الشيخ أمين الخولي وضرورة التجديد

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

«لا يليق بنا اليوم أن نقبل في فهم الإسلام ومقرراته ذلك الأسلوب اليائس المتداعي، الذي يقوم على أنْ ليس في الإمكان أبدع مما كان من تقرير الفقهاء والمفسرين القدامى، وواقع حياة المجتمع الإسلامي، على عيوبه، في عصبية الجنسية العنصرية، وطبقيته المسترقة، التي تبيع الإنسان وتمتهنه بالرق»! لعل هذه الكلمات تعبر أفضل تعبير عن «التجديد» كمدخل عالج من خلاله الشيخ أمين الخولي (1895 - 1966م) القضايا كافة، التي انشغل بها في عصره وحياته.

ويكفي أن يتذكر المرء أن اهتمامه بقضايا التجديد يعود بجذوره لمرحلة تاريخية مبكرة من حياته، وأبلغ مثال على ذلك أنه كتب مقالا بمجلة الرسالة في أول فبراير (شباط) سنة 1933 أكد فيه أن التجديد في الدين حقيقة صحيحة صريحة، لا فكاهة فيها.

ففي الإسلام فكرة واضحة عن التجديد، تبين ناموسا كونيا، وتنبه إلى سنة اجتماعية مطردة، لا تتبدل، إذ ورد في الحديث الشريف: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». ولكن الخوض في هذا الميدان أصبح (للأسف الشديد) مظنة اتهام المحافظين، على ما يقول الشيخ، خاصة أن تجربة الدكتور طه حسين «في الشعر الجاهلي» كانت لا تزال عالقة بالأذهان.

وخروجا من هذا المأزق الإشكالي، لم يجد الشيخ أمامه بدا من أن يرجع إلى فهم القدماء لمفهوم التجديد الذي هو عبارة عن «نفع الأمة، ودفع المكاره عن الناس، ونصرة الحق وأهله، وإحياء ما اندرس من أحكام الشريعة، وما وَهى من معالم السنة، وما خفي من العلوم الدينية».

وقد دفعه ذلك إلى اتهام أولئك الذين يقاتلون المبعوثين لهذا التجديد، بأنهم لا يأثمون بجمودهم هذا إثما واحدا فحسب؛ بل آثاما كثيرة: إثما لأنهم لا يتجددون، وإثما لأنهم لا يجددون، وإثما لأنهم يعوقون المتجددين المجددين، في تعنت أصم، لا يميز الخبيث من الطيب مهما تبينا، ولا يعرف داعي الله من داعي الشيطان! ولد الشيخ، رحمه الله، بُعيد الانتكاسة التي لحقت بثورة عرابي في مصر، وما تبعها من تأزم في الحياة السياسية واتساع وتيرة عوامل التمزق الداخلي والخارجي. وكعادة أقرانه المشتغلين بالعلم في هذا العصر، نشأ الشيخ في بيئة ريفية متدينة كان لها أكبر الأثر في تشكيل وجدانه الديني والعلمي، على الرغم من أنه انتقل للعيش بالقاهرة وهو في سن السابعة! وإلى جانب حفظه القرآن الكريم وإتقان قواعد تجويده، أخذ الشيخ في حفظ متون التوحيد والفقه وعلوم اللغة. ثم ألحقه خاله، الذي تربى في كنفه، سنة 1907 بمدرسة «القسيوني» المشتركة، التي كان يتعلم بها بنات الأسر العثمانية من الطبقة الأرستقراطية الراقية.

في تلك الأثناء، لم يكن لدى الشيخ رغبة في التعليم الأزهري، فلجأ إلى الشيخ محمد السكري يستعين به ليلتحق بمدرسة الحسينية. غير أن الجد أسخطه ذلك، وهدده بالطرد فالتحق بمدرسة عثمان باشا ماهر ليجمع فيها ما بين العمامة والدراسة المدنية، ويستعيد بذلك رضا الجد والوالد معا! وبعد تخرجه كان أمامه اختياران: إما الالتحاق بمدرسة القضاء الشرعي، أو الالتحاق بكلية دار العلوم، وقد انتهى أمره بالانتظام بمدرسة القضاء بتأثير من شيخه عبد الرحمن خليفة.

اشتغل الشيخ مطلع حياته بالمسرح، كما انخرط في العمل السياسي وصولا لثورة 1919، فتحولت جمعية إخوان الصفا إلى نواة للتفاهم السياسي، واتسع أمامها مجال العمل، حتى إنّ الشيخ وضع بنفسه نشيد الثورة! كما امتد نشاطه أيضا إلى الصحافة، فأعاد اتصاله بجريدة «السفور»، وقد طبعت مقالاته قبل اندلاع الثورة في الفترة ما بين 9 يناير (كانون الثاني) 1919 و6 مارس (آذار) من العام ذاته، بطابع الإصلاح الثوري.

وفي الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1928 عين الشيخ مدرسا بالجامعة المصرية، وكانت هذه المحطة فارقة في حياته العلمية، حيث انصرف للعناية بتربية الأجيال، جيلا بعد جيل، في خدمة المبدأ الذي كرس حياته من أجله، ألا وهو ميدان العروبة والإسلام، فللعروبة تاريخ وتراث، كما أن الإسلام أيضا هو كتاب العروبة والإنسانية الأكبر. وينطلق الشيخ في مشروعه التجديدي الإصلاحي من النظر إلى التراث العربي الإسلامي؛ فإذا كان الماضي هو ركيزة الحاضر، ففي وسع الحاضر أن يكون ركيزة للمستقبل من جهة، وأن يعمل في الماضي ويتفاعل معه من جهة أخرى. ومن ثم، كان لا بد من قتل القديم بحثا وفهما وتهذيبا، حتى لا يكون التجديد (بنظر الشيخ) تبديدا! وبحسب العلماء القدامى؛ فإن العلوم الإسلامية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أولها، علم نضج واحترق (وهو النحو والأصول)، وثانيها علم نضج وما احترق (والمقصود به علم الفقه والحديث)، وآخرها علم لا نضج ولا احترق، (وهو علم البيان والتفسير).

كان طبيعيا إذن، والحال هذه، أن يصرف الشيخ معظم جهوده نحو الصنف الأخير، متخذا شعارا لمحاولته التجديدية هذه، ألا وهو: «أول التجديد.. قتل القديم»، ليبدأ رحلة تكوين مدرسة كاملة، لها تقاليدها الفكرية وأسسها المرسومة، وأعلامها الثائرة، ولها القدرة أيضا على أن تقلب التربة، وتبذر البذور، وتسقي الزرع، وتفيض بالثمار! نظر الشيخ من حوله فلم يجد في الجامعتين العريقتين (الأزهرية والمصرية) إلا: محافظين مسرفين، ومجددين مسرفين! كما يرى في الناحيتين مَن لم يتجددوا ولم يحافظوا، فلم يطمئن لا إلى أسلوب هؤلاء، ولا إلى أسلوب أولئك «ولكل أسلوب فكري مضطرب فاسد، ينتهي به إلى نتائج تزيد مسافة الخلف بينه وبين الآخرين».

ومن هنا، كان لزاما على الشيخ الذي آلمه تمزيق وحدة الشباب، وإفساد الجيل، وقطع أواصر التآلف النفسي والتمازج الروحي قطعا يعوق التعاون الاجتماعي الذي يتطلبه الوطن آنذاك، كان لزاما عليه أن يؤكد أولا أن ما لا يُعقل قد يُعتقد، وأن العقل ومنطقه شيء، والاعتقاد وسلطانه شيء آخر.

والواقع الذي لا شك فيه، أن الشيخ كان مهموما بالمسألة المصرية اهتماما ملحوظا، مما دفعه لأن يشترك مع نخبة من العلماء في تأليف كتاب: «تاريخ الحضارة المصرية»، الذي تناول فيه «الحياة الدينية في مصر الإسلامية من ظهور الإسلام إلى مطلع العصر الحديث». وقد أكد في بحثه هذا على عمق الروح الديني، وقوة الإيمان بالآخرة، وسعة الأفق الديني لدى الشخصية المصرية، أو ما سماه «حيوية مصر الإسلامية».

ولما قضى الشيخ أكثر النصف الأخير من سنة 1956 في أقطار إسلامية متعددة، كإندونيسيا والملايو والصين والهند، فقد انتهى إلى أن ثمة من الأساليب الاجتماعية العامة، ومن الأسباب الدينية الخاصة، ما يوجب العناية الجادة بالحياة الدينية، عناية تتعاون فيها الأقطار الإسلامية المختلفة. ومن هنا كانت دعوته إلى «إسلام ديني يحتاج إليه الدين والحياة».

وفي الأحوال كلها، يخلص الشيخ في نهاية كل بحث أو دراسة إلى التأكيد على أن الدين في هذه الحياة لا مفر له من التفاعل والتبادل مع ما سواه من فهم وتنظيم لتلك الحياة، وأنه لن يكتب لهذا الدين البقاء إلا على قدر ما فيه من قدرة على هذه المسايرة والمفاعلة، والاستفادة والانتفاع بما سواه من التفسيرات والتدبيرات الأخرى.

وهكذا يتبين لنا في وضوح تام أن الدين (في أي حال من الأحوال) قد احتاج، ويحتاج، إلى التطور والتجديد على مدى الأدهار، وبفعل العوامل القوية (بل والعنيفة) التي تصطخب حوله، وتتدافع أمواجها الجارفة في قوة وجبروت. وبناء على الخصائص العامة التي تحكم التجربة الدينية في منحنى صعودها وهبوطها، وبسبيل تطوير الفهم الديني المعاصر، يؤكد الشيخ أن لا مناص من إعادة فهم القرآن الكريم مجددا، فهما لغويا أدبيا، في جو فني من المستوى البلاغي الذي عُرف للقرآن منذ أول العهد به.

إن الإسلام، برأي الشيخ، إذا صح أنه يتميز بشيء يمتاز به امتيازا واضحا عن غيره، فإنما يتميز بأنه «رسالة المعرفة». ومن هنا، يبدو مستقبل الإسلام قويا أو ضعيفا بحسب ارتباطه وصلته بالعلم، على شريطة أن يدرك المسلمون أن ما كان من أخطاء بعض أسلافهم في هذا السبيل، إذ حرموا علما، أو اضطهدوا معرفة، أو حددوا منطقة جولان العقل...إلخ، إن ساغ أن يقع والإنسانية في مرحلة دون ما هي فيه اليوم، فلن يسوغ في الحاضر وقوعه مطلقا، ولا يؤمن الإسلام في هذا المستقبل إلا أن يحرر العقل والعلم أكمل حرية يمكن أن تتحقق لهما. فالعقيدة الإسلامية الجامعة، كما حملتها أصولها الأساسية وكما تلقاها المسلمون الأوائل، قد نجت تماما من كل أسباب التعقيد والغموض، وظفرت بأكثر ما يمكن الظفر به من اليسر، والوضوح، فلم تُدخل شيئا من مأزق صلة اللاهوت بالناسوت. ولذلك؛ فإن الفهم العصري الصحيح للأصول النفسية للاعتقاد، وتكوينه، وتدعيمه، مع الفهم العصري الصحيح للحاجة النفسية عند أهل العصر والإيمان والتدين، وما يمكن للدين أن يؤديه لحياتهم، يمكنه (الفهم) أن يقدم للبشر ما يشد تلك الحاجة النفسية إلى التدين والإيمان. ومع أن الإسلام يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فإن الذين فهموه من مفسري نصوصه، ومن مستخرجي النظم فيه، قد فهموه من أفق حياتهم، وفي حدود المستوى الاجتماعي والثقافي الذي عاشوا فيه، وعند الدرجة الحضارية التي كانت قد وصلت إليها البشرية في عهود حياتهم.

فالإسلام دين عام للبشرية كلها في صريح دعوته، ودين خالد ما بقيت البشرية على الأرض، ومثل هذا العموم الشامل لا يمكن أن يتحقق إلا بوعي يقظ لما تحتاجه البيئات الإنسانية المختلفة، باختلاف الأنحاء والأهواء، مما يجعل التعاقد والأعمال والأسس الدينية كافة مرنة مرونة تتسع للألوان المختلفة، والأجواء المختلفة، والطبائع المختلفة.

*كاتب مصري