معركة رئاسية سياسية أم معركة دينية عقائدية؟

إميل أمين

TT

هل الولايات المتحدة الأميركية دولة دينية أم علمانية؟ تساؤل يطل برأسه من نافذة الأحداث مع اقتراب الإعلان الرسمي عن المرشحين لخوض سباق الانتخابات الرئاسة الأميركية القادمة 2012، ويضع المهتمين بالشأن الأميركي أمام إشكالية حقيقية تخلقت ولا تزال في رحم الازدواجية الأميركية المعهودة.

لماذا طرح علامة الاستفهام هذه ومن جديد هذه الأيام؟ المؤكد أن نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه المعهد العام للبحوث الدينية في واشنطن، وهو معهد مستقل لا ينتمي لأي حزب من الأحزاب، تقف خلف التساؤل. فقد أشار الاستطلاع إلى أن ثلثي الأميركيين يعتقدون بضرورة امتلاك المرشح الرئاسي القادم قناعات دينية قوية، حتى إذا خالفت تلك القناعات آراءهم الشخصية. وبمزيد من التفصيل الذي يكشف الدور الذي ستلعبه المحددات الدينية في الانتخابات الرئاسية القادمة والتي تبدت في عينة من 1505 أشخاص، نجد أن 29 في المائة قالوا إنهم لن يرتاحوا لتولي مسيحي إنجيلي الرئاسة، فيما أشار 53 في المائة إلى أن اختيار رئيس من طائفة المورمون غير مناسب لهم، أما الذين أبدوا اعتراضهم على رئيس مسلم للولايات المتحدة فقد بلغوا نحو 64 في المائة، في حين بلغت نسبة الذين لا يؤيدون رئيسا ملحدا 67 في المائة.. ماذا وراء نلك الأرقام الأولية، وكيف لها أن تنسحب على حظوظ المرشحين الذين بدأوا بالفعل في إظهار الوجه الديني لهم على نحو يعادل توجهاتهم السياسية والاقتصادية معا؟

التحليل الأولي لتلك النتائج يقودنا إلى وجود نسبة معتبرة من الناخبين الأميركيين تبلغ الثلث تقريبا 29 في المائة تخشى من تكرار تجربة جورج بوش الثاني، الإنجيلي المولود ثانية، والذي قاد الولايات المتحدة الأميركية إلى مستنقع لا يبدو أن البلاد قادرة على الفكاك منه حتى الساعة. لكن الإشكالية هنا أن غالبية المرشحين الجمهوريين، هم من أتباع المذهب الإنجيلي ، وفي مقدمتهم ريك بيري وهيرمان كين، ويعد ريك بيري، استعلان جديد بل ربما يكون أسوأ من جورج بوش، في اتجاهاته اليمينية، أضف إليهما المرشحة قليلة الحظ ميشال باكمان. الأمر الثاني، بحسب نتيجة استطلاع الرأي السابق، يلفت إلى ضعف شديد فيما يخص حظوظ الحاكم السابق لولاية ماساتشوستس ميت رومني، ونظيره جون هانتسمان الحاكم السابق لولاية يوتا، في الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري، انطلاقا من أن كليهما ينتمي إلى طائفة المرمون غير المقبولة عقائديا بشكل فاعل على المستوى الديني الأميركي، بشقيه السوسيولوجي والميتافيزيقي إن جاز الفصل.

لا تصدمنا كذلك نتيجة الاستطلاع عندما تشير إلى أن 64 في المائة من العينة ترفض رئيسا مسلما، فهي تتسق وحالة الإسلاموفوبيا التي تسود الداخل الأميركي منذ عقود وتلقي بظلالها على حالة الفرز والتمييز والإقصاء المتفاعلة إلى أقصى حد ومد خلال السنوات الأخيرة في ثنايا المجتمع الأميركي، والتي يعمد المرشحون للرئاسة للعزف على أوتارها كلما ضاقت بهم السبل وانسدت المسارب.

أما النتيجة الأخيرة فهي أن 67 في المائة من الأميركيين لا يؤيدون رئيسا ملحدا، مما يعني أن فكرة الدين والتدين والقناعات الدينية للمرشح القادم، ستلعب دورا رئيسيا وفاعلا في السباق القادم.. هل نحن إذن أمام معركة رئاسية سياسية أم معركة دينية عقائدية؟

في كتاباته العميقة يخبرنا اللاهوتي الألماني هانز ايكهارد باهر والذي تأثر تفكيره تأثرا عميقا بالاتصالات التي كانت له مع المناضل الأميركي «مارتن لوثر كينغ» عن وجود معركة بالفعل بين نوعين من التدين في الولايات المتحدة:

الدين الأول هو «تدين القوة العالمية»، ومثاله ذاك الذي اعتنقته إدارة الرئيس السابق جورج بوش، مدعومة بالكنائس الوطنية الأصولية.

أما الدين الثاني فهو «تدين حقوق الإنسان» الذي تؤمن به العديد من الكنائس المسيحية هناك.

يتسم التدين الأول بالتطرف المتزمت القائم على تقسيم الناس إلى صديق وعدو، ونظام عالمي مسيحاني مزور ومقاربة رؤيوية مرتكزة على الحل النهائي لقوة الشر. أما التدين الثاني؛ تدين «أميركا الأخرى» فهو ثمرة للخطاب الديمقراطي العام، في حركة الحقوق المدنية وطاولة الأخوة، وصوت الحلول السلمية البراغماتية الذي ينتقد القوى المهيمنة ويمثل من لا صوت لهم.

والتساؤل الأهم والأوقع.. هل هذه التفرقة وذلك التمييز بين التدين الأول والثاني مجرد شقاقات لاهوتية وعقائدية بين اللاهوتيين الذين يعبرون عن التيارات الإيمانية المختلفة؟

ينكر اللاهوتي الألماني «جيكو موللر - فاهر نهولتز» أن يكون ذلك كذلك، وعنده أن الصراع على الدين (الله) في أميركا اليوم، بات في الوقت ذاته صراعا على الصور السياسية والاجتماعية والثقافية، التي تحكم آمال ومخاوف المواطنين الأميركيين وتستهدي بهذه الصورة القيم التي يتمسكون بها، والقضايا التي يركزون عليها أو لا يركزون عليها انتباههم.. كيف ترجمت هذه الاتجاهات في وقائع على الأرض لجهة المرشحين المختلفين للرئاسة الأميركية القادمة؟ سنحاول أن نتلمس بعض المواقف التي تؤكد على عمق التشارع والتنازع، بين المعركتين السياسية والدينية في الروح الأميركية، ولتكن البداية مع الجالس سعيدا في البيت البيض «باراك حسين أوباما».

واقع الحال هو أن التشكيك في هوية أوباما الدينية، أمر لم يتوقف طوال السنوات الثلاث الفائتة، والجذور الإيمانية لوالده كثيرا ما استخدمت كأداة للتشكيك في صدق نواياه، الأمر الذي أرغمه أكثر من مرة على الإفصاح علنا عن انتماءاته الدينية والمذهبية، غير أن «إسلام والده» سيظل بالنسبة له بمكان «كعب أخيل»، في الانتخابات الرئاسية القادمة لسببين، الأول يتعلق باليهود والآخر بمسيحيي الشرق الأوسط.

أما فيما يختص باليهود، فهناك قطاع كبير من المسيحيين الإنجيليين من تيار الوسط ويمين الوسط، ينزعون إلى أنه لم يتخذ مواقف داعمة ومساندة لدولة إسرائيل، بما يكفي، لا سيما وأن الولايات المتحدة في نظرهم هي الامتداد الإيماني والروحي، وأرض الموعد الجديدة، ولهذا فإن مواقف أوباما المساندة للفلسطينيين في تقديرهم، هي اختصام من جوهر الإيمان المسيحي الأميركي، الذي يصب في خانة التدين الأول الذي تحدثنا عنه سلفا.

وإذا كانت إدارة أوباما قد وجدت مهووسة مؤخرا بمحاولة رأب الصدع مع الجالية اليهودية، فإن الأمر الثاني يخص مسيحيي العالم العربي، وأشارت إليه مؤخرا صحيفة «واشنطن بوست» بوصفه صدعا جديدا في جدار إدارة مأزومة سياسيا واقتصاديا. تقول «واشنطن بوست»: «لقد ساور الإدارة الأميركية قلق إزاء التدخل في أي أمور تؤثر أو تصب في صالح المسيحيين في الشرق الأوسط بعد الربيع الذي ينحو لأن يكون إسلاميا بالمطلق مخافة ارتفاع صوت الألسنة التي تدعي أن الغرب يشن حملة صليبية على الإسلام، وكانت نتيجة تلك السياسات السلبية، أن ازدادت شوكة التطرف الإسلامي قوة وما نتج عن ذلك من آثار وخيمة».

غير أن هذا الخوف بدوره كبد أوباما انصراف قطاع كبير من كافة التيارات المسيحية الأميركية عن دعمه وأذكى من جديد الهواجس القديمة بشأن أصوله الدينية الأمر الذي أدى بـ«واشنطن بوست» لأن تخلص إلى القول إنه «ليس من المستغرب أن المؤمنين المسيحيين في الولايات المتحدة الأميركية لا يثقون كثيرا في أوباما».

أما المرشح الجمهوري الذي يبدو الأكثر حظا للفوز بترشيح حزبه له، حاكم تكساس السابق ريك بيري، فقد استهل حملته الانتخابية الأولية بالعزف على أوتار دين القوة العالمية الأميركي، ولم يفته كذلك مغازلة الدين الإنساني الآخر.

بداية الأمر أن بيري جعل من إيمانه المسيحي جزءا كبيرا من صورته أمام الجمهور، فقد جاء إعلان ترشحه بعد أسبوع واحد من قيادته لتجمع ديني حاشد دام سبع ساعات في هيوستن، للصلاة من أجل الولايات المتحدة التي وصفها بأنها في أزمة.

وبيري لا يواري أو يداري شهوة قلبه، في دور أكثر علانية للدين في كافة مناحي الحياة الاجتماعية اليومية الأميركية، فهو صاحب الدعوة الشهيرة لصلاة ثلاثة أيام في الربيع الماضي، من أجل سقوط الأمطار لمواجهة الجفاف الذي عانت منه ولايته.

يرى بيري كذلك أن الإرادة الإيمانية العليا لأميركا المؤمنة، وللمؤمنين الأميركيين، لا يجب أن ترتهن لبعض الملحدين على حد وصفه، ويقصد بذلك أولئك الذين تحصلوا من المحكمة الدستورية العليا في البلاد على حكم للفصل بين الشعائر الدينية والنشاطات المدرسية ما يعني أنه من المطالبين بعودة الصلاة اليومية المسيحية إلى المدارس الحكومية الأميركية.

يجيد ريك بيري كذلك مغازلة اليمين المتطرف ويمين الوسط، عبر دعم قضايا تمثل أولوية لهؤلاء، فهو يقف لقضايا مثل الإجهاض بالمرصاد، ما يكسبه زخم واوات ملايين الأميركيين من التيارات المحافظة والمتشددة من الإنجيليين والكاثوليك على حد سواء، ومن الديمقراطيين والجمهوريين بنفس القدر. وبالضرورة نجد بيري يجابه ويرفض دعوات زواج المثليين، وهو الأمر الذي شرعته وقننته بعض الولايات.

لا يفوت بيري كذلك أهمية التيارات «اليهو مسيحية» تلك الداعمة لإسرائيل ظالمة دوما غير مظلومة أبدا، وهو بذلك يضمن دعم وتمويل هؤلاء الذين يتجاوز عددهم ملايين، بجانب محاولته الاستئثار بأصوات وأموال يهود أميركا، فالرجل يتهم باراك أوباما ويرى أن سياساته «عزلت إسرائيل وشجعت خصومها على التجرؤ عليها»، ويعلنها بيري صريحة «بصفتي مسيحيا فإنني ألتزم بتوجيهات واضحة بتأييد إسرائيل»، ويرفض بيري الموقف الرسمي الأميركي الرافض لبناء مستوطنات إسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة.. ويطول الكلام عن بيري. ميشال باكمان المرشحة للانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري بدورها لم تكن بعيدة عن فخ الإيمانيات الانتخابية، إن جاز التعبير، بل ذهبت أبعد من كل هؤلاء فقد رأت في الزلزال والإعصار اللذين ضربا الساحل الشرقي للولايات المتحدة، أمرا يلفت أنظار الأميركيين كإنذار من الله للأميركيين. ففي اجتماع سياسي في ولاية فلوريدا قالت باكمان: «لا أعرف ماذا يجب أن يفعل الله للفت أنظار السياسيين؛ لقد حدثت هزة أرضية وحصل إعصار والله يقول لنا: هل ستبدأون بالإصغاء إلى؟».

لا يقتصر الأمر في الواقع على تصريحات المرشحين للانتخابات التمهيدية للرئاسة الأميركية، بل يمتد كذلك إلى الكتب والكتابات التي صدرت مؤخرا في الولايات المتحدة. ولما كانت أميركا دولة علمانية الهوية دينية الهوى، فإن الكتابات في جلها جاءت مغرقة في الحث على عودة أميركا لأصولها الدينية المسيحية.

أحدث الكتب هو «انتحار القوة العظمى: هل تحيا أميركا حتى عام 2025؟»، ومؤلفه باتريك بوكانان، المعلق السياسي والمذيع الأميركي الشهير، وقد كان أحد كبار مستشاري ريتشارد نيكسون وغيرالد فورد ورونالد ريغان والذي يؤكد على أن أميركا آخذة في التفكك خلال بضعة عقود، والسبب الرئيسي في ذلك ثلاثة تغييرات تاريخية جرت عليها هي على التوالي:

خسارة أميركا لوضعها الإيماني كمهد جديد للمسيحية، والانهيار الأخلاقي والاجتماعي والثقافي، ومن ثم الموت البطيء لشعبها.

وكتاب بوكانان يدعو إلى ضرورة الرجوع إلى فكرة «أميركا في الأصل هي جمهورية مسيحية غربية»، غير أن الهجرات المختلفة تجعل منها دولة متعددة الأعراق والثقافات، وهو ما سوف يؤدي بالطبيعة إلى طمس هويتها الأصلية، الأمر الذي يستدعي بالضرورة حتمية تكاتف الأميركيين للقتال من أجل استمرار الدين والأخلاق والسياسة والتاريخ والأبطال، لا سيما في ظل عدم قدرة الحكومات المتتابعة على الدفاع عن الحدود والحفاظ على توازن الميزانيات، أو الفوز بالحروب التي تخوضها الولايات المتحدة الأميركية. ربما يبدو المشهد معركة إيمانية عقائدية بنفس قدرها معركة سياسية، والحديث متصل وصولا إلى الثلاثاء العظيم.

* كاتب مصري