«سانت ايجيديو»: لا مستقبل في الحرب ولا بديل عن الحوار

إميل أمين

TT

لم يكن اختيار نهار الأحد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) المنصرم من قبل جماعة سانت ايجيديو الكاثوليكية والتي تجد زخما كبيرا من حاضرة الفاتيكان، لانطلاق أعمال مؤتمرها السنوي في مدينة ميونيخ بألمانيا هذا العام عشوائيا، ذلك أنه التاريخ الذي مرت فيه عشر سنوات على حادث اعتبر كثيرا مفصليا بين الشرق والغرب، كما أن اختيار مدينة ميونيخ كان له دلالاته إذ إنها موضع رمزي وتقاطع طرق التاريخ الأوروبي.

ماذا عن تلك الجماعة الروحية الأصل ذات الفعاليات الاجتماعية والثقافية شديدة الأهمية؟

أبصرت جماعة سانت ايجيديو النور في روما في عام 1968 في ذلك الوقت كان الغرب يتساءل عن مصيره وكان الشباب يبحثون عن أمر ما، وقتئذ بادر مؤسس تلك الجماعة (اندريا ريكاردي) الطالب، إلى دعوة عدد من زملائه إلى محاولة تلمس معنى لحياتهم عبر العيش بوصايا الإنجيل كما يجب، وعبر التأمل في حياة السيد المسيح المملوءة حبا ورحمة وتواضعا وخدمة، وهي ملامح يسوع الناصري الذي قال عنه جبران خليل جبران في كتاباته إنه مخالف ومغاير ليسوع النصارى، وقد كان في خلفية ريكاردي في ذلك الوقت الحربان العالميتان اللتان عاشتهما أوروبا، وأديتا إلى ملايين الضحايا.

في تلك السنوات كان الناس يعتقدون أن الثورة ستغير العالم، لكن اندريا فهم أنه لن يكون من حل إلا بتغيير القلوب بالحب والالتصاق بالفقراء، واليوم لجماعة سانت ايجيديو حضور في 70 دولة وهي تعد بنحو 60 ألف عضو حول العالم.

تستند روحانية جماعة سانت ايجيديو إلى بعض الركائز نشير إلى ثلاث منها وهي:

* الصلاة الحارة من القلب كمصدر قوة إلهية.

* الوصول إلى كل الذين يبحثون عن معنى لحياتهم.

* التضامن مع الفقراء عبر تقديم خدمات مجانية طوعيه دون أجر ولا مقابل.

وتمثل سانت ايجيديو مع جمعية أخرى تخطى برعاية الفاتيكان (الاوبس دي) عند البعض، ذراعي الضغط الفاعلين للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، في الحياة السياسية العالمية عامة، وفي داخل حدود الاتحاد الأوروبي على نحو خاص.

وعودة إلى اللقاء الذي حمل عنوان «من واجبنا أن نعيش سوية.. الأديان وثقافة الحوار»، والذي حظي هذا العام باهتمام فائق من البابا بندكتوس السادس عشر، لا سيما أنه يسبق اللقاء الأوسع المرتقب في شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل في مدينة اسيزي بإيطاليا.

فقد كتب البابا رسالة وجهها إلى رئيس أساقفة ميونيخ الكاردينال راينهارد ماكس أكد فيها على أن عنوان اللقاء يشير إلى أننا نحن البشر مرتبطون بعضنا ببعض، وهذا العيش معا هو استعداد بسيط يأتي من الظرف الإنساني، ولكنه واجب علينا أن نعطيه مضمونا إيجابيا، فالانفتاح على الآخرين والتفاني لأجل الآخرين، قد يكونان عطية وموهبة.

في الجلسة الافتتاحية التي بدت عامرة بأطياف متباينة من رجالات الدين المسيحي والإسلامي واليهودي، أشار البروفسور والمؤرخ اندريا ريكاردي مؤسس الجماعة إلى أن ثقافة الصراع المعممة، وعذابات عالم معلمن ومضطرب ومهدد من كل الجهات، في هذا السياق يبدو الحوار «ساذجا بشكل خطير» والحرب «وسيلة لإثبات الحق والدفاع عن النفس ومكافحة الإرهاب» كما يرى الكثيرون.

ما الذي يملكه المرء من كلمات إزاء الحالة العالمية هذه؟

حكما لا بد من تجديد الإرادة من قبل كافة الديانات، لا بد من «نفحة جديدة» تنعش الرجاء حول كلمة «السلام» وترشد الضمائر نحو مصير مشترك.

في إطار هذه الرؤية كان مؤسس جماعة سانت ايجيديو يقر بأن التحدث اليوم عن السلام في خضم الأزمة الاقتصادية يبدو كماليا، والحالة أن هذا الأمر هو ضرورة ففيما تثير هذه الأزمة الخوف في العالم وتجعلنا معرضين لخطر «التركيز أكثر على أنفسنا ومجتمعاتنا وتعزيز خصوماتنا» تسمح بمضاعفة الجهود على هذا الدرب بالتوق إلى مزيد من الأمان أمام الإرهاب، وإلى «تنمية التعايش في المدن المشحونة بالتوترات».

كانت الأزمة المالية الطاحنة التي يمر بها العالم في أوقاتنا الراهنة حاضرة تطرح نفسها وبقوة في لقاء ميونيخ، مما يستدعي تساؤل: «وما علاقة المال والاقتصاد بالأديان»؟

الصوت الإسلامي في أعمال اللقاء تمثل في مداخلات عدة لعل أهمها مداخلة عضو البرلمان الماليزي سيرى أنور إبراهيم الذي أكد من جهته على أن «الإسلام ليس دين رعب وعنف، وليس متعارضا أبدا مع المساواة والعدالة والكرامة الإنسانية»، وقد فعل حسنا أن أثار قضية الجهاد التي يكثر فيها اللبس لا سيما في مجتمعات العوام الغربية، إذ أشار إلى أن «الجهاد يجب أن يفهم من قبل الممارس المسلم فقط، على أنه (تطهر روحي)، ودعوة إلى نفس المؤمن لكي يمارس عقائد الديانة بصنع الخير وتلافي الشر، بتأسيس العدالة وبتعزيز المحبة، ومساعدة الفقراء والضعفاء».

على هذا المبدأ رأى سيرى إبراهيم أنه يجب أن تتأسس العلاقة بين الإسلام والغرب ومع مجيء الربيع العربي نرجو أن تسقط الأحكام المسبقة القديمة والتأويلات القديمة، فالإسلام والديمقراطية متناغمان تماما على حد تعبيره.

صوت الأزهر بدوره كان حاضرا ممثلا في فضيلة الشيخ حسن الشافعي، والذي كانت تجاذبات ونقاشات ما يدور في مصر بعد ثورة 25 يناير تلقي بظلالها على مداخلته، مشيرا إلى أن بلاده تشهد عهدا جديدا، ومؤكدا على رؤية الأزهر في الوثيقة التي صدرت عنه مؤخرا، وكيف أنها تحمل طابعا إنسانيا، يسعى في طريق سلام البشر، عبر البحث عن دولة قومية، تدعم المبادئ المرتبطة بكرامة الإنسان، دولة دستورية يمتلك كل مواطن فيها الحق بالتصويت، دون الوقوف أمام حاجز الدين أو الجنس أو العرق، دولة حديثة تفصل بشكل واضح بين السلطات.

الجانب اليهودي الذي شارك في لقاء ميونيخ مثله رأس حاخامات إسرائيل يونا ميتزغر، وحاخام روما ريكاردو سيني، وسواهما مثل كبير حاخامات حيفا السابق شيرياشوف كوهين الذي تحدث عن الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة فقال: «نحن الذين نعيش في الأراضي المقدسة نعلم جيدا أن السبيل الأوحد للصمود في بلادنا الحبيبة، يكمن في مكافحة البغض وتعزيز السلام والآمان والتفاهم»، وإضافة إلى ذلك شدد قائلا «الأراضي المقدسة بالنسبة إلى أتباع اليهودية والإسلام والمسيحية يجب أن تكون حافزا لاتحاد الناس مع بعضهم البعض، لمنع تفشي الدماء والبغض والتنافر»، واختتم بالقول «أيها الأحباء زعماء الإيمان، فلنعلم مؤمنينا أن يضعوا حدا لهذه الجريمة الفظيعة، فلنتعلم العيش معا واحترام بعضنا البعض».

ماذا عن حساب الحصاد في هذا اللقاء التاريخي حيث يمثل اليوبيل الفضي (25 سنة) على بدء مؤتمرات سانت ايجيديو حول العالم؟

في النداء الرسمي الذي تلي في ختام أعمال اللقاء أعرب الزعماء الدينيون عن أن «الحوار سلاح متاح للجميع ومن خلاله سوف نبني عقدا مقبلا جديدا وقرنا من السلام لنصبح جميعا صانعي سلام».

هل من طريق للمستقبل عوضا عن الكراهية والحروب الرابضة خلف الباب، متشوقة لأن تتسيد على إنسان القرن الحادي والعشرين، بدلا عن مشاعر الود والتعاطف الإنساني لا سيما مع فقرائه وبؤسائه ومضطهديه؟

الطريق بحسب بيان لقاء سانت ايجيديو هو «النظر نحو الأعلى والانفتاح على المستقبل لنصبح قادرين على عولمة العدالة»، «إننا نحتاج بشدة إلى إعادة طرح مشكلة السلام بكل أبعادها في الواقع»، لقد قدر لنا أن نعيش معا وكلنا مسؤولون عن فن العيش معا، «وقد تبين اليوم أن الحوار أكثر الأسلحة ذكاء وسلمية»، وهو «الرد على دعاة الإرهاب الذين يستخدمون كلمات الدين لنشر الكراهية والانقسام في العالم فلا شيء يضيع مع الحوار».

هل حان فعلا وقولا وقت التغيير خاصة أن العالم يحتاج إلى مزيد من الأمل والسلام؟

أغلب الظن أن ذلك كذلك، وأنه يمكننا أن نتعلم من جديد العيش لا ضد بعضنا البعض، بل سوية، وبحسب رؤية الزعماء الدينيين نحن «لا ندرك مسؤولية الأديان في تهديد السلام عندما تكف عن النظر إلى السماء، كما أن من يستخدم اسم الله لكره وقتل الآخر، يسيء إلى اسم الله عز وجل».

ولعل علامة الاستفهام الأخيرة في الحديث عن جماعة سانت ايجيديو هي ما هي الأهمية الحقيقية لمثل هذه الجماعة الروحية ذات البعد النافذ في مختلف مناحي الحياة المعاصرة؟

هذه الأدوار هي التي جعلت الدبلوماسية الأميركية تقيم وزنا خاصا لقنوات الاتصال الفاتيكانية الرسمية الممثلة في بعثاته الدبلوماسية حول العالم، ولقنواته غير الرسمية وفي مقدمتها جماعة سانت ايجيديو، ما ظهر جليا مؤخرا في وثائق «ويكيليكس»، فبحسب البرقيات الأميركية المتسربة، فإن الدبلوماسيين الأميركيين رحبوا بالعمل الذي تقوم به جماعة سانت ايجيديو المتخصصة في حل النزاعات والحوار بين الأديان، وفي 2001 أكد الدبلوماسيون الأميركيون أن السفارة الأميركية في روما، طلبت من سانت ايجيديو انخراطا أكبر في المفاوضات حول إقليم كيفو في جمهورية الكونغو الديمقراطية حيث كانت تدور حرب أهلية.

ويعني ما تقدم أنها جماعة نافذة وقادرة عبر مبادئها الإنسانية في تصويب أخطاء السياسة العمياء، وهذا ما تبدى بوضوح في اللقاء الذي جمعها بالرئيس الأميركي السابق بوش في 10 يونيو (حزيران) 2007 عندما زار مقرها في روما ووجه له ماركو امبالياتزو رئيس جماعة سانت ايجيديو كلمة بها كثير من الإسقاطات التي تلفت إلى سياساته المرتكزة إلى القوة، والمنطلقة من قلب «الحروب الاستباقية»، وهو ما رفضته الجماعة وقتها وما ثبت فشله لاحقا.

لقد أصبح التعايش مشكلا مفتوحا شرقا وغربا، فهل سيجد نداء ميونيخ للعيش الواحد آذانا مصغية كقدر محتوم ما من طريق آخر بديل له أمام الإنسانية؟

* كاتب مصري