«تجديد التفكير الديني في الإسلام»

رضوان السيد

TT

هذا العنوان هو عنوان كتاب محمد إقبال الذي كتبه قبل عام 1910م عندما عاد إلى الهند من بريطانيا وألمانيا. والأثر الألماني فيه ظاهر، لأن محمد إقبال يذكر فيه كانط وشوبنهاور، والمستشرقين الألمان، والتعقل والتجدد. وهو يعني به التجديد الروحي، ولثلاث جهات: لجهة الخروج من التواكل والجمود والتقليد، ولجهة إعادة قراءة القرآن الكريم، ولجهة الفهم الآخر للعلاقة بين الدين والعلم. وكان المسلمون بالهند يعانون من أمرين اثنين: سيطرة التقليد المذهبي، وسيطرة الاستعمار البريطاني. وقد اختلفوا خلافا شديدا فيما بينهم في المسألة الثانية، أي الاستعمار وسبل الخروج منه. وكان إقبال مقتنعا أن الأمرين مترابطان، بمعنى أن الخروج من الاستعمار (الخارجي)، يتطلب الخروج على التقليد وتجديد مثل الحياة الإسلامية الناهضة. وهو في ذلك يحاول الجمع بين النهوضين: النهوض السياسي والنهوض العلمي. والواقع أن جبهة النهوض هي التي عانت من الانقسام؛ ذلك أن التقليديين المعارضين للاجتهاد والتجديد كانوا موحدين. وقد رأى هؤلاء أن الاستعمار الأجنبي هو الذي يريد منهم أن يغيروا دينهم أو أن يثوروا عليه، فرأوا أن الصمود على المذهب الحنفي وتقاليده، كفيل - إن لم يحررهم من السيطرة الأجنبية؛ فإنه يمنع انهيار مقاومتهم، بعد الهزيمة التي عانوا منها عام 1857م في ثورتهم على البريطانيين. وقد رأى إقبال وأنصار التجديد أن التقليد كان مفيدا في عدم التشبه بالكفار، لكنه ما عاد كافيا ولا مجديا في التشبث به وسط الدعوة العامة لدى المسلمين في سائر أنحاء الأرض آنذاك لكسر التقليد وفتح باب الاجتهاد. والطريف - كما سبق القول - أن النهضويين أو الإصلاحيين هم الذين انقسموا من وراء دعوتين، هما دعوة السيد أحمد خان، ودعوة الشيخ شبلي النعماني. فقد رأى السيد أحمد خان أن التقليد والهزيمة السياسية والعسكرية معا، يفرضان نهجا جديدا يكون على المسلمين أتباعه للخروج من المأزق: نهج مسالمة البريطانيين أو إسقاط فرضية الجهاد للعجز عن الاستمرار فيه، دونما اعتناق الفرضية الأخرى: فرضية الهجرة - والانصراف إلى التعليم الحديث الذي يؤدي بالتدريج إلى النهوض والتحرر، ويأتي أولا التحرر من الجهل، ليتبعه التحرر من الاستعمار الخارجي. أما شبلي النعماني، الذي كان يقول أيضا بفتح باب الاجتهاد، فما كان يرى ضرورة لمهادنة البريطانيين، بمعنى التوقف عن مجاهدتهم؛ بل يمكن اعتبار الصمود وعدم الهجرة ما داموا لا يتعرضون للعبادات سبيلا ناجعا، إذا اقترن بالإقبال على أمرين اثنين: إسقاط التقليد المذهبي في الفقه والعمليات، وإنشاء ما سماه علم الكلام الجديد. وقد عنى ذلك بالنسبة له، أو عنى التجديد الديني بالنسبة له: التجديد في علمي الفقه والأصول، أو في النظر والعمل. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أقبل كلا الطرفين على إنفاذ منهجه وبلورته في صورة خطة دعا إليها مسلمي الهند جميعا. والفرق بين المنهجين والرجلين كان فرقا في الإدراك للمشكلة، كما كان فرقا في التواصل. فالسيد أحمد خان كان على معرفة جيدة بالغرب، وقد درس في بريطانيا؛ بينما كان شبلي النعماني بالغ التواصل مع بقية أجزاء العالم الإسلامي، فقد زار المشرق في الحج وغيره، وقرأ عما كان يجري بمصر، واختلافات الآراء في الموقف من الاجتهاد، والموقف من البريطانيين أيضا.

ويمثل محمد إقبال أفكار الجيل التالي لجيل السيد أحمد خان وشبلي النعماني. فقد عمد الأول إلى إنشاء المدارس على النمط الحديث، بينما أقبل الثاني على التجديد في المدارس والمعاهد الدينية من طريق الاجتهاد، ونبذ التقليد المذهبي، ونقد التصوف وممارساته، واعتناق مذاهب السلف. وقد استهوت إقبال الذي كان قد درس الحقوق ببريطانيا، والفلسفة بألمانيا، أطروحة النعماني في علم الكلام الجديد. وقد أحاط ذلك بالإطار الفلسفي الذي عرفه في ألمانيا، التي كانت تشهد وقتها استشراقا ناهضا، ومعارف جديدة بالإسلام وتراثه. وما كان إقبال عالما بالفقه، بل كان في أطروحته للدكتوراه قد اشتغل على الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية أو المتأخرة ومدارسها في إيران، ولدى السنة والشيعة. وقد اتخذت تلك الفلسفة منحيين كما هو معروف: منحى فلاسفة الإسلام، أي الفارابي وابن سينا، وتلامذة ابن سينا من الإشراقيين مثل السهروردي وغيره. ومنحى المتكلمين الأشاعرة الذين استعار متأخروهم كثيرا من فلسفة ابن سينا. ثم كان هناك التصوف الفلسفي الشائع لدى المتفلسفين والمتكلمين. وتحت وطأة ما عرفه أثناء تحضيره لأطروحته الفلسفية، أراد الخروج من المنحيين المتوارثين: الفلسفي والكلامي؛ وفيما يشبه دعوة شبلي النعماني لتجديد علم الكلام أو النظر في إنشاء علم كلام جديد. ورغم أنه ما كان يعرف ما يجري في إيران ولا في مصر؛ فإنه قدر أن السبيل الفضلى للنهوض تحت العنوان السالف الذكر (تجديد علم الكلام أو التجديد الفكري) تنطوي على الخطوات الثلاث السالفة الذكر: الخروج من التقليد، وقراءة القرآن أو تفسير القرآن تفسيرا جديدا، وإعادة النظر في العلاقة بين الدين والعلم، أو بين العلم الديني عند المسلمين (الفقه والأصول) والعلوم الدنيوية، أو العلوم الطبيعية التي كانت قد صارت بالغة النهوض في الغرب. ولأنه ما كان عارفا بطرائق التجديد الفقهي، فقد انصب جهده لبلورة علم الكلام الجديد على قراءة القرآن بطرائق جديدة، أثر فيها قليلا نزوعه الصوفي والشعري، وأثرت فيها أكثر معرفته العميقة بالفلسفة الألمانية الحديثة، وبفلسفة كانط على وجه الخصوص: في التجريد العقلي وصوغ المقولات، وتجديد المنظومة الخلقية، وغلبة فكرة الواجب. وما كتب محمد إقبال تفسيرا للقرآن الكريم، لكنه عالج مسألة التجديد من خلال الفهم الجديد أو المتجدد للقرآن في كتابيه: «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، و«ما العمل يا أهل المشرق أو يا أهل الإسلام؟». وفي هذين الكتابين يظهر منهجه التجديدي في الاستناد إلى آيات قرآنية في إعادة إحياء وترتيب فلسفة القيم أو منظومتها مثل الوحدانية والحرية والاستخلاف، وربط الدين بالدنيا، والخلق النهضوي أو أخلاق العمل بالدين. والطريف أنه يستند إلى المستشرق ماكدونالد (وله كتاب في علم الكلام الإسلامي)، ليتحدث عن أمرين دعا إليهما الشيخ محمد بن عبد الوهاب بنجد في القرن الثامن عشر: فتح باب الاجتهاد، والتأكيد على عقيدة الوحدانية والحملة الشديدة على الشرك النظري والعملي. ويتابع بحثه عن نماذج تجديدية بالمشرق ليتخذ لنفسه مسافة من الصراع الذي كان ناشبا بين المسلمين في الهند، فيذكر أن تركيا في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع العشرين تشهد منزعين: منزعا يرمي إلى تجديد المشروع السياسي، ومنزعا آخر يرمي إلى التجديد والإصلاح الديني. وهو يعتبر أن دعاة الإصلاح الديني مثل الصدر الأعظم سعيد حليم باشا هم الأولى بالاعتبار؛ لأن الأوائل يبدأون بالتجديد من فصل الدين عن الدولة، فيجردون البنى السياسية من روحها ودوافعها الأخلاقية. فهو لا يريد دولة ثيوقراطية، لكنه يريد دولة تنطلق من دوافع الدين وقيمه وأخلاقياته، لتكون أكثر تمثيلا للمجتمع ومطامحه، ولكي تستطيع أن تقود الناس بما يعرفون إلى ما يعرفون ويرغبون. أما إصلاحية سعيد حليم وزملائه فإنها ومن طريق الاجتهاد تعيد الاعتبار إلى قيم الشورى والعدل والعقل والأخلاق ونظافة وتكامل النية والعمل.

ويبقى الركن الثالث، أو حل الإشكال بين الدين والعلم. وهو يرى أن الانفصال الذي حدث بينهما كان وراء انحطاط المسلمين على مدى القرون الخمسة الأخيرة. فالقرآن الكريم يربط بين النظر والعمل، ويدعو للتأمل في الكون، ويذكر سننا وقوانين طبيعية واجتماعية ويطلب اكتناهها والتفكر في مآلاتها الدنيوية والأخروية. وهو حائر في أسباب هذا الفصام الذي حدث بين المسلم وعالمه الطبيعي والإنساني. فالإسلام ما فرض تصورا أو تفسيرا جامدا للكون، وحتى الفلسفة الذرية المستعارة أو الجزء الذي لا يتجزأ في علم الكلام، لا تعني تجميدا لعلوم الفيزياء والكيمياء والفلك والطب، وهي علوم كانت شديدة التقدم في الأزمنة الإسلامية الكلاسيكية: فهل تشيخ روح الحضارة، كما يشيخ جسد الإنسان؟ القرآن الكريم يقول لنا إن الروح خالدة، وإن كنهها خفي على غير خالقها عز وجل، فكما ينبغي أن يعود ذلك التواصل العميق بين فكر المسلم وعمله (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، كذلك ينبغي أن يعود التواصل بين دين المسلم ودنياه! لقد اعتبر محمد إقبال إذن أن التجديد في حياة المسلم، مرتبط بالتجدد في فكره الديني، لأن الدوافع الإيمانية والقيمية هي التي تسدد العمل الدنيوي وتضعه في سياق مقاصد النهضوي الأخلاقي والإنساني.

عرف المسلمون الهنود محمد إقبال بوصفه مفكرا وشاعرا وداعية إلى إنشاء دولة للمسلمين بالهند يستطيعون فيها أن يحيوا بحرية بعد أن اجتمع عليهم الاستعمار البريطاني، والإعراض من أقرانهم الهنود. وقد توفي عام 1938، أي قبل قيام باكستان بتسع سنوات، لكن الباكستانيين ما يزالون يعتبرونه حتى اليوم داعية دولتهم الأول. وما توقع إقبال ذلك الاشتباك الحاصل بين الدين والدولة في كيان مستقل للمسلمين، لأنه ربط قيام الدولة بالنهوض الإسلامي وبالحرية. وقد ترجمت سائر دواوينه إلى العربية شعرا، والإيرانيون يعتبرونه أحد أعاظم الشعراء بالفارسية في الأزمنة الحديثة. وإلى الفارسية والعربية ترجم كتابه في تجديد التفكير الديني، إنما لم يترك أثرا مثلما تركه شعره، ربما بسبب نزوعه الفلسفي، أو لأن التجديد الإسلامي اتخذ منحى فقهيا.