الجوانب العملية في مشروع أحمد خان الإصلاحي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في نص بالغ الكثافة والدلالة، يوضح السيد أحمد خان (1233 - 1316هـ) جوهر مشروعه الإصلاحي التجديدي، حين يقول: «طالما طرقت باب النيام ليستيقظوا؛ فإن فعلوا، فذلك ما أبغي، وإن تخبطوا عند انتباهتهم وترنحوا يمنة ويسرة، فمرحلة لا تستوجب الرضا، لكنها مع ذلك تستوجب الأمل في يقظة المستقبل.. وليتها تكون!! فعندما ترى الأم طفلها مريضا تلح عليه أن يشرب الدواء المر. وأنا كذلك؛ سوف أطرق باب النيام دائما حتى يستيقظوا، وسأصيح بالأطفال المراض: اشربوا اشربوا، حتى يتجرعوا، لا أكل ولا أمل».

والحال أن مهمة المجددين الأولى لا تقتصر فقط على دق نواقيس الخطر، وتنبيه الأمة كلها – قادة ورعية - بسوء الحال والمآل؛ وإنما تتحدد بداية بالعمل على الخروج من هذا المأزق في أقرب فرصة ممكنة؛ فشخصية المجدد لا بد أن تزاوج في وجودها بين الإيمان بالدور المنوط بها من جهة، والعمل على تجسيد مشروعها الإصلاحي التجديدي كيانا وواقعا في دنيا الناس من جهة أخرى، وإلا بقيت طروحاتها معلقة في الهواء لا تسمن ولا تغني من جوع!! وهذا الجانب الأخير، أعني المنحى العملي لأي مشروع إصلاحي، كان السمت الأبرز لأبرز مجددي العصور المتأخرة. ونحن لا يمكن أن نتحدث بحال من الأحوال عن الإمام محمد عبده، أو جمال الدين الأفغاني، أو ابن باديس، أو الإمام محمد بن عبد الوهاب... إلخ، من دون أن تلفت انتباهنا ملاحظة أن هؤلاء جميعا قد وضعوا في أذهانهم خطة العمل المحمدية وسعوا إلى إحياء الدين وفقا لأبرز خطوطها.

وهكذا كان المنحى العملي ممثلا للجانب المشترك بين مجددي الأمة على مر عصورها، والذي ترجم واقعا ملموسا في دنيا الناس، موزعا بين مقاومة الاستعمار تارة، ومحاربة الخرافات والبدع تارة أخرى. وإلى جانب هذا وذاك انفردت ثلة من المجددين بخلق كيانات مؤسساتية تعمل على تجسيد أفكارها، واتساع رقعتها، وتسهم فعليا في نهضة الأمة وتقدمها، كما هو الحال بالنسبة إلى كل من الإمامين المجددين: محمد عبده، وأحمد خان، على وجه الخصوص.

فبينما سعى الأول إلى إصلاح المؤسسة الدينية، ممثلة في الأزهر الشريف، إلى جانب مؤسسات القضاء والتعليم، منتهيا بتأسيس دار العلوم لتكون بديلا عن الأزهر بعد أن يئس من إصلاحه، اتجه الآخر (أحمد خان) إلى تأسيس كل من: الجمعية الإسلامية العلمية، وكلية عليكرة الإسلامية، رابطا في دعوته التحديثية بين تقدم الأمم علميا من ناحية، ورقيها الأخلاقي من ناحية أخرى.

يقول أحمد خان في تأكيد ضرورة الجمع بين هذين الأمرين: «انظروا إلى إنجلترا، لقد كانت ثروتها تتماشى يوما فيوما مع تربيتها؛ فكلما زادت تربيتها زادت ثروتها، وقد كانت، منذ قرون، وأمامها من العقبات والصعاب التي تعوق التربية أكثر مما عندنا. ولو أن الهند سنة 1856م كانت تعرف العالم وتعرف قوتها وقوة خصمها من الإنجليز، وتزن الأمور بميزان صحيح وتدرك نتائج الأمور، ما حدثت الحوادث الأليمة التي حدثت سنة 1858م، إلا أن الجهل سبب لكل شر (في هذه الدنيا)».

ومن المعلوم أن السيد أحمد خان قد سافر إلى مكة سنة 1870م ليعرض مخططه الخاص بالإصلاح التربوي والفكري والاجتماعي على زعماء العالم الإسلامي الذين تتبعوا، باهتمام بالغ، شتى تجاربه في مجال التعليم، كما كان له الفضل في إقناع علماء المسلمين بنظريته القائلة إن باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه، وإن الإسلام في أمسّ حاجة اليوم إلى الإصلاح والتجديد، على الرغم من معارضة أقلية متشددة من علماء المدرسة القديمة.

وإلى جانب أنشطته العملية هذه، أسس السيد خان عددا من المجلات الدورية لنشر فكره الإصلاحي، من بينها: «تهذيب الأخلاق»، وكانت تصدر باللغتين الإنجليزية والأوردية، ومجلة «عليكرة» Aligarh Gazette، وغيرهما.

لكن على العكس تماما من قبول المجتمع الهندي آراء السيد خان الإصلاحية في المجالين الاجتماعي والتثقيفي - التعليمي، أثارت مواقفه السياسية استياء متزايدا بين المسلمين آنذاك؛ فقد كان يحذر دائما من مغبة الاصطدام بالإنجليز، بل وذهب أيضا إلى حد النصح بإجراء تعاون ما بين المسلمين والسلطات البريطانية آنذاك. أضف إلى ذلك أن الأخيرة كانت قد منحته لقبا فخريا رفيعا، ألا وهو لقب «سير»، الذي أتاح له أن يصبح عضوا في مجلس نائب الملك.

وفي الأحوال كلها، كان السيد أحمد خان يرى أن الغرض الذي يجب أن يرمي إليه السياسي هو العمل على تحقيق وحدة الهند ككل، وأن الإسلام والهندوكية والنصرانية يجب أن تكون عقائد دينية محلها نفوس معتنقيها وضمائرهم فقط، بحيث لا تؤثر تلك العقائد في الحس الوطني الذي ينبغي أن يظل قاسما مشتركا بين جميع طوائف المجتمع الهندي.

في السياق ذاته، شجع السيد خان القائمين على «حزب المؤتمر الهندي»، الذي تكوَّن من ليبراليين، بقصد المطالبة بإجراء إصلاحات سياسية ودستورية ليبرالية، لكنه ما لبث أن امتنع عن حضور إحدى جلساته، برئاسة بدر الدين طياجي، بحجة خوفه من أن تتحرك إنجلترا مرة ثانية ضد المسلمين على النحو الذي حدث بُعيد قمع الثورة الهندية.

أيضا لم تسلم آراء السيد خان الدينية من توجيه النقد اللاذع لها؛ حيث أثار كتابه «تفسير القرآن» سخط الكثير من رجال الدين بصفة خاصة. وبحسبه، فإن القرآن إذا فُهم فهما صحيحا فإنه لا يتعارض مع العقل، وإن النظر الصحيح فيه إنما يوجب الاعتماد على روحه أكثر من الاعتماد على حرفيته، ومن ثم يتعين على المجددين أن يفسروا القرآن على ضوء العقل والضمير ليس إلا!! بل إنه تطرف في نظريته هذه إلى الحد الذي قال فيه: إن الوحي قد نزل بمعناه دون لفظه!! متابعا في ذلك مذهب بعض علماء المسلمين المتقدمين الذين حكى قولهم السيوطي في كتابه «الإتقان»، حين قال: «وذكر بعضهم أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه (صلى الله عليه وسلم) علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب».

في السياق ذاته، علينا ألا ننسى أيضا ما كتبه جمال الدين الأفغاني بالفارسية في رسالته «الرد على الدهريين»، التي هاجم فيها أحمد خان ومذهبه. أضف إلى ذلك، الجهود التي قامت بها حركة «ديوبند»، أو دار العلوم، التي أسسها النانوتاوي في ديوبند عام 1860م لمواجهة تيار التغريب في البلاد والعودة إلى العلم الإسلامي والمعرفة الحقيقية بروح الإسلام للخروج من حقبة الانهيار والاضمحلال.

ففي الوقت الذي كان يولي فيه السيد خان قدرا كبيرا من الاهتمام في كلية عليكرة بتدريس اللغات والعلوم الغربية، كانت العناية موجهة في ديوبند، على العكس من ذلك، نحو العلم والتربية الإسلامية. وبينما كان طلبة عليكرة لا يتعاطون السياسة من قريب أو من بعيد، كان معهد ديوبند يصر على الالتزام بالمعارضة السياسية ومقاومة المحتل بالطرق والوسائل كافة، بما في ذلك المسلحة وغير المسلحة.

ونتيجة لآراء السيد خان الدينية والسياسية، ذهب مولوي علي بخش إلى مكة بقصد الحج ورجع بفتوى من علماء مكة تكفر السيد خان وتخرجه من الملة الإسلامية! فما كان من الأخير سوى أن كتب في دورية تهذيب الأخلاق: «ما أعجب إلحادي! لقد جعل مني كافرا وجعل منه حاجا مؤمنا! إن إلحادي كالأمطار، تخرج أحسن الورود في البستان، وأخس الكلأ في الوديان».

* كاتب مصري