الإسلاميون وتجاوز رذيلة الانتقام

أبو بكر علي *

TT

مما لا شك فيه أن حب الانتقام يعتبر مبدئيا رذيلة أخلاقية ومنافيا للقيم السماوية السمحة ويعبر عن بنية التخلف واستصحاب النفسية البدائية للكائن البشري، وتجاوزه علامة ومؤشر على التحضر والتمدن.

ومن المعلوم أيضا، وبخلاف ما تقتضيه النظرة التوحيدية للإنسان والتعاليم الإسلامية ومبادئ الأخلاق الكونية، أن بعض الجماعات الإسلامية المتشددة تورطت في هذا الإثم من خلال لجوئها إلى استعمال العنف والترويج لثقافة الرعب والغلظة، التي بجملتها تهيئ أرضية مناسبة لتفشي حب الانتقام، والدخول في دوامة ردود فعل عنيفة غير محسوبة.

وبعد ثورات الربيع العربي، وبسبب الصورة النمطية للإسلاميين لدى بعض الدوائر الفكرية والسياسية وكذاك الاضطهاد الذي تعرضوا له في الحقبة الماضية في ظل الأنظمة الفاسدة المتسلطة، وتحملهم ويلات ومصائب كبيرة ومتنوعة، وجراء ثباتهم على موقفهم الآيديولوجي والحركي وعدم رفع الراية البيضاء، أثيرت تساؤلات حول مدى قدرة هذا التيار الاجتماعي والسياسي على الابتعاد عن الانتقام والترفع عنه، لأنه مبدئيا ومن وجهة النظر الأكاديمية والفكرية المجردة و«بالقوة»، يمكن اعتبار اضطهادهم في الماضي مصدرا لخلق روح الانتقام لديهم في الوقت الحاضر. لكن لحسن الحظ، فإن ما نراه في الواقع ونلاحظه ميدانيا يشير إلى واقع مغاير، ولم تكن هناك حملات انتقامية على خصوم البارحة، والمشهد السياسي والجماهيري بخصوص هذا الموضوع يبشر بالخير ويعطينا نوعا من التفاؤل، ويجعلنا نتخلى عن حتمية العلاقة بين وجود الاضطهاد في الماضي والانتقام في الوقت الحاضر، ونحس بالتغيرات والتحولات التي طرأت على قواعد اللعبة ورد الفعل والحراك الاجتماعي والتركيبة النفسية والنظرة الفكرية للمواطن أو على الأقل النخبة المؤثرة التي من خلالها يتم تمرير مشاريع سياسية وحضارية حديثة، ويثبت أن المنطقة أمام مرحلة واستحقاق جديدين، يتسمان بقدر معقول من العقلانية والتسامح وطي بعض صفحات الماضي الضرورية لإعادة بناء الأوطان والمجتمعات والدول والسياسات، وتعميق العيش المشترك وإرساء دعائم الديمقراطية، ولو أن كل هذه المبشرات والتغيرات والسيطرة على المشاعر والنزوات السلبية، ومنها حب الانتقام، لا تبرر عدم الحذر والمتابعة الفكرية والسياسية والأخلاقية للمشهد، للحيلولة دون تنشيط هذا الشعور المتخلف، دينيا وأخلاقيا وحضاريا، من جديد، بسبب الترسبات الموجودة في الطبقات الدنيا في الوعي.

والعوامل التي ساعدت الإسلاميين لتجاوز عقدة الانتقام، رغم اضطهادهم في الماضي (ما عدا حوادث متفرقة) حسب ما أرى، تتلخص في الآتي:

1) تطور الإسلاميين بصورة عامة والخروج من بعض الدوائر الأيديولوجية أو الحركية الضيقة، والانفتاح على العصر بتياراته ومكتسباته وتحدياته. ومن هنا العودة لبعض المفاهيم الإسلامية الكونية وقراءتها من جديد، في محاولة لإحضارها وتجسيدها فكريا وسلوكيا، وتطوير رؤاهم الفكرية حول الديمقراطية، والتعددية، والدولة، والسياسة والعمل السياسي، والتمييز بين العمل الإسلامي بمضمونه الدعوي والجماعي، مع الصيغ المعاصرة للعمل السياسي، وإدراك الأضرار التي تلقوها في المرحلة الماضية جراء الأخذ بأساليب وأنماط تفكير معينة.

2) إن الثورات العربية الحديثة بصورة عامة، وحتى الآن ما عدا الثورة الليبية التي فرض النظام فيها لأسباب واضحة حمل السلاح على الشعب وجعلهم أمام خيارين، إما السحق أو المقاومة كمرحلة انتقالية، ثورات بيضاء أعطت مضمونا جديدا للمفهوم، وعملت على عدم إذكاء شعور حب الانتقام والترفع عنه والعمل بروح المصالحة الوطنية.

3) جماهيرية الثورات، ونعني بالجماهيرية هنا عدم امتلاك أي تيار أو آيديولوجية أو قوة للثورة أو الادعاء بأنه مفجرها وصاحبها الحقيقي، لأن الثورات لم تكن آيديولوجية ولم يقُم بها التيار الإسلامي وحده، بل شاركت فيها جميع التيارات والآيديولوجيات والتيارات، وكانت المبادرة في البداية تعود للجيل الجديد خارج الأطر الآيديولوجية والسياسية والحزبية السائدة، هذه الصفة للثورات أثرت على نوعية التعاطي بعد انتصارها مع المحسوبين على النظام السابق، وميزتها عن الثورات السابقة في المنطقة التي تمت سرقتها من قبل تيار وتوجه معين، ورافقت العنف والتصفيات، بل مالت نحو احتكار السلطة تحت عناوين وشعارات جديدة.

إن تضافر جهود الآيديولوجيات والتيارات في المجتمع لانتصار الثورة أفرزت عدة نتائج مهمة منها:

أ - تقليل دور الآيديولوجيات، خاصة في ثوبها الاحتكاري الطامع وتوجهها الانفرادي.

ب - احتياج الجميع لروح التوافق بين التيارات المختلفة حول القضايا المتعلقة بإدارة مرحلة الثورة والمرحلة الانتقالية ونوعية التعاطي مع الإفرازات والتحديات، وبوسع هذا التطوير التعايش الفكري والسياسي والآيديولوجي بين مكونات الشعب.

ج - جعل التيارات يراقب بعضها بعضا فيما بينها، أي المراقبة المتبادلة، وهذه الميزة تطلب من كل تيار التأني والتفكير بعمق قبل اتخاذ أي خطوة، مخافة استخدامها من قبل الأطراف الأخرى لصالحها، ومن ثم ضرب شعبيته.

4) مهمة دمقرطة المجتمع، إن اختلاف أهداف ثورات الربيع العربي عن الثورات السابقة في المنطقة، الذي يتمثل في دمقرطة المجتمع، وخاصة نظامه السياسي وإعادة تعريف وظائف الدولة والسلطة داخل المجتمع، وليست إعادة إنتاج الأنظمة القديمة بأثواب وعناوين جديدة، يحتاج إلى أوضاع ومناخات خاصة بها، ومن ثم يحد من مشاعر الانتقام والركض وراء التشفي.

إن الديمقراطية تقتضي الانتخابات واحتياج التيارات لثقة المواطنين وأصواتهم والمنافسة المدنية مع المنافسين السياسيين، وبحكم تنافس القوى السياسية المشاركة في الانتخابات على ملايين الأصوات المحسوبة على الأحزاب والأنظمة السابقة، والذين يشكلون ثقلا انتخابيا ملحوظا ينأون بأنفسهم من منظور المصلحة السياسية والحزبية عن التعامل معهم بروح انتقامي.

5) وجود مرحلة انتقالية ومحاكمة رموز الأنظمة السابقة، إن وجود مرحلة انتقالية بعد انتصار الثورة أو الموقف الإيجابي في البداية لبعض مؤسسات الدولة، منها مؤسسة الجيش في كل من تونس ومصر، ومعالجة ملفات القمع والفساد واستغلال السلطة، عن طريق المحاكم وفي إطار القانون، ساعد الثورتين التونسية والمصرية، وسيساعد بمستويات مختلفة بعض الثورات الأخرى، لتجنب ردود الفعل العنيفة والاضطرابات السياسية والاجتماعية العميقة، بحيث تهدد مكاسب الثورة برمتها. إن اللجوء إلى المحكمة للتعامل مع رموز الفساد السياسي والمالي والإداري والديكتاتورية يمثل الحل الثالث، بين محاسبتهم عن طريق الانتقام الأعمى والأساليب الثورية التقليدية وغض الطرف عنهم والخروج من الموقف من دون أي محاسبة أو عقاب. إن محاكمتهم يستجيب لبعض مطالب المواطنين، ومنهم الإسلاميون، ويعطيهم نوعا من الرضا النفسي والشعور بتحقيق العدالة والاطمئنان على الحاضر والمستقبل، ولا يشعرون بالإهانة لعدم ملاحقة مجرمي أمس، والعيش بحرية ويمنع من تفكير القوى بالانتقام منهم بصورة مباشرة، أو عن طريق محكمة ثورية سطحية، يفعلون ما يريدون ويزرعون بذور البغضاء والحقد بين بعض فئات المجتمع.

وختاما، من المهم للغاية وعي الإسلاميين بهذه النقطة والعمل عليها فكريا وتربويا وسياسيا، وجعلها ثقافة جماعية مسيطرة ومتأصلة في اللاوعي الفردي والجمعي، والعمل بجد لاحتواء الموقف بهذا الصدد في البلدان التي بسبب وحشية الأنظمة وعدم وجود مؤسسات وطنية فيها، انتهت ثوراتها إلى استعمال السلاح، لأن ما يبني وطنا ويزكي أخلاقا ويقدم مشروعا حضاريا، هو التسامح والتعايش، وليس الانتقام والتباغض.

* مفكر إسلامي ووزير كردي عراقي سابق