مسألة الدين في زمن الثورات

رضوان السيد

TT

كنت في مصر أخيرا والحالة فيها شديدة الالتهاب والسيولة، كما يحب المصريون أن يقولوا عندما تكون الأمور شديدة الارتباك، وتتوالى عليها الانقلابات في المزاج والحركة. وعلى مشارف الانتخابات التي من المفروض أن تجري بعد أسبوع هناك ملفان شديدا السخونة: الاختلاف على وثيقة المبادئ الأساسية أو فوق الدستورية، والتخوف من سطوة الإسلام السياسي المتمثل بالإخوان والسلفيين. والمعروف أن مشيخة الأزهر دخلت على المشهد قبل بضعة أشهر وحركت مبادرات في عدة اتجاهات: فقد أنشأت من جهة «بيت العائلة المصرية» لاستئلاف الأقباط وطمأنتهم، وجمعت علماء الأزهر مع مثقفين مصريين مسلمين ومسيحيين وعلمانيين، حيث أصدروا وثيقة تقول بالدولة الوطنية التي يكون عمادها النظام السياسي التعددي والديمقراطي في ظل مبادئ الشريعة، كما جمعت مثقفين آخرين مع علماء الأزهر أصدروا أخيرا وثيقة عن حركات التغيير العربية ومشروعيتها وحق الثائرين الشبان في تغيير الأنظمة سلميا بهدف إقامة الدولة التي يكون الشعب فيها مصدر السلطات، وتتشكل منظومة القيم الأساسية فيها على أساس مقاصد الشريعة في حفظ النفس والدين والعقل والنسل والمِلْك. وقد وجدت ترحيبا بين شباب الأقباط بمبادرات مشيخة الأزهر، بيد أن الإسلاميين يتراوحون بين التوجس والتحفظ، وكذلك المدنيون والعلمانيون وإن لأسباب مختلفة.

إن الواضح أن المشيخة داخلها القلق الشديد من الانقسامات التي ظهرت في صفوف الحركيين الثوريين، كما حركها التوجس الذي انتشر بين المواطنين على أمنهم واستقرارهم. ولذلك فإنها ما اعتبرت تحركها عملا في الشأن السياسي، بل محاولة لجمع الكلمة حول ثوابت قيمية وأخلاقية، تسدد الخطوات، وتهدئ الثوران، وتتجاوز الانقسامات، باتجاه استعادة الاستقرار بعد التغيير الكبير الحاصل وخلاله. لكنها وهي تحاول القيام بهذا الدور الوطني الكبير لملء الفراغ، شعرت أنها تحتاج هي أيضا إلى تغييرات في البنى، ومراجعة نقدية للمرحلة الماضية وتأثيراتها السلبية على حياة المؤسسة في التعليم والفتوى والنهوض العلمي والإصلاح الإداري.

لقد أظهرت الثورات أن المؤسسات الدينية السنية كانت في الجمهوريات الوراثية الخالدة مستتبعة للأنظمة، بحيث فقدت الكثير من جديتها وحجيتها، ونهضت حركات الإسلام السياسي لتملأ الفراغ الذي خلفه غيابها أو ضعفها. فكانت نتيجة الظاهرتين: الغياب والتعويض، ظهور نظرية الحاكمية أو هدف إدخال الدين في عمليات الصراع على السلطة، بمعنى أن الإسلاميين اعتبروا أن الإسلام يملك نظرية سياسية متكاملة، يستطيعون من خلالها أو من خلال الاستنصار بها تحت شعار تطبيق الشريعة، الوصول إلى السلطة بالقوة أو بالانتخابات. وفي الوقت الذي اشتبكوا فيه مع الأنظمة وصاروا فريق المعارضة الرئيسي لها، أنشأوا معاهدهم التعليمية ومؤسساتهم للفتوى، لتحل محل المؤسسات الدينية التقليدية التي اعتبروها انتهت أو كادت بسبب استتباع الأنظمة لها. وبالفعل؛ فإنه عندما جاءت الثورات، ظهرت المؤسسات الدينية في سائر أنحاء العالم العربي في حاشية السلطات وفي طليعة المدافعين عنها وما تزال، غير آبهةٍ بالدماء المسفوكة، ولا بالكرامات المنتهكة. ولذلك فقد اعتبرت أن الأزهر بمبادراته إنما يستنقذ الدين، ويستنقذ المؤسسة التي ما ظهر بديل ملائم عنها. فليس من مصلحة الدين والمجتمعات في شيء أن يصبح الدين متنازعا بين الأحزاب السياسية يستخدمه كل فريق بالطريقة التي تمكنه من الوصول إلى السلطة أو لعب دور في البرلمانات والوزارات الحالية والمقبلة. وإذا كان الإسلام السياسي قبل عدة عقود قد أيقظت فيه الثورة الإسلامية في إيران آمال الاستيلاء على السلطة؛ فإن حصول حزب النهضة الإسلامي التونسي على الأكثرية وقبله حزب العدالة والتنمية بتركيا، جدد الأمل لدى قيادات في الإسلام السياسي أنه بالإمكان في زمن الثورات الوصول إلى السلطة من طريق الانتخابات! وهذا كله يضع على عاتق الأزهر والمؤسسات المشابهة عدة مهام وأعباء: مراجعة أوضاع التعليم والفتوى لاستعادة التقدم والصدقية، والتفكير في كيفية الخروج من الاستتباع إلى رحابة مجتمعاتنا وليس إلى أحضان الدول من جديد، والانطلاق من المأْزق الضيق إلى الانفتاح على العالم، والمشاركة والتأثير في الحوار بين الأديان والثقافات. ولا شك أن الشرط الضروري للقيام بتلك المهام يبقى: إخراج الدين من الصراع السياسي، وإخراج المؤسسة من الاستتباع أو الانتصار لفريق على فريق. ومن الطبيعي أن تسيء أحزاب الإسلام السياسي فهم هذا الدور الجديد للأزهر. وذلك لأنها دأبت على استخدام الدين في صراعها مع السلطات، والآن تريد استخدامه للوصول إلى السلطة.

أين تكمن قوة الإسلام؟ تكمن قوة الإسلام في اعتناق مجتمعاتنا له، واتخاذه نهج حياة. وقد كان وما يزال هو أساس المشروعية فيها باعتباره نهج حياة بالذات، لكن، كما سبق القول؛ فإن الإسلام السياسي وعبر شعار تطبيق الشريعة، يريد فرض نفسه على الدولة والمجتمع على حد سواء. إذ إنه يفترض ضرورة تجديد الشرعية والمشروعية باسم الإسلام، وليس في الدولة فقط؛ بل وفي المجتمعات أيضا. وهذا فهم جديد للإسلام ودوره ما عرفته مجتمعاتنا ودولنا قبل نصف القرن الأخير. فقد قال الرئيس الخالد إنه كل شيء في بلادنا وديننا وثقافتنا، فأجابه الإسلاميون: بل المولى عز وجل هو الحاكم عبر شريعته، التي يريدون الاستيلاء على السلطة لتطبيقها! وهكذا فإن المطلوب اليوم حماية الدين من الصراعات على السلطة، وحماية السلطات العامة من تغول دعاة الإسلام الجديد. والواقع أنه لا خوف على الدولة من الإسلاميين أو غيرهم، فقد نزل الناس إلى الشارع لاستعادة إدارة شؤونهم العامة، وسيحققون ذلك اليوم أو غدا. بيد أن الأمر سيكون عسيرا على الإسلام إن أدخله الإسلاميون الحزبيون في بطن الدولة، بعد أن نجحوا في إدخال إغراءات السلطة في عقل الدين! والدليل الأوقع على إدخال السلطة في عقل الدين، استيلاء الفقهاء في إيران على الحكم عام 1979 وما يزالون. وبتلك الإغراءات أدخلوا الدين إلى بطن الدولة، وها هم قد انقسموا على ذلك، وعادوا للحديث عن مدنية الشأن العام. ويزعم أهل الإسلام السياسي أن الدولة الإسلامية الموعودة ليست دولة دينية لأن الحاكم فيها ليس كاهنا، كما أنه ليس معصوما. وقد يكون ذلك صحيحا، لكن الإسلامي يريد تطبيق الشريعة المعصومة، فتسري عصمتها على شخصه، كما هو الشأن في ولاية الفقيه بإيران! على أن الإسلامي الطامح إلى الاستنصار بالدين في الفوز بالولاية على الشأن العام، مشكلته مختلفة عن المدني العلماني الذي يريد فصل الدين عن الدولة والمجتمع معا. وهو يطمح تارة إلى إقصاء الدين ومنظومته القيمية عن الدولة، ويطمح حينا آخر إلى إقصاء الدين عن التأثير في المجتمع أيضا. ولا أقصد إلى الاتهام، لكنه كان مرتاحا في ظل الجمهوريات الخالدة، لأنه كان يمارس دور الخبير والمؤثر، وهو يخشى الآن أن لا يكون له تأثير لأن العامة هي التي تقرر في السلطة والسلطان، ولا تحب خبرته ولا عمله مع الأنظمة من قبل. وهو عندما يسمع عن دور الأزهر الوطني، يتذكر النموذج الفرنسي المثالي لديه، فيحمل على الأزهر كما حمل أولئك على الكنيسة. وإنما يريد الأزهر أن يحمي الدين من الدخول في إغراءات السلطة والسلطان من جانب الإسلاميين ولا شيء لديه ضد المدنيين الذين يضعون على عيونهم النظارات الفرنسية القديمة ولا شيء غير! إن لدينا تجارب للدولة الدينية في عالمنا ومنطقتنا، من مثل باكستان وإسرائيل وإيران والسودان. وفي كل هذه الدول صار الدين أديانا في عمليات الصراع على السلطة، وما كسب شيئا بل خسر وحدته وروحه وحرياته، وتكاثرت عليه الرهانات والارتهانات.

إن لدينا فرصة في ظل حركات التغيير المنتشرة الآن. وهي فرصة لاستعادة الانتظام في سلم القيم لدينا، وفرصة للتجديد في الفكر الإسلامي بمعزل عن السلطات وليس في مواجهتها، وفرصة للانطلاق بالوجه الوضاء للإسلام باتجاه العالم، بدلا من التقوقع في ظل السلطات، أو مواجهة العالم مع الجهاديين والقاعديين. إنها تجربة الدين في الحرية، وهي تجربة فقهائنا في الأزمنة الوسيطة، حيث كان الازدهار العظيم ليس مع السلطات أو ضدها بل مع المجتمعات وفيها بلا غلو ولا استئثار ولا خوف ولا هواجس. والتحرر من استتباع السلطات خطوة، ومنع استخدام الدين في الصراع على السلطة خطوة أخرى. أما الخطوة الثالثة والمنجية من الخطر نهائيا فهي النهوض بالفكر الإسلامي وبالتعليم الإسلامي في ظل الحرية.