كمال الصليبي.. في رحيل مؤرخ التوراة العربية

إميل أمين

TT

رحل عن عالمنا العربي مؤخرا مؤرخ من أهم وأشهر، بل من أكثر المؤرخين إثارة في التاريخ الحديث، لا سيما أنه تعاطى مع قضايا ذات أبعاد وجذور دينية، رحل المؤرخ اللبناني كمال الصليبي، الذي اعتاد القفز على الثوابت وتحطيم التابوهات وتجاوز المعرفة النمطية، رحل مؤلف استبدل باليقين الواثق المطلق الشك العلمي الديكارتي في نسبيته، عامدا إلى السير عكس تيار أساطير الأولين، وعلى الرغم من أن الكثيرين استهجنوا خلاصاته واستنتاجاته فإن الجميع نظر إليه، حتى الساعة، نظرة ملؤها الاحترام مع الخلاف، فأدوات المؤرخ ليست إلا صحفا وأحبارا لا بارودا أو بنادق.

ولعل أهم بحث ومنشأ خلافي أثاره الدكتور الصليبي في حياته كان ذلك المتعلق بالتوراة، التي هي، كما المعلوم، وقف على بني إسرائيل، وأنها كتبت في أرض كنعان – فلسطين - غير أن الصليبي، في كتابه هذا، حاول نفي صلة بني إسرائيل أولا واليهود ثانيا بفلسطين، وقام بسرد عدد من الوقائع والمعلومات ليدعم بها نظريته إزاء هذه القضية.

كيف بدأت مسيرة الصليبي مع هذا البحث التاريخي؟ في كتابه يخبرنا بالتالي: «لقد كان الأمر عبارة عن اكتشاف تم بالصدفة، كنت أبحث عن أسماء الأمكنة ذات الأصول غير العربية في غرب شبه الجزيرة العربية، عندما فوجئت بوجود أرض التوراة كلها هناك، وذلك في منطقة بطول يصل إلى نحو 600 كيلومتر، وبعرض يبلغ نحو 200 كيلومتر، تشمل ما هو اليوم عسير والجزء الجنوبي من الحجاز، وكان أول ما انتبهت إليه أن في هذه المنطقة أسماء أمكنة كثيرة تشبه أسماء الأمكنة المذكورة في التوراة، وسرعان ما تبين لي أن جميع أسماء الأمكنة التوراتية العالقة في ذهني أو جلها ما زال موجودا فيها، وقد تبين لي أيضا أن الخريطة التي تستخلص من نصوص التوراة في أصلها العبري، سواء من ناحية أسماء الأمكنة أو من ناحية القرائن أو من الإحداثيات، تتطابق تماما مع خريطة هذه الأرض، وهي حقيقة ذات أهمية أولية؛ نظرا لأنه لم يثبت بعدُ، إطلاقا، تطابق الخريطة الموصوفة في التوراة مع خريطة الأرض بين (النيل والفرات) التي اعتبرت حتى اليوم أنها كانت بلاد التوراة».

وأكثر من ذلك يضيف: «إنني لم أستطع العثور على مثل هذا التجمع لأسماء الأمكنة التوراتية وفي صيغها الأصلية عادة في أي جزء آخر من الشرق الأدنى، وهنا قدم الاستنتاج المذهل نفسه بنفسه».. ما ذلك الإنتاج؟

هل الصليبي مؤرخ ديني أم جغرافي تاريخي؟

مؤكد أن علامة الاستفهام هذه تقف في طريق الباحثين عن حقيقة البروفسور الصليبي، والمثير، على حد قوله، أن المؤرخين الدينيين من المسيحيين الغربيين كانوا ينظرون إليه نظرة مثيرة على أساس أنه وعلى قوله «مسيحي من شذاذ الآفاق» Christian of the Diaspora، أي: مسيحي غير شرعي؛ لأنه ليس غريبا إذ تسيطر في الغرب فكرة أن المسيحية هي دين غربي، وأن المسيحيين غير الغربيين ليس لهم شأن في البحث في أمور لا تخصهم، هذا مع العلم أن المسيحية ولدت مشرقية.

يقول البروفسور الصليبي: «إن عملي هو التاريخ والجغرافيا التاريخية واللغويات، لا أشتغل بالسياسة أو الدين، وبالتالي فالمقدس يبقى شخصيا وقلبيا، ولا يدخل بالعمل الأكاديمي أو العمل في حقل علم التوراة».

ماذا إذن تمثل التوراة له وهو البروتستانتي الذي ينتمي إلى مذهب الثائر الألماني مارتن لوثر الذي يؤمن بحرفية النصوص الكتابية التوراتية دون أي إعمال للعقل فيها؟

يرى الرجل أن التوراة بالنسبة له كتاب يحترمه جدا وبشكل تقليدي؛ لأنه وُلد في عائلة تقدس التوراة، لكن التوراة في الوقت نفسه مصدر معلومات غامضة، وتحتاج إلى تفسير، وأنه يجب أن يفسرها وعنده من الفضول ما يدفعه إلى تفسيرها.. لماذا؟

يقر بالآتي: «حتى أروي فضولي، وثانيا: إذا عثرت على ما قد يجذب اهتمام الآخرين فمن واجبي أن أقوم بإعلانه؛ لأنه لا يوجد أحد في العالم قاصر، والفكرة أن هناك أناسا في العالم قاصرين، لا تستطيع أن تقول شيئا تعرفه أمامهم خطأ؛ لأنه لا يوجد أحد قاصر».

أين يقع الفارق في كتابات الصليبي بين مجرد الرأي أو التحليل الفكري وبين الحقائق العلمية؟

يجيبنا الرجل ذات مرة بالقول: «إنه حتى شهر سبتمبر (أيلول) 2009 كان ما قمت به يقع في إطار النظرية التي تبنيتها واقتنعت بها 100% واقتنع بها كثيرون، وكثيرون رفضوها أيضا، ومنذ ذلك الحين طرأت مستجدات، وآخرها أن بريطانيًا لم أكن أعرفه يعمل في مجال الفلك، وقد قرأ كتابي الأول الذي تناولت فيه النظرية، وهو (التوراة جاءت من جزيرة العرب) الذي صدر بالإنجليزية سنة 1985، أرسل لي كتابا في سبتمبر 2009، منذ ذلك الحين ما كنت أعتبره نظرية صار واقعا لا جدل فيه».. كيف ذلك؟

في روايته، يقول البروفسور الصليبي إنه لفت (أي عالم الفلك البريطاني) إلى مقطع في التوراة يقول: إن الملك حزقيا طلب من النبي أشعياء (700 - 800 قبل الميلاد) يقول له: عمري 21 سنة، وأنا أواجه الموت، اطلب من الله أن يمد في عمري. فيقوم النبي أشعياء يصلي ويعود فيخبر الملك أن الله كلمه وأنه سيمده 15 عاما إضافية، والعلامة هي أن خيال الميل (العقرب) للساعة الشمسية الموجودة في دار الملك سيرجع إلى الوراء بقدر ما كان تقدم، وهذا ما حصل.

وما يجري عادة هو أن الشمس تشرق من الشرق، فيكون خيال الميل للساعة الشمسية عند الطرف الآخر من سطح الساعة، وكلما تقدمت الشمس تراجع الخيال نحو الوسط، ثم نحو الطرف الآخر المعاكس لحركة اتجاه الشمس.

غير أن ما يحدث بين مداري السرطان والجدي، وتحديدا في أواخر شهر يونيو (حزيران) وأوائل شهر يوليو (تموز)، حيث أطول أيام السنة، هو أن خيال الميل يتقدم من الشرق نحو الوسط، ويعود مكانه قبل الظهر، ثم بعد الظهر يحدث الشيء ذاته، لكن عكسيا.

عرف أشعياء بهذه الظاهرة ونقلها إلى الملك، ومثل هذه الظاهرة لا يمكن أن يحصل في القدس بفلسطين بل يحصل في عسير التي تقع جنوب مدار السرطان بين خطي عرض 17 و19 درجة.

الشاهد أنه لم يكن ممكنا، بحال من الأحوال، أن يغفل الصليبي في بحثه التاريخي عن الجذور التوراتية، عمَّا ورد في القرآن الكريم عن اليهود، وهنا نراه يؤكد استحالة الاقتصار في البحث عن بني إسرائيل على التوراة فقط.

يقول الصليبي: اليهودية شيء معين جدا، بمعنى المحدودية؛ ففي كتابي الأول ارتكبت غلطة كبيرة ولم أعد إلى استعمالها تاليا، وذلك عندما استعملت كلمة اليهودية للدلالة على بني إسرائيل، وقمت بذلك تسهيلا على الناس الذين يخلطون عادة بين الاثنين.

إلا أن القرآن يذكر اليهود كثيرا، ويذكر بني إسرائيل كثيرا، ولا يخلط بين الاثنين أبدا، فلا يقول إن اليهود كانوا بني إسرائيل أو من بني إسرائيل بالضرورة، أو إن موسى كان يهوديا أو قائدا يهوديا.. موسى في القران هو من بني إسرائيل، وكذلك القرآن لا يقول إن عيسى بن مريم كان يهوديا بل يقول إن عيسى بن مريم كان من بني إسرائيل، وهذا شيء مهم جدا.

إذا تحدثنا عن داود مثلا نقرأ في التوراة أنه بعد أن مات شاؤول وأولاده يقوم داود برثائهم ويأمر بني إسرائيل أن يتعلموا ما معناه بالعبرية «الرماية»، أي الرمي بالسهام، هم يترجمونها «أغنية القوس» التي تحكي كيف قتل شاؤول وأولاده.

في هذا النص يمكن للقارئ أن يلاحظ ما زيد عليه من هنا وألصق به من هناك، والذين ترجموه لليونانية أيضا يذهبون إلى أنها يجب أن تكون أغنية، وهي «أغنية القوس»، لكن، وفي مكان آخر تقول رواية توراتية: إن داود هجم على بني عمون، وأخذ منهم المدينة التي اسمها «ربة» وبعد ذلك أخرجهم منها وأرسلهم إلى ما بعد «ملكان»، وهو واد إلى الجنوب من مكة، أي حدود عسير الشمالية.

ولعل أهمية قراءة أوراق المؤرخ الراحل كمال الصليبي في هذا التوقيت الذي تتحرك فيه أوراق فلسطين إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل الحصول على مقعد دائم العضوية، تتمثل في أن الرجل كان أداة علمية غير مسبوقة في تأكيد عروبة فلسطين وأصحابها من العرب الفلسطينيين الأصليين، بعيدا عن الروايات المنحولة.

وصلب المشكلة عنده يتجاوز الإشكالية اللغوية العبرية إلى القضية الجغرافية، ويتمثل في أن التوراة العينية بالتفاصيل الجغرافية والمسافات والجهات، لا تقبل بأي حال أن تكون جغرافية أرض فلسطين.

كما يشير في كتاباته إلى حقيقة علم الآثار الذي نقبت من خلاله الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كل شبر من أرض فلسطين التاريخية وحتى تحت المسجد الأقصى ولم يتم العثور على أي دليل علمي يشير إلى وجود لبني إسرائيل هناك في الفترة الممتدة إلى ما بعد السبي البابلي.

لذلك من الطبيعي أن يبحث الدكتور الصليبي عن جغرافية التوراة الصحيحة، خصوصا أن السجلات الفرعونية والآشورية تقود إلى تأكيد خلو أرض فلسطين التاريخية من وجود لبني إسرائيل فيها «بل التوراة نفسها لا تذكر ذلك» ولأن علم الأسماء هو جزء من علم التاريخ، استند الدكتور الصليبي إلى تشابه الأسماء، وعلى النص القرآني وعلى رؤية جديدة لجغرافية النص الإنجيلي، وعلى إشارات في السجلات التاريخية المعتمدة، ليقدم نظريته التي تقول إن التوراة جاءت من جزيرة العرب من بلاد عسير.

وما قام به الدكتور الصليبي تحديدا هو كتابه شهادة وفاة علمية ودقيقة ورصينة لتاريخ بني إسرائيل «في جغرافية فلسطين» كما دونها اليهود أنفسهم في بابل زمن السبي الذي لا خلاف عليه. أما بنو إسرائيل الذين عادوا فيما بعد إلى فلسطين تحت مسمى اليهود زمن الحكم الفارسي للبلاد، لم يكونوا من نسل يعقوب بل ممن تهودوا في بلاد بابل.

يرحل اليوم كمال الصليبي ومن قبله نيقولا زيادة، حارس التاريخ، وبينهما الدكتور أنيس الصائغ، وتبدو الساحة العربية قفرا من رجال يفكرون بعزم ويعلمون بحزم، إلى أن يهب الله الأمة بديلا عنهم.

* كاتب مصري