العلاقات بين فرنسا والمسلمين في شرق المتوسط

رضوان السيد

TT

كان المعهد الألماني للأبحاث الشرقية قد عقد مؤتمرا حول العلاقات بين اللاتين والمسلمين في شرق المتوسط في زمن الحرب الصليبية (فيما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر للميلاد). وقد قام المعهد المذكور بنشر أعمال المؤتمر التي حررها وقدم لها مدير المعهد شتفان ليدر (2011). لقد كان من تأثيرات الحروب الصليبية على العلائق بين الشرق والغرب، أن أوروبا اللاتينية (بزعامة فرنسا) هي التي تولت دفة الصراع بدلا من بيزنطة. وهذا الأمر هو الذي ركز عليه ليدر مدير المعهد في مقدمته لأعمال المؤتمر. أما ديفيد أبو العافية فقد تحدث في محاضرته عن تحول غربي ما كان يثير الاهتمام من قبل. فصقلية التي خرجت من يد المسلمين بالتدريج إلى سيطرة النورمانديين، صارت في القرن الرابع عشر الميلادي مملكة لاتينية. وذهب رالف ليلي في محاضرته عن المجتمع البيزنطي في عصر الحروب الصليبية، إلى أن هذا المجتمع تحول بالتدريج وتحت ضغوط اللاتين إلى مجتمع شرقي، كثر فيه الاختلاط بين السلاجقة والمسلمين. وتضرب سارة نور يلدز مثلا على ذلك بأسرة مانويل كومينيوس البيزنطية المالكة، التي اختلطت بالسلاجقة في آسيا الصغرى، وقامت علاقات بينها وبين المسلمين ما انقطعت حتى سقوط القسطنطينية في أيدي محمد الفاتح عام 1453م.

وجاء القسم الثاني من كتاب المؤتمر متضمنا أبحاثا عن طرائق المسلمين في منطقة المتوسط في مواجهة الحملات الصليبية. أما شتفان ليدر فتحدث عن آيديولوجيا الجهاد، كما ظهرت في رسائل الجهاد منذ كتاب ابن عساكر: «أربعون حديثا في فضل الجهاد»، مرورا بالواسطي والآخرين، الذين كتبوا عشرات الرسائل في فضائل الجهاد وفضائل بيت المقدس الذي احتله الصليبيون وحرره صلاح الدين بعد موقعة حطين عام 1187م. ويلاحظ ليدر أن رسائل وكتب الجهاد انقسمت إلى قسمين: فضائل الجهاد، وفضائل بيت المقدس؛ بل ظهر قسم ثالث كتبه عسكريون أو تقنيون ذوو معارف بالأسلحة وأساليب وأدوات الحصار. فقد تفوق الصليبيون في إقامة القلاع والحصون، كما تفوقوا في آلات الحصار، لذا فقد انصرف خبراء مسلمون إلى تطوير أساليب وأسلحة في هذين الأمرين. وقد انشغل يوشوا فرنكل في محاضرته عن الحرب البحرية بين الصليبيين والمسلمين إلى تتبع إقبال المسلمين على إيقاف الأوقاف لتمويل إنشاء الأساطيل، وتمويل المقاتلين الذين يخوضون الحروب البحرية التي كانت التكتيك الرئيسي لدى الغزاة. وهكذا فإن فرنكل انصرف إلى دراسة وثائق الوقف لهذه الناحية وفي مصر وبلاد الشام بالذات. ويعتبر الباحث أن الوقف كان وجها رئيسيا من جانب المجتمع الإسلامي في مواجهة الغزاة. وانشغل رويفن أميتاي بالسياسات المملوكية الأولى في تخصيص الموارد للحرب. فالمعروف أن الفقهاء ما كانوا متفقين على حق الدولة الجديدة في فرض ضرائب جديدة للحرب، وقد وضعوا شروطا لذلك اضطر السلاطين إلى مراعاتها في عمليات تجهيز الجيوش.

وانشغل الباحثون في القسم الثالث من أعمال المؤتمر بالقوى الأوروبية ومصالحها وتكتيكاتها خلال الحروب التي استمرت مائتي عام. فدرست ماري لويز ليلي سلوكيات وتصرفات المدن التجارية الإيطالية تجاه مصر وسوريا في الحرب والسلم. فقد كانت تلك المدن تملك أساطيل تجارية، استخدمها الغزاة في نقل الجنود. ومن الطبيعي ما دام الأمر كذلك، ألا تظل علاقاتهم جيدة وسلسة بموانئ المتوسط بمصر وسوريا. وكان التحدي: كيف يساعدون المحاربين الآتين من الغرب، وكيف تستمر تجارتهم مع المسلمين. وقد نجحوا في الفترة الأولى في الجمع بين الأمرين، لكنهم عانوا من متاعب جمة عندما بدأت جهود المسلمين لإخراج الصليبيين من أرضهم. وبحث هوبرت هويبن الجهد الألماني (أسرة شتاوفن وفرسان التوتون) في الحرب على المسلمين، منذ قدوم الإمبراطور بربروسا وغرقه وحتى القرن الرابع عشر. والمعروف أن هذا الإسهام العسكري مرّ بمرحلتين: مرحلة بربروسا، ومرحلة فريدريك الثاني، وهي التي انتهت بالمصالحة بينه وبين الملك الكامل بن العادل شقيق صلاح الدين، الذي سلمه القدس! وكان غريغوريوس الملطي المعروف بابن العبري، وهو رجل دين بارز، قد كتب تاريخا عالميا (سماه: «تاريخ مختصر الدول»)، كما كتب تاريخا كنسيا. وقد كتب بيتر برونز بحثه عن كتاب ابن العبري (- 1286م) الكنسي هذا، وعن الأخبار التي أوردها عن علاقات الفرنجة بمسيحيي بلاد الشام. ويذهب برونز إلى أن العلاقات بين كنائس الغرب وكنائس السريان والأرثوذكس بالشام ما كانت مستقرة، ليس بسبب رفض مسيحيي الشام لهم، بل لأن رجال الدين الآتين من الغزاة ما كانوا يحترمون اختلافاتهم الدينية وتقاليدهم. ويدرس بيتر هرديه علاقات البابوية مع المغول والحكام المسلمين في زمن الحروب الصليبية، وبخاصة أواخر القرن الثالث عشر (1250-1300م). فقد كانت البابوية تجهل كل شيء عن المغول، وتحسبهم مسيحيين بعثتهم العناية الإلهية لإزالة المسلمين وممالكهم من البلاد المقدسة. وربما لعب دورا في ذلك وجود مسيحيين نساطرة ويعاقبة في بلاطات المغول. وما أفلح هذا التحالف المرجو في القيام، وبخاصة أن المغول ما لبثوا أن أقبلوا على الإسلام.

على أن المعلومات الضئيلة والمغلوطة لدى البابوية ولدى قواد الحملات الصليبية، تبدو على وجهها الفاقع في القسم الرابع من أعمال المؤتمر، بعنوان: أفكار ورؤى الأوروبيين عن الإسلام والشرق في زمن الحروب الصليبية. كتب المشاركون بهذا الخصوص ثلاثة أبحاث. أما جورج غريسر فكتب عن تسميات المسلمين في وثائق البابوية والأعمال الأخرى. والتسميات كانت على النحو التالي: الهاجريون والسرازانيون والمور والترك والمؤابيون. والتسميتان الأوليان تعودان إلى القرون الأولى السابقة على الإسلام، وكانتا تطلقان على العرب! والمور هم المغاربة، وهي تسمية مبكرة أيضا ربما كانت تطلق على البربر. والمؤابيون هم شعب قديم يرد اسمه في العهد القديم عندما كان يتصارع مع العبريين. فالبارز الفاقع هو أن الاسم الحديث الوحيد نسبيا هو الترك. ولا شك أن الأوروبيين أخذوه عن البيزنطيين الذين كانوا يتصارعون معهم في آسيا الصغرى. وليس الإسلام أو المسلمون من بين الأسماء التي يعرفها أوروبيو الحروب الصليبية. فالصورة السائدة عن «المؤمنين» وخصومهم مأخوذة من الأخبار التي يوردها العهد القديم عن خصوم العبرانيين! وتدرس ماريا موليناري الأغاني والأناشيد الشعبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في الأقطار الأوروبية، لاستنتاج صورة المسلمين منها. فلا تخرج الصور المدروسة عن الوارد في العهد القديم، بالإضافة إلى بعض الأساطير المتوارثة من البيزنطيين في حدود القرن التاسع الميلادي. ويذهب ديتريش لورمان في بحثه عن أعمال «علمية» كتبها الإنطاكيون في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، عن العرب والإسلام، إلى أن هذه الأعمال - والمفروض أنها من وضع مسيحيين عرب ومتعربين - تغص بالأساطير والخرافات حتى عن اللغة العربية فضلا عن الإسلام. وهي عندما وصلت إلى غرب أوروبا انتشرت انتشارا سريعا وحظيت بقبول كبير، لأنها تتجاوب مع الموروثات الأوروبية من العهد القديم! لا يرد في أعمال المؤتمر عن شرق المتوسط في عصر الحروب الصليبية، جديد كثير. ولولا الدراستان عن الوقف والموارد المخصصة من جانب المسلمين للحرب، لقلت إنها لا تورد جديدا أبدا. لكن هناك أمران اثنان يستحقان الذكر والتنويه: انتقال المواجهة بين الغرب والشرق، من أيدي البيزنطيين إلى أيدي الفرنجة واللاتين، وضآلة أفهام الأوروبيين عن الإسلام والمسلمين بل انعدامها بعد ستة قرون على ظهور الإسلام، وسيطرة العرب والمسلمين على شرق المتوسط. فما هو السبب في ذلك؟ المعلومات كانت متاحة وكثيرة. فالمسلمون كانوا في إسبانيا والبرتغال وصقلية. والقرآن الكريم جرت ترجمته للمرة الأولى إلى اللاتينية ترجمة بدائية في القرن الثاني عشر الميلادي. ولذا لا يجد الدارسون علة لذلك – كما ذهب على سبيل المثال دانييل وسوذرن - إلا الكراهية القاتلة.. إذ كان رجالات الكنيسة الكبار يعتبرون كل معلومة صحيحة أو موضوعية خطرا على الدنيا، وإغراء باعتناق الإسلام. والدليل على ذلك أنه في الوقت الذي كانت فيه هذه الصور الأسطورية تنتشر وتتعاظم بمساعي عدة جهات، كانت ذخائر من التراث العلمي والفلسفي العربي والإسلامي تترجم إلى اللاتينية، ويجري تداولها والإفادة منها في الجامعات والمعاهد الناهضة في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا. وفي القرن الرابع عشر بالذات، كانت الرشدية اللاتينية (نسبة إلى ابن رشد القرطبي) قد غزت الأوساط العالمية واللاهوتية، ودار صراع حولها استمر حتى القرن السابع عشر. لقد جمعت الكنيسة الكاثوليكية بين الجهل والتجاهل ومحاكم التفتيش والحروب. ولذلك نجحت الثورة عليها في القرن السادس عشر.