المعيشة الضنك

د. عائض القرني

TT

قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا».. المعيشة الضنك هي ضيق الصدر وتواصل الهم والغم والحزن والتسخط من القضاء والتبرم بأقدار الله والقلق والاضطراب وتمني الموت والإشراف على الانتحار كما قال المتنبي:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا تمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا وليست المعيشة الضنك أن تسكن كوخا أو لا تجد مالا أو أن تفقد عضوا من أعضائك أو أن تصاب بمصيبة وأنت مع ذلك تملك الإيمان والصبر والقناعة وحسن الاتصال بالله في صلاة خاشعة وتلاوة متدبرة وذكر لله دائم، فأنت بهذا النهج في حياة طيبة كما قال تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهم أَجْرَهم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، فصاحب الحياة الطيبة راض بقضاء الله طائع لربه، متبع لرسوله، صلى الله عليه وسلم، يحمل القناعة في نفسه، والرضا في قلبه، يسلم لله فيما كتب من الأقدار، إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإن أذنب استغفر، وأجمل وصف له هو قوله، صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن»، أتريد أن ترى صاحب العيشة الضنك؟ سوف تجده في إنسان عاص فاجر تارك للصلاة ظالم لعباد الله عاق لوالديه قاطع لرحمه معترض على قضاء الله يلهث وراء المادة حينها تجده يعيش مهزوما مفتونا حائرا قلقا لأن الذي يملك السعادة هو الله وحده، فإذا أغلق الإنسان الباب الذي بينه وبين الله وقطع الحبل الواصل الذي يصله بالله فمن أين تأتيه السعادة؟ وسوف تشاهد في حياتك أهل العيشة الضنك الذين أعرضوا عن الهداية وألغوا المسجد من حياتهم والسجود لله، وهجروا القرآن وارتكبوا ما يسخط الله، وقد يجمع أحدهم مالا كثيرا ويملك ثروة هائلة ويجمع دورا وقصورا، لكنه في غم دائم وحزن مستمر، ولا يفهم من هذا أن الأغنياء والأثرياء دائما أشقياء، بل كم من غني ومؤمن صادق وعابد منيب يسكن قصرا مشيدا، وكم من فقير ممزق الثوب مفلس من المال وهو عدو لله، فالميزان ليس كثرة المال أو قلته أو فخامة المسكن أو بؤسه أو علو المنصب أو دنوه، إنما الشأن في قلب هذا الإنسان، في ضميره، في إرادته، فالسعادة تأتي من النفس المطمئنة المؤمنة، والشقاء والمعيشة الضنك تنطلق من قلب مارد جاحد، ومن ضمير خاو، ومن إرادة فاشلة، اقرأ قصصا عالمية لأثرياء وأغنياء جمعوا المليارات والبنوك، ومنهم من انتهى إلى الانتحار أو المرض النفسي أو الهستريا والهذيان وفقد العقل؛ لأنهم فقدوا البوصلة التي تدلهم على السعادة والحياة الطيبة المتمثلة بالإيمان الصادق والقناعة واستقامة الضمير والقيام بالحقوق والواجبات وإعطاء كل ذي حق حقه، لا تبحث عن السعادة في جمع الدولار والدينار واليورو والريال والدرهم، فإن كبار يهود العالم يملك الواحد منهم من الثروة ما لا تملكه دولة من الدول، لكنه جمعها من الربا والغش والنصب وغسيل الأموال، وهو مع ذلك محارب لله مكذب لرسله، معرض عن طاعته، فأين السعادة إذن؟ ولا تظن السعادة أن تسكن قصرا أو برجا عاجيا أو حديقة غناء، فقد سكنها قوم وملكها أناس، لكنهم لما أخطأوا طريق السعادة، حرموا الحياة الطيبة وعاشوا أشقياء بكدر وانزعاج حتى أتتهم القاضية، وفي المقابل وجد السعادة أناس يسكنون الخيام وينامون على الحصير ويأكلون خبز الشعير، لكنهم ما بين سجدة وتلاوة ودعاء وقناعة وصبر وشكر، فعاشوا سعداء وماتوا راضين عن الله، والله راض عنهم، فيا أيها الإنسان، فتش عن السعادة فيما أعطاك الله، في مواهبه الجمة، في نعمه الجزيلة، ومفتاح ذلك الإيمان به جل في علاه وامتثال أمره واجتناب نهيه مع حسن معاملة عباده، وقد جمعها، صلى الله عليه وسلم، في قوله: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن».