الإصلاح والنهوض في الفكر الإسلامي

رضوان السيد

TT

اجتمعت لدي من عام 2011 أربعة كتب أحدها بالإنجليزية عن خطباء الجمعة، ودروس المساجد، والأدوار الجديدة للدعاة والخطباء والدروس في العقود الأخيرة. وفي حين يلاحظ ريتشارد أنطون كاتب الدراسة الإنجليزية أنّ أبرز متغيرات العقود الأخيرة بالنسبة للخطباء وموضوعات الخطبة هو ميل الدعاة والخطباء إلى الحديث في موضوعات الشأن العام، المحلّي أو العربي أو الإسلامي؛ يلاحظ الدارسون العرب للخطب والخطباء أنّ الموضوعات ما تزال تقليدية، وأنّ على الخطباء أن يحدّثوا خطبهم أو يهتموا أكثر بالشأن العام! ولا شكّ أن هذا التفاوت أو التناقض يعود في جزء منه إلى اختلاف البلدان التي جرى البحث فيها. إنما الحقيقة الأخرى أنّ الدارسين العرب هم الذين تغيّروا أو تغيرت نظرتهم، ولذلك توصلوا إلى هذه الاستنتاجات. ذلك أنّ خطباء الجمعة في أكثر البلدان صاروا يميلون في الحقيقة إلى معالجة القضايا الحديثة والمعاصرة، وهذا ليس عيبا، بيد أنّ ما ينبغي ملاحظته أنّ التحديث صار يعني التسييس أو الحديث في موضوعات سياسية مباشرة. والدارسون العرب، لأنهم صاروا في أكثرهم حزبيين؛ لا يرون أنّ هذا التسييس كاف، بينما يلاحظ الدارس الأجنبي بالمقارنة بين الستينات والتسعينات من القرن الماضي، أنّ التسييس طاغ، وبعضه حزبي! والواقع أنّ الدعاة أو الخطباء ينقسمون إلى قسمين: الذين يمارسون العمل الدعوي في المساجد، والذين يمارسونه في وسائل الإعلام. ومعظم خطباء الجمعة وملقي الدروس من ذوي الثقافة الدينية، ولذلك كانت تغلب على خطبهم الموضوعات التعبدية والفقهية والأخلاقية. أمّا معظم دعاة الفضائيات (وبمصر وباكستان على الخصوص)؛ فإنهم ليسوا من ذوي الثقافة الشعائرية والفقهية؛ ولذلك تغلب على برامجهم النزعات الاجتماعية والعامة. بيد أنّ هذه التقسيم لا ينبغي أخذه على علاته. فهناك بلدان عربية وإسلامية عديدة ما عادت الدولة فيها أو وزارات الأوقاف والشؤون الدينية، تسيطر على كلّ المساجد، بل نشأت في العقود الأخيرة أو عادت أعراف الوقف الخاص، بمعنى أن يبني شخص أو جهة مسجدا بعد استئذان السلطات، وتكليف خطيب من جانبه أو جانبها بالقيام على الإمامة والشعائر فيه. وذلك الشخص الباني قد يكون حزبيا، فيكون الحزبيون أيضا هم الذين يخطبون أو يدرّسون. وهناك ظاهرة أخرى لا ينبغي تجاهلها أيضا وأيضا. إذ إن هناك أنظمة سياسية «تقدمية» في بلدان عربية وإسلامية عديدة، وهذه تسيطر على المساجد، وعلى المؤسسة الدينية. وهي تطالب الخطباء بالانحياز إلى جانبها، كما تطالبهم بإدانة خصومها من الحزبيين الإسلاميين الذين يعارضونها. وهكذا فالظاهرة الغالبة أنّ التسييس والحديث في الشأن العامّ صار شاملا في المسجد كما في الإعلام الديني، لأنّ الخطباء والدعاة مسيّسون في الغالب، ولذلك فهم يتجنبون التعبديات ويسارعون إلى الخطب الرنّانة التي تتعرض لقضايا الشأن العام! وفي الأصل فإنّ هذا الأمر ليس سلبيا بحدّ ذاته، لكن يمكن أن تكون له تداعيات على الرأْي العام، كما أنه صار في زمن الإسلام السياسي يعني أنّ الخطيب أو الداعية إنما يشارك في الصراع على السلطة. وهذا أمر مزعج في الدين والدنيا.

إنّ الواقع أنه في زمن «الصحوة»؛ فإنّ التيارات الإسلامية المسيّسة، صارت تنافس المؤسسة الدينية على المرجعية. ولأنها صارت «تملك» أحيانا مساجدها؛ فإنها تستقل بها في الدعوة لشأنها السياسي بحسب ما تراه؛ وهذا بالإضافة إلى الإقبال على استلاب التعليم الديني والفتوى من المؤسسة الدينية أيضا. وأذكر على سبيل المثال أنه في الانتخابات النيابية الفلسطينية عام 2006؛ فإنّ الأطراف السياسية عقدت بينها ميثاق شرف على عدم استخدام الدين في المعركة الانتخابية، وقد رفضت بعض الجهات السياسية التوقيع على الاتفاقية آنذاك؛ بحجة أنّ في ذاك تقييدا للحريات الدينية؛ وبخاصة إذا كان الخطيب إسلاميا حزبيا، وأراد ممارسة الولاء والبراء! وهكذا فإنّ لدينا مشكلتين: مشكلة انصراف الخطيب والداعية عن العمل الدعوي التعبدي والفقهي والأخلاقي إلى العمل السياسي في الكثير من الأحيان - ومشكلة مشاركة الخطباء بهذه الطريقة في الصراع السياسي أو الصراع على السلطة. لكنّ هذه المشكلة على خطورتها تبقى فرعية، وأصلها رؤى الصحوة الإسلامية التي نجم عن تأزّم أطراف بداخلها ظهور الإسلام السياسي، وهو عبارة عن تيارات وأحزاب تقول بالنظام الإسلامي الكامل ومن ضمنه نظام الحكم أو نظرية الحاكمية المعروفة. ولذا فهي تشارك في الصراع على السلطة، وتسعى للوصول إليها من طريق هذه الرؤية الجديدة للدين ودوره في السلطة والدولة، إذ بحسب وجهة النظر هذه لا يمكن أن تكون الدولة إسلامية إلا إذا طبّقت حكم الله، بتطبيق الشريعة الإسلامية. وخلال العقود الماضية حدث تأزّم شديد أدى إلى اصطفاف انقسامي بين الأنظمة والمجتمعات، فشكّل هذا الإسلام السياسي بتأصيله الديني الطرف المعارض الرئيسي، ونشأت ثقافة كاملة من أدبيات خطابية هائلة تحمل شتى العناوين في الدين والتعليم والفتوى والمحاضرات والدروس في مواجهة التغريب والغزو الثقافي والطاغوت الداخلي. وقد جرى كلّ ذلك والمؤسسة الدينية السنية تعاني من ظواهر عديدة منها الاستتباع، ومنها الإضعاف والإلغاء، ومنها المنافسة والمزايدة من جانب الإسلاميين الحزبيين؛ ومنها القصور وضعف التأثير في كل الأحوال. ولهذه الأسباب كلّها، أي الصحوية الثقافية والسياسية، وتراجع حجية وفعالية المؤسسات الدينية الدعوية والوعظية؛ ظهرت هذه الفوضى والتفاوتات والتحزبات في الطب والدروس وإعلاميات الدعاة الجدد في وسائل الاتصال الحديثة.

لا بد من علاج لهذه الظواهر الخطيرة، التي تسبّبت وتتسبّب في صراعات وانقسامات ظهرت بأسوأ أبعادها وتداعياتها بعد اندلاع حركات التغيير العربية، واندفاع الإسلاميين من إخوان وسلفيين إلى مقدمة المشهد السياسي في عدة بلدان عربية. والذي أقصده بالعلاج هو البدء بالمراجعة والتفكير في كيفيات إخراج الإسلام أو الدين من بطن الدولة أو من عمليات الصراع على السلطة. فالجماعة بحسب عقيدة أهل السنة هي التي تتولى إدارة شأنها العام بحسب المصالح، لأنّ «الإمامة» ليست من العقديات أو التعبديات؛ وإن صارت كذلك لدى الإسلاميين الجدد. إنما ليس من مهمات المؤسسة الدينية مكافحة الإسلام السياسي ومفاهيمه المختلّة، بل هو شأن الأطراف السياسية العاملة على الساحة. إنّ ما تستطيعه المؤسسة الدينية هو استعادة الدعوة والتعليم والفتوى، والنهوض بالتعبديات والاجتهاديات، والحياة الروحية والأخلاقية للمسلمين. وما يجب أن نقوم به نحن رجالات الفكر الإسلامي هو القيام على التعليم الديني الأساسي والجامعي، والنظر في المضامين والمفاهيم، والإصرار على الإصلاح والتغيير والخروج من الاستقطاب الذي تشهده الساحات السياسية.

وهذا الحراك الفكري والثقافي يتطلب قدرة على عرض الصحيح والمعتدل والوسطى والمستنير، كما يتطلب معرفة أفضل بالمجتمعات، وبعوارض الزمان والمكان. وهي جميعا أمور ومسائل تحتاج إلى وقت وجرأة ومتابعة. والوقت معروف، وكذلك المتابعة. أما الجرأة فمسوّغها ضرورة مراجعة ونقد المفاهيم التي سوّدها الإسلام السياسي عن علاقة الدين بالدولة، وعن معنى العقيدة والشريعة، وعن علائق الدين بالجامعة والمجتمع، والشريعة والفقه بالقانون.

إنّ العاصم لنا من الفتن ووجوه الخطل إعادة ترتيب العلاقة بين الدين والمجتمع والدولة. وهذا أمر لا نستطيع القيام به إلاّ من خلال حركة علمية ومعرفية إسلامية كبرى. وقد تأخرنا كثيرا، وظهر ضعف مؤسساتنا للفتوى والتعليم والدعوة في العقود الأخيرة. أمّا الذين يقولون إنه ليس في الإسلام رجال الدين، ولا مؤسّسة دينية؛ فنحن نقول لهم إنّ التسميات غير مهمة، وإنما هناك مهام وأدوار في التعليم والفتوى وعلم الكلام (=فلسفة الدين) لا يستطيع القيام بها إلاّ رجال العلم الإسلامي والفقه الإسلامي الكبار. وليس من المصلحة في شيء ترك الحبل على الغارب، أو الاستمرار في إضعاف مؤسساتنا الدينية أو استتباعها، لأنّ معنى ذلك تسليم أمر ديننا للعاملين في الشأن السياسي وصراعات السلطة، وفي ذلك من الخطر والخطل ما فيه.