قراءة في «حجاج الحقيقة.. حجاج السلام»

إميل أمين

TT

لم يكن نهار السابع والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم نهارا عاديا في تاريخ الحوار بين أتباع الأديان حول العالم، بل يجب اعتباره في الحقيقة علامة في هذا المسعى الإنساني النبيل.. علامة لصداقة وأخوة بين البشر ازدهرتا نتيجة الجهود التي بذلها العديد من الرواد في مجال الحوار.

كانت بلدة أسيزي الإيطالية، ضمن مقاطعة بيروجيا بإقليم أومبريا في وسط إيطاليا، الموقع والموضع للقاء الذي دعت إليه حاضرة الفاتيكان كل الزعماء الدينيين حول العالم، وقد استجاب نحو ثلاثمائة منهم، في ضيافة البابا بنديكتوس السادس عشر.

أما الهدف الأسمى من ذلك التجمع فهو الحوار والتأمل والصلاة من أجل السلام والعدالة في العالم، وهو ما أشار إليه البابا بقوله «إن هذا اللقاء مهم بالنسبة لمليارات الرجال والنساء في جميع أنحاء العالم، والذين يسعون حثيثا لتعزيز العدالة والسلام». والهدف لا يتوقف عند الحاضر لكنه يمتد ولا شك إلى المستقبل «فلتستمر هذه الصداقة في النمو بين أتباع كل الديانات في العالم، وبين جميع الرجال والنساء ذوي الإرادة الطيبة».

لماذا أسيزي.. ولماذا هذا التوقيت على نحو خاص؟

في مقال سابق أشرنا إلى أن هذه المدينة هي موطن ومولد فرانسيس الأسيزي، الأب الروحي، والمؤسس للرهبنة الفرنسيسكانية حول العالم، وتحدثنا عن دوره في صناعة السلم العالمي في أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادي، والدور الذي عرف به في رفضه للحروب الصليبية، غير أن هناك بعدا جديدا تمر عليه اليوم خمس وعشرون سنة، جرى في أسيزي في السابع والعشرين من أكتوبر عام 1986 في زمن البابا الراحل يوحنا بولس الثاني.. ماذا عن ذلك؟

الشاهد أنه في ذلك التوقيت، كان العالم يخوض غمار «الحرب الباردة»، وتحت خط الصراع النووي الذي كان حدوثه وشيكا وأكثر من مجرد اعتقاد، وقد كان العالم برمته وقتها واقعا بين حصارين، الشيوعي في بلدان أوروبا من جهة، وذلك الذي أسسته بلدان الغرب من ناحية ثانية.

أراد البابا الراحل في ذلك اليوم دعوة ممثلي جميع الأديان لطلب نعمة السلام من الله. كان هذا محور ذلك اليوم التاريخي، ففكر الجميع كان متوجها نحو الانقسام بين الشرق والغرب، وبين شمال كوكب الأرض الغني والجنوب الذي يتكبد منذ أجيال معاناة الفقر، وسوء التغذية، وقلة التنمية، وتراكم الديون.

منذ تلك اللحظة، كانت أسيزي المدينة الإيطالية الصغيرة التي لا يتجاوز عدد قاطنيها 25 ألف نسمة يسكنون 186 كيلومترا مربعا، ملجأ للبحث عن الحب والسلام في زمن الكراهية والخصام، فقد لجأ إليها البابا الراحل مرة أخرى في يناير (كانون الثاني) من عام 1993، في وقت حرب البلقان التي شهدت صراع النزعات القومية المدفوعة أيضا بأسباب دينية.

كذلك شهدت المدينة، بعد انفجار جراحات الهويات المتقاتلة في أعقاب اعتداءات نيويورك وواشنطن، أكثر من لقاء لمواجهة حالة الاصطفاف الآيديولوجي غير الخلاق التي استحكمت في البشرية، ولدرء أخطار ظاهرة «التعصب الطوباوي» التي امتلكت ناصية عقول كثيرين شرقا وغربا.

في صبيحة الاثنين 27 أكتوبر 1986، كان يوحنا بولس الثاني يطالب العالم بالالتزام ببناء جسور التعاون والاحترام المتبادل، وأن يضحى قادرا على تأسيس حوار ناضج وبناء ومنفتح على الرجاء والسلام والمصالحة، تلك المفاهيم التي تذكرها العالم برمته ولا يزال بـ«روح أسيزي». هذه الذكرى تجدد القراءة في علاقة واهتمامات البابا الراحل بالعالم الإسلامي على نحو خاص، والتي تجلت واضحة في خطاباته المتعددة عبر خبراته الطويلة.

ففي الدار البيضاء بالمغرب عام 1985 قال البابا الراحل «إن الحوار بين المسيحيين والمسلمين ضروري اليوم أكثر منه في أي وقت مضى، وإن الكنيسة الكاثوليكية لتنظر إلى سعيكم الديني وغنى تراثكم الروحي بعين الاحترام والتقدير، وأعتقد أنه علينا مسيحيين ومسلمين على السواء أن نقر بفرح جم بما لدينا من القيم الدينية المشتركة، وأن نشكر الله عليها.. فإننا نؤمن بالله الأحد الكلي، والعدالة والتوبة والغفران.. ونؤمن بأن الله سيكون دياننا الرحيم في آخر الأزمنة، أما رجاؤنا فأن تكون كل نفس بشرية عند القيامة مرضية لدى الله».

من هذا المنطلق كانت رؤية بابا الفاتيكان الراحل تتأصل لجهة استنتاج مهم للغاية وهو أن المسيحيين والمسلمين غالبا ما أساءوا إلى الفهم المتبادل، وأحيانا في الماضي تعارضوا مع بعضهم بعضا، حتى في العديد من المجادلات والحروب، لكن اليوم هناك قناعة وافرة بأن الله تعالى يدعونا إلى تغيير عاداتنا القديمة. فعلينا أن يحترم بعضنا بعضا، وأن يحث بعضنا بعضا على أعمال الخير في سبيل الله.

بعد ربع قرن من دعوة البابا يوحنا بولس الثاني، والاستجابات العديدة وغير المنتظرة لدعوته وقتها، والتي لم يكن لأحد حينها تخيل أن يوجه بابا ما مثل هذا النداء، بحسب الكاردينال روجيه اتشيجاري الرئيس الفخري للمجلس البابوي للعدالة والسلام والذي نظم اللقاء وقتها تحت إشرافه، جاء خليفته البابا بنديكتوس السادس عشر داعيا لإحياء الذكرى وعلامة الاستفهام في هذا المقام.. لماذا؟

الجواب عند الكاردينال بيتر تروكسون، الرئيس الحالي للمجلس البابوي للعدالة والسلام، هو «التعبير ببساطة عن رغبة رجال الدين وأصحاب النوايا الحسنة في تقديم مساهماتهم الخاصة من أجل بناء عالم أفضل، مع الاعتراف في الوقت نفسه بضرورة تعزيز الحوار والاحترام المتبادل لمنح هذه المبادرة كفاءة أكبر».

إلى جانب رؤية الكاردينال تروكسون، يستطيع الملاحظ المحقق والمدقق أن يرى حال العالم الآني وحاجته إلى السلام الشامل الذي ينضوي على العدالة الاجتماعية، وصون الحقوق والحريات، وكفالة سير شعوب العالم في مسيرة العائلة الواحدة، تلك التي باتت تعترضها اليوم الأزمات الاقتصادية، والأزمات المؤسساتية، والاجتماعية والديمقراطية، وتشكل أحجار عثرة في طريقها أزمة الغذاء، والهجرات المتزايدة، والاستعمار الرأسمالي الجديد، ومآسي الفقر والجوع، والإرهاب العالمي، والتفرقة بن أتباع الأديان من قبل التعصب الديني المتنامي.

في هذا السياق جاء لقاء أسيزي الاحتفالي، وقد لفت الأنظار أن الدعوة لم تكن فقط تحت راية الصوم والصلاة، بل والحج أيضا باعتباره مسيرة سمو ونقاء وتوجه إلى نقطة أعلى والالتزام بواجب مشترك وفي إطار أنفع وأرفع من البحث عن الحقيقة، والذي لا يعني النظر إلى الآخرين بشكل أكثر تفهما وتفتحا فقط، لكن كذلك العمل معا لما فيه المصلحة المشتركة الواحدة.

ولأن السلام هو الجناح الموازن للحقيقة، فإن المعرفة النظرية لا تكفي لبلوغ السلام الكامل، بل هناك حاجة للتعبئة الروحية، ولا يمكن تفعيل الطرق الجديدة والنشاط الحميد إلا بإقامة علاقات إيجابية وفتح الضمائر أمام الحقيقة العظمى والخير الأكبر، الله تعالى.. «انفتاح هو مكتوب أيضا في نفوس غير المؤمنين». وتستمر «روح أسيزي» في الكنيسة الكاثوليكية مدفوعة بإرادة المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الذي كان ولا يزال نقطة انطلاق وتلاق للكنسية منذ ستينات القرن المنصرم، مع الأديان التوحيدية والمذاهب والعقائد الوضعية حول الأرض قاطبة، وبالرغبة في تعزيز مفهوم ينحو للتأكيد على أن الحوار بين أتباع الأديان ليس مفاوضات دبلوماسية، بل فسحة للشهادة المشتركة للمؤمنين المنتمين إلى مختلف الديانات، كي يعرف الواحد الآخر، أفضل معرفة وعلى ما يؤمن، والتماس الإيجابيات الروحية فيها، ولهذا كان اللقاء مرفقا بالتأمل والصمت والصلاة، حتى لا يضحى مفتقرا إلى البعد الروحي والفكري، ويمسي مناظرات آيديولوجية جدباء.

ومن خلال متابعة قريبة لأحداث اللقاء بدا واضحا أن الخط الذي تنتهجه الكنيسة الكاثوليكية يعبر عن رغبة صادقة في فتح العقول والصدور للجميع، حتى من غير المؤمنين، إذ وجهت الدعوة إلى خمسة من هؤلاء: الفيلسوفة الفرنسية البلغارية الأصل «جوليا كريستين»، والفيلسوف البريطاني «أنتوني كليفورد»، والفيلسوف المكسيكي «غيير موهورتادو»، والمفكر النمساوي «فالتر باير»، والفيلسوف الإيطالي «ريمو بودي». وقد شدد البابا شخصيا على أن يضم هذا اللقاء شخصيات غير مؤمنة، معتبرا أن الحوار معها مفيد سواء للكنيسة أو للملحدين.

وتلفت النظر في لقاء أسيزي هذه المرة الهجومات التي شنها بعض غلاة الكاثوليكية في أوروبا، الذين انتقدوا مثل هذه اللقاءات الحوارية، وفي يقينهم أنه لا يمكن تصور أن تقيم الكنيسة حوارا مع أديان أخرى، ومن بين هؤلاء يأتي الفرنسي «ريجيس دي كاكوراي» الذي قال «إنه ينبغي إحياء ألف قداس لتعويض الضرر الذي جرى في أسيزي».

غير أن الكاردينال اتشيجاري يرد على هذه الأصوات المغالية في التمذهب الديني بالإشارة إلى أن الهدف لم يكن يوما «المزج بين الأديان أو المذاهب»، ولكن تعميق حالة الحوار، الأمر الذي بات إرثا مشتركا لا رجوع عنه في الوعي المسيحي الكاثوليكي، مع احتفاظ أتباع كل دين بتميزهم، وخصوصياتهم اللاهوتية والفقهية.

في كلمته عاد البابا بنديكتوس إلى تاريخ الهجوم على الدين بدءا من عصر التنوير، والذي انطلق من اتهام الدين بالتسبب في العنف، فقال «ولهذا يثير مخاوفنا كرجال دين بشكل كبير اعتبار الدين دافعا لارتكاب العنف»، وأضاف «علينا بقوة وحزم أن نكرر هنا شأن أسيزي عام 1986.. ليست هذه حقيقة الأديان». وفي وسط بحر العلمانية وموجات الإلحاد المعاصر التي تغشى أوروبا تحدث بنديكتوس السادس عشر بقوة عن الشكل الآخر للعنف، والمتفجر في إنكار الإنسان للعزة الإلهية، وفقدان الإنسانية الذي رافق عادة هذا الإنكار.

هنا كان بابا الكاثوليك أن يؤكد على أن رفض الله أسفر عن قسوة وعنف لا سابق لهما، بعد أن رفض الإنسان الاعتراف بأي قواعد وبأي حكم يفوق ما رتبه، واعتبر نفسه العقيدة الوحيدة.

وخلص البابا إلى القول «الآن نحن نذهب كل في طريقه، فلنستمد القوة من هذه الخبرة أينما كنا، فنواصل مسيرتنا نحو الحقيقة في حج نحو السلام».

* كاتب مصري