الشيخ محمد تشايلاكوفيتش لـ «الشرق الأوسط»: نحن نحتاج مدارس خاصة لتخريج الحفاظ

حلقات تحفيظ القرآن الكريم أساس البنيوية الثقافية لمسلمي البلقان

الشيخ محمد تشايلاكوفيتش («الشرق الأوسط»)
TT

يتلقى أبناء المسلمين في البلقان دروسهم الأولى عن الإسلام في بيوت الله العامرة، فأغلب الأسر المسلمة نشأت في مجتمعات إثنية وفي ظل أنظمة سياسية تحصر علاقة الفرد والجماعة بالإسلام في حدود المسجد، وتحت الرقابة الأمنية، فكل من يرتاد المساجد كان مثار شكوك وتوجس السلطات الشيوعية. إذ إن الحرية في أشكالها الأربعة، حرية المعتقد، وحرية الفكر، وحرية التعبير، وحرية الإعلام وغيرها، تعد تهديدا مباشرا في نظر الأنظمة غير الشرعية، كالتي سادت في البلقان قبل أن تهب رياح التغيير الديمقراطي على أوروبا الشرقية منذ تسعينات القرن الماضي. واليوم وبعد أن استعاد المسلمون بعض حريتهم، تحولت مساجد البلقان كل نهاية أسبوع لما يشبه خلايا النحل، تعج بأبناء وبنات المسلمين الراغبين في التعرف على دينهم، وتعلم اللغة العربية، ولو على مستوى تهجي ثم قراءة الحروف العربية، لإتقان تلاوة القرآن الكريم باللغة التي نزل بها. وأصبح في البلقان المئات من الحفاظ لكتاب الله تعالى، وآلاف الراغبين في تعلم القرآن قراءة وتلاوة وأحكاما. «الشرق الأوسط» زارت العديد من حلقات القرآن الكريم داخل بعض المساجد في البلقان، التي تنقسم بدورها إلى مجموعات صغيرة حسب مستوى الحفظ لكل مجموعة، حيث يلمس الزائر حرصا كبيرا من قبل الجميع على مفاتيح الهوية وهي دينية بالأساس، وثقافية في بنيويتها وصيرورتها، وحضارية في أبعادها الكلية.

وقال الشيخ محمد تشايلاكوفيتش، الباحث في كلية الدراسات الإسلامية، وإمام مسجد تشارسيسكا في البوسنة، لـ«الشرق الأوسط»، «نحن في حاجة إلى مدارس خاصة لتخريج الحفاظ، وسيكون من الأفضل في هذه المنطقة وجود مدارس لتحفيظ القرآن الكريم، وهو ما يقربنا إلى فهم أعمق لكتاب الله سبحانه وتعالى». وعن مدى استيعاب الطلبة لبرامج الحفظ قال «قبل الشروع في برنامج حفظ القرآن، يتوجب على الطلبة تعلم الحروف العربية، ليتمكنوا من المراجعة في البيت بأنفسهم». وأكد الشيخ تشايلاكوفيتش وجود أكثر من 190 حافظا حاليا في البوسنة وحدها، وأكبر من هذا العدد بكثير في مقدونيا، كما هناك مدرسة جديدة لتخريج الحفاظ في السنجق. وعلى الرغم من أن الفتيات يشاركن بكثافة في حلقات تحفيظ القرآن، فإن نسبتهم لم تتعد 8 في المائة من عديد الحفاظ في المنطقة، حسب الشيخ تشايلاكوفيتش.

وعما إذا كانت مسابقات حفظ القرآن الكريم تشجع على الحفظ أجاب «حفظ القرآن الكريم يرجى منه وجه الله تعالى، ولكن على الراغبين في المشاركة في مسابقات الحفظ أن يراجعوا كثيرا وباستمرار ليحققوا هدفهم». وفي رده على سؤال حول الحكمة التي استفادها من أساتذته الذين حفظ على أيديهم القرآن الكريم، قال «الاستقامة على طريق الخير». وبخصوص احتياجات المرسمين في حلقات تحفيظ القرآن الكريم، ذكر الشيخ تشايلاكوفيتش أن «من يرغب في حفظ القرآن الكريم والعلم الشرعي عموما يحتاج لحب حيال كتاب الله تعالى، ثم الاستمرار في الحفظ والمتابعة. وبالنسبة للراغبين في الحفظ، لا يكفيهم الحضور يومي السبت والأحد فقط، بل يحتاجون لكل الأسبوع حسب الاستطاعة»، وتوقع مستقبلا زاهرا لمسيرة حفظ القرآن في البوسنة والبلقان، حيث بدأت مرحلة تاريخية جديدة، تشهد إقبالا متزايدا على حلقات تحفيظ القرآن الكريم. وذلك تزامنا مع قيام مدارس متخصصة، ووجود نيات لفتح مدارس أخرى في المدى المنظور. ومما يحبب الأطفال في القدوم إلى المساجد في البلقان روائحها العطرة وفرشها النظيفة، والزهور التي لا تخلو منها ساحاتها، والتنظيم المحكم، والنسق الجميل للمساجد. وقد استمعت «الشرق الأوسط» لتلاوة عطرة من بعض طلبة حلقات القرآن في المساجد. ومن ذلك الطالب مصطفى (12 عاما) الذي يحفظ الكثير من سور القرآن الكريم. ويأتي للمسجد مع أخته منذ ثلاث سنوات. وقال لـ«الشرق الأوسط» «إلى جانب تعلم الحروف العربية وقراءة القرآن من دون ترجمة، تعلمت هنا كيفية الوضوء والصلاة وأحكام الصوم والزكاة والحج، وتفسير العديد من الآيات وقبل ذلك الشهادتين»، ويتعلم طلبة الخلاوي القرآنية الأسبوعية، شروط الإسلام، والإيمان. ويبدأون بتعلم العقيدة ثم العبادات ثم المعاملات. وقالت لمية، (13 سنة)، إنها تعلمت جزء عم وهي فخورة لأنها تعلمت ذلك في وقت قياسي، وتتحسر على عدم ارتيادها للمسجد منذ كانت صغيرة. وقالت إن لديها أخا يدعى نادر يأتي معها إلى الحلقة، لكنه تغيب في ذلك اليوم الذي قامت فيه «الشرق الأوسط» بالزيارة. ومن بين الطلبة الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» ماجدة (12 سنة) وقد أكملت حفظ جزء عم. والطفل يوسف (10 سنوات) ويحفظ جزء تبارك. وقال جميعهم إن أصعب فترة هي تعلم الحروف العربية وإن المراجعة في البيت تساعد كثيرا على ذلك، لا سيما من حباه الله بأبوين أو أحدهما يجيد اللغة وفي الحد الأدنى الحروف العربية. وإذا كان البعض لم يحفظ سوى عدد قليل من أجزاء القرآن، فإن أطفالا من أبناء المسلمين في البلقان قد حفظ القرآن الكريم كاملا، مثل عمار ميكانوفيتش وقال ميكانوفيتش، (12 عاما)، لـ«الشرق الأوسط» «بدأت حفظ القرآن الكريم وعمري ستة أعوام ونصف العام ولم أكن أشعر بأي صعوبة في الحفظ». وقال إن والديه ساعداه على حفظ القرآن الكريم بتشجيعهما وتوفير كل الإمكانات المساعدة على ذلك. وقال إن «الله وفقني لأتم حفظ القرآن كاملا خلال 5 سنوات متواصلة وكان لوالداي وأستاذي مولود الدين أرسلاني الفضل بعد الله سبحانه تعالى في تحقيق هذا الإنجاز، وأسأل الله أن يوفقني للعمل بالقرآن والدعوة إلى هداه والذود عن حرمته». وعن كيفية توفيقه بين الدراسة وحفظ القرآن، قال «الله سبحانه وتعالى يسر لي ذلك ولم أجد مشكلة، بل إن حفظ القرآن حفزني على مراجعة دروسي».

العناية بالقرآن الكريم، سواء بالكتابة أو الحفظ أو غيرها من الوسائل، تمثل تراثا تاريخيا وواقعا حاضرا لأبناء البوسنة والبلقان لا يعرفه كثيرون من أبناء العالم الإسلامي. وقال الدكتور عزت بن عاطف تارزيتش «اهتمام المسلمين في البلقان بالقرآن الكريم يعود إلى دافع الإيمان العميق بالإسلام والرغبة الصادقة في مشاركة إخوانهم في العالم الإسلامي بجهد في بقعة تعد من أطراف العالم الإسلامي النائية والمستهدفة من محيطها». أما الدكتور درويش سباهيتش فيرجع ذلك الاهتمام إلى أن «القرآن الكريم هو الكتاب الأكثر قراءة في كل الزمان، ولأنه الكتاب الموثق بأكبر عدد من النسخ المخطوطة في العالم، والمطبوع بأكبر عدد من النسخ المطبوعة في العالم، والمميز بأكبر عدد من الحفاظ». ويشير الدكتور تارزيتش إلى أنه منذ أن «دخل الإسلام البوسنة، والبوسنيون ينهلون من علومه ومعارفه وأعظمها وأجلها علوم القرآن الكريم». وقال الحافظ الشيخ جواد شوشيتش، الأستاذ في كلية الدراسات الإسلامية، لـ«الشرق الأوسط» «أنهيت الحفظ بالمدرسة الإسلامية الثانوية (غازي خسرو بيك) على يد أستاذ القرآن الكريم حمدي بيجيتش، وتعلمت القراءات في كلية القرآن الكريم بالمدينة المنورة، وحصلت على إجازة للقراءات السبع على يد الشيخ طلال بن أحمد دين وكان مدرسا للقراءات بنفس الكلية». وتابع «الحفظ يحتاج أولا: النية الخالصة الصحيحة ثم العزم، قابلت بعض العقبات في أثناء الحفظ، ولكن بعون الله ومساعدة محفظي تجاوزتها». وعن العقبات التي تحول دون ازدياد عدد الحفاظ في منطقة غرب البلقان. قال «كل ما يتعلق بالمجتمع يؤثر على الفرد، فالظروف الاجتماعية والسياسية والتاريخية وحال المسلمين عامة، ففي زمن الشيوعية كان عدد الحفاظ قليلا جدا، وبزوالها والحمد لله زاد العدد بنسبة كبيرة، كذلك عامل اللغة يؤثر كثيرا على إقبال الناس على الحفظ. فعدد الحفاظ في البوسنة يناهز المائتين حافظ، كما يوجد في السنجق حافظان لكتاب الله، وفي كرواتيا اثنان أيضا، وفي الجبل الأسود حافظ واحد».

وعما إذا كان راضيا عن النتائج التي تحققت حتى الآن، وكيف يمكن زيادة عدد الحفاظ، قال «كما ذكرت بعد سقوط الشيوعية زاد عدد الحفاظ في البوسنة كثيرا، وهناك إقبال كبير على تعلم كتاب الله، لكن على المؤسسات الإسلامية في البوسنة أن تشجع على حفظ كتاب الله وتحث الشباب خاصة على ذلك. كذلك يجب تشجيع من أتم الحفظ ليعلم غيره تطبيقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)».