوطن، وإنما هي رفض للآخر لأنه مختلف عنهم ولأنه ينبغي فرض إرادتهم عليه.. وقد حذر البابا الراحل يوحنا بولس الثاني ذات مرة من خطورة هذه الظاهرة التي تولد نعرات قومية تمجد أجناسا بعينها ودولا بذاتها، وتسعى إلى فرض نماذج موحدة من الاقتصاد، وتسعى إلى تسطيح أي اختلافات ثقافية خاصة. الثانية: تتمحور في شكل وجوهر العلاقة بين الشرق والغرب، وهل ستمضي السياقات التاريخية في ضوء النظر إلى الحضارات والثقافات والأديان والخبرات الإنسانية على أساس أنها حضارة إنسانية واحدة صب فيها الجميع ما زاد عندهم أوقات الفيض وسحب منها الجميع ما لزمهم أوقات الجفاف، وساعد كل في زمانه على ملء خزان هائل للحضارة الإنسانية، أم أنها، وبخاصة في أوقاتنا الآنية والمستقبلية، ستعود إلى النظرة التي قال بها صامويل هنتنغتون من أن الغرب فاز بالعالم ليس بتفوق أفكاره أو قيمه أو ديانته، ولكن بتفوقه في تطبيق العنف المنظم، سيما أن الغربيين غالبا لا ينسون تلك الحقيقة، إلا أن غير الغربيين لا ينسونها؟

المقطوع به أنه رغم الصعوبات والتحديات تبقى هناك حقائق إيمانية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، وقد أجمل القرآن الكريم هذه القواسم المشتركة في ثلاثة مبادئ أساسية وهي: الإيمان بالله، والإيمان بالآخرة، والعمل الصالح.. وقد جاء ذلك في أبلغ بيان في آية قرآنية لا تحتمل التأويل: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

هذه القواسم المشتركة في مجملها تعد محل اتفاق بين أتباع الأديان السماوية، وبين الأديان نفسها، أما ما عدا ذلك من تفاصيل أخرى في معتقدات كل دين، فإن ذلك يشكل خصوصية لهذا الدين أو ذاك، خصوصيات تدخل تحت طائلة الدوغمائيات غير القابلة للاقتسام أو الحوار من حولها.

هل هو إذن زمان مشروع الأخلاق العولمية والمستمدة من الجامع والقاسم المشترك دون خروج على الجوهر؟

في تقدير هانس كونغ أن الأخلاق العولمية هي عولمية أيضا بالمعنى الخاص بتاريخ طويل وممتد، ولهذا سيكون أمرا غريبا أن نعتقد أن علينا أن نعيد اختراع تلك الأخلاق.

وحكما، إننا لا نريد أن نستبدل ما لدينا بالفعل، وإلا أضحى المشهد عبثيا وباحتراف مؤسف، إن جاز التعبير، ذلك أن الأمر سيكون بمثابة عدم فهم كامل لو تخيلنا أن علينا أن نستبدل تعاليم بوذا الأخلاقية بالأخلاق العولمية أو بمبادئ العهد الجديد أو الموعظة على الجبل، أو التوراة.. ماذا علينا إذن؟

علينا فقط أن نرى أن هناك معايير أخلاقية متشابهة في كل تلك المصادر العظيمة للإنسانية، كل الأديان التي شهدتها الإنسانية، وفي الوقت الذي تتسع فيه رقعة الخلافات على تنوعها وتعددها، وبخاصة الدينية، مع ما تحمله من شرور وحروب ونار ودمار، وتصيب الأجيال الأصغر سنا في مقدمة من تصيبهم بسهامها المسمومة والمتطرفة، يكون - ولا شك - أمرا عظيم الأهمية أن تكون هناك بعض المعايير الأخلاقية المعروفة ذات القيمة الناجعة للجميع.

هل «مشروع الأخلاق العالمية»، أو يمكنك أن تسميه ما شئت، متطلب جوهري في الساعة الحادية عشرة من عمر البشرية؟

أغلب الظن أن ذلك كذلك؛ فالتحديات العولمية والإيكولوجية كفيلة بإنهاء حياة الإنسان إما أدبيا من خلال أنساق العولمة والرأسمالية المتوحشة التي تقودنا إلى تسليع الإنسان، وإما ماديا من خلال التأثير على الطبيعة التي كادت تصب جام غضبها على البشر، وبين هذه وتلك كلام كثير ومفردات يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها.

ولهذا يبقى مثل هذا المشروع واجب الوجود، وإن كان يتطلب جهدا دائبا لفهم كل منا الآخر وقبوله والاحتفاء به، سيما أنه ما من دين يعد جزيرة منعزلة، بل كل دين يتأثر بالآخر ولا سبيل لأن نكتفي بالدعاء حتى تنتهي الحروب، بل لا بد من أن نجد الطريق للسلام في داخلنا ومع جيراننا، ولا يمكن أن نكتفي بالدعاء حتى ينتهي التعصب، وإلا أصبحت حياتنا خلوا من أفعال السيادة الإيجابية.

ويبقى التذكير بما خلص إليه البروفسور كونغ من أنه «لن يكون هناك سلام بين الدول من دون سلام بين الأديان، ولن يكون هناك سلام بين الأديان من دون حوار بين الأديان، ولن يكون هناك حوار جاد بين الأديان من دون معايير أخلاقية مشتركة».

* كاتب مصري