تهافت غينغريتش بين الإسلاميين والفلسطينيين

إميل أمين

TT

هل كانت تصريحات رئيس مجلس النواب الأميركي الأسبق نيوت غينغريتش والمرشح المحتمل للرئاسة الأميركية عن الحزب الجمهوري الأميركي الأيام القليلة الفائتة، أمرا غريبا أو صادما بشأن أفكاره عن الوجود التاريخي الفلسطيني؟

حكما لم يكن ذلك كذلك، لا سيما وأن تصريحاته السابقة عن الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة الأميركية تؤكد على مكنونات صدر الرجل والتيار الذي ينتمي إليه، وتؤشر حتما إلى حال أميركا إذا جاء جمهوري متشدد إلى سدة الحكم في العام القادم.

في مقابلة تلفزيونية مع قناة يهودية كان غينغريتش الذي أعلن منذ فترة عن نيته ترشحه للفوز عن الحزب الجمهوري، من أجل الدخول في سباق الرئاسة الأميركية، كان يحاول الدخول من الباب الواسع، باب اللوبي الداعم لإسرائيل في أميركا.

في التصريحات المشار إليها كان غينغريتش، وكما هو متوقع، يؤيد إسرائيل ظالمة دوما في نزاعها مع الفلسطينيين، وهو أمر يمكن للمرء أن يتفهمه، غير أن المغالاة في محاباة إسرائيل، كان غير المتوقع، إذ اعتبر الرجل أن إدارة أوباما تفضل الإرهابيين من خلال سياستها الخارجية قائلا للمذيع: «هل تذكر.. إنه لم يكن هناك دولة فلسطين، بل كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية.. ويمضي في تهافت عجيب مضيفا.. لقد اخترعنا الشعب الفلسطيني، في حين أنه – تاريخيا - ليس سوى مجموعة من العرب كانت لديهم الفرصة للذهاب إلى الكثير من الأماكن»..

هكذا تحدث غينغريتش عن دولة وشعب وحضارة تضيق الصفحات عن البحث فيها بشأن جذور الفلسطينيين في الأرض المقدسة، هذا في الوقت الذي كان فيه الهنود الحمر أصحاب أميركا الأصليون - وليس غينغريتش الوافد من أوروبا - يقطفون التفاح من أعالي الأشجار درءا للموت جوعا.

والشاهد أننا لسنا بمقام التحقيق الصحافي أو الإعلامي في شأن تصريحات غينغريتش، غير أن ما يعنينا في حقيقة الأمر هو ماورائيات مثل هذه التصريحات وجذورها الضاربة عمقا في الروح الأميركية.

لا يتحدث غينغريتش من نفسه بل إن العامل الإسرائيلي الضاغط عليه صباح مساء كل يوم يدفعه إلى ذلك دفعا، وما من رئيس وزراء إسرائيلي يذهب في طريق الكونغرس، إلا ويجذر في عقول نواب وشيوخ الشعب الأميركي هذه المعطيات.

حدث في 24 مايو (أيار) 2006 أن تحدث رئيس وزراء إسرائيل السابق إيهود أولمرت بالقول: «ظللنا نحن اليهود آلاف السنوات يغذينا ويبقى علينا توق إلى أرضنا التاريخية، وقبل آخرين كثيرين نشأت بقناعة عميقة أن اليوم الذي يكون علينا فيه التخلي عن بعض أجزاء أرض أسلافنا، لن يأتي أبدا، لقد آمنت وما زلت أؤمن حتى يومنا هذا بحق شعبنا الأبدي والتاريخي في تلك الأرض جميعها»؟

هل يمكن للمرء أن يتساءل الآن وفي كل آن «لماذا تبقى الولايات المتحدة الأميركية وسيطا غير نزيه في أي عملية سلام في الشرق الأوسط لا سيما بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟».

يتفهم الباحث في الشأن الأميركي ذاك الالتباس الذي يختلط فيه الحق الطبيعي بالإلهي، ويمتزج فيه المطلق بالنسبي وصدور مثل هذه التصريحات في زمن الانتخابات الرئاسية الأميركية. لكن ما يغيب عن ناظري الكثيرين هي الروح الصهيونية الكامنة في العقلية الأميركية روح هرتزل التي قادت غينغريتش، وستقود أمثاله للسير على ذات الدرب وهذه ليست الحادثة بل الكارثة.

في كتابه القيم «اختفاء فلسطين» لصاحبه جوناثان كوك، الصحافي الغربي الوحيد الذي يتخذ من مدينة الناصرة مقرا له، ربما نجد المدخل الطبيعي لكل إنكار للحضور الفلسطيني شعبا وأمة ودولة عبر التاريخ.

وعنده أن المقولة المنحولة بعدم وجود شعب فلسطين في أي وقت من الأوقات تستند على أفكار صهيونية مبكرة جدا وردت في رواية تيودور هرتزل، الأب الروحي الأول والمؤسس الآيديولوجي لدولة إسرائيل الحديثة «آلتينولاند» Altneuland أو «الأرض القديمة الجديدة» 1902.

الذي يروج له هرتزل في تلك الرواية يتخيل الكاتب مستقبلا قد أصبحت فيه فلسطين دولة يهودية وقد أصبحت تلك الرواية أحد النصوص الصهيونية المؤسسة والتي تقدم السكان الأصليين بصفتهم عربا غفلا غير مميزين ويشار إليهم كشخوص قذرة يعيشون في «قرى يغلفها السواد» ويبدون مثل قطاع الطرق، وبالتقابل مع هؤلاء «الغفل»، البرابرة المجرمين، يتميز اليهود الأوروبيون بالنبل، كما أنهم فيما هم «يستردون ارتباطهم بالأرض الموعودة، يأتون معهم بحضارة يفترض أنها تفيد السكان الموجودين في تلك الأرض، والذين هم في واقع الحال ليسوا سكانا أصليين لتلك الأرض».

وإذا كان اليمين الأميركي مرتعا لتلك الأفكار، فإنه من الطبيعي أن يذهب غينغريتش أحد أشهر وأبرز وجوه اليمين الأميركي في فترة التسعينات هذا المذهب، وفي قرارة نفسه ومن معه من رجالات اليمين، أنهم «الثوار والثوريون» الذين يسعون إلى إعادة أميركا إلى صدارة المشهد، وبالتبعية إسرائيل.

وفي سعيه إلى الفوز بالمنصب الرفيع كان غينغريتش يصب جام غضبه على الرئيس الأميركي باراك أوباما، إذ صرح ذات مرة بالقول: «أعتقد أنه سيحل محل جيمي كارتر كأسوأ رئيس في العصر الحديث».

وكارتر يرتبط في ذهنية اليمين الأميركي والإسرائيلي معا بكارثتين لا تنسيان بحسب تقديرهما؛ أولاهما: اتفاق السلام المصري الإسرائيلي (كامب ديفيد) الذي هو انتكاسة عند غلاة المتطرفين الإسرائيليين تجاه الوعد الإلهي - الذي كان - بشأن حدود إسرائيل من الفرات إلى النيل، والذي يرى أن الاحتفاظ بسيناء مع العداوة للمصريين أفضل من التخلي عنها، في ظل سلام بارد مع مصر.

وثانيتهما: الانتكاسة التي أحدثتها السياسات الأميركية في زمن كارتر تجاه إيران، وفقدان الشاه كأكبر حليف للولايات المتحدة الأميركية، وإعطاء الفرصة لقيام أكبر نظام ديني أصولي في الشرق الأوسط لا يزال يهدد مصالح إسرائيل والولايات المتحدة وخططها المستقبلية في المنطقة.

والمقطوع به كذلك أن ملفات غينغريتش لا تخلو من عداوة جذرية ومعركة فعلية مع الاتجاهات الإسلامية داخل أميركا ولا يغالي المرء إن قال إنها مع الإسلام عينه، ففي خطاب له أمام «قمة ناخبي القيم» أعلن غينغريتش أنه «يجب أن يكون لدينا - كأميركيين بالطبع - قانون فيدرالي ينص على أن الشريعة الإسلامية لن يعترف بها من جانب أية محكمة في الولايات المتحدة الأميركية».

والمتابع للخطابات التي وجهها غينغريتش في عدد من مراكز الأبحاث الأميركية ذات التوجهات اليمينية مثل معهد أميركان إنتربرايز، يستجلي رؤية الرجل المستقبلية لشكل الصدام القادم ولا شك، لو قدر لهذا الرجل أن يجد له مكانا في البيت الأبيض، فقد صرح هناك مؤخرا بأن «الجهاديين المستترين يستخدمون أدوات سياسية واجتماعية ودينية وفكرية، وأن جهاديي العنف يستخدمون العنف، لكن كليهما في واقع الأمر منخرط في الجهاد، كما أن كليهما يريد فرض الشروط الضرورية لتحقيق الهدف نفسه، وهو استبدال الحضارة الغربية بالتطبيق المتطرف للشريعة الإسلامية بحسب وصفه».

وفي خطاب آخر صور غينغريتش جوهر الإسلام باعتباره التهديد الأحمر الجديد مرتئيا أن «الجهاديين المستترين مثلهم مثل الشيوعيين المعروفين الذين أدرجهم السيناتور جوزيف مكارثي على قائمته».

والمعروف أن غينغريتش والفصيل المروج للإسلاموفوبيا في أميركا يعتمدون سوية على حالة وحيدة لتدعيم نظريتهم الترويعية التي يروجون لها داخل أميركا لإخافة الأميركيين البيض البروتستانت الأنجلوساكسون WASP من كل ما هو مسلم وإسلامي والتي تحمل عنوان «الشريعة الإسلامية قادمة».

ففي يونيو (حزيران) 2009 رفض قاض في إحدى محاكم الأسرة في مقاطعة هادسون كونتي في ولاية نيوجيرسي الأميركية إصدار أمر قضائي بعدم التعرض لامرأة شهدت بأن زوجها وهو مسلم، أجبرها على إقامة علاقة زوجية دون رضاها، ويومها قال القاضي جوزيف تشارلز إنه لا يعتقد أن الرجل كانت لديه رغبة إجرامية تجاه زوجته أو أنه كان يهدف إلى إيذائها، لأنه كان يتصرف وفقا للطريقة التي يرى أنها «تتسق وممارساته»، بمعنى أنها تتماشى وتتفق مع شريعته الروحية وناموسه الأدبي.

وغينغريتش لا يتخذ من عباءة الحرب على الإرهاب ستارا ليواري أو يداري عداءه الشديد للمنظومة الإسلامية، بل كان ولا يزال الرجل شديد الوضوح والمباشرة، إذ اعتبر حملته الرئاسية ضد الشريعة الإسلامية ذاتها التي وصفها بأنها «تهديد وجودي لاستمرار الحرية في أميركا والعالم»، وتنطوي على مبادئ بغيضة بالنسبة للعالم الغربي.

وبينما اعترف غينغريتش بأن استراتيجية المواجهة الشاملة لم تتحدد بعد، فقد أكد أنها حرب ستستغرق عقودا طويلة، ثم حدد لتلك الحرب جبهات ثلاثا أولاها على الأرض الأميركية نفسها التي حذر من أن الشريعة تتسلل إليها، ويسعى الراديكاليون المسلمون لفرضها على المجتمع الأميركي وثانيتها الجبهة الأوروبية، أما الجهة الثالثة فهي سبع دول في الشرق الأوسط.

تطرح تصريحات غينغريتش سواء المتعلقة بفلسطين أرض وشعبا، تاريخا وحضارة، عدالة ومظلومية، علامة استفهام كبرى حول جدوى استخدام الإسلاموفوبيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة من عدمها. على أن علامة الاستفهام القائمة منذ زمن ويبدو من أسف أنها ستظل قائمة طويلا: لماذا هذا التزلف الأميركي لإسرائيل على حساب أي عدالة لقضايا عربية أو إسلامية؟

الجواب دون تطويل ممل أو اختصار مخل، هو الهيمنة الذهنية اليهودية والإسرائيلية معا، مع التشديد على التمايز في بعض الأحيان بين الاثنين، على مقدرات الكونغرس؛ فلأكثر من خمسين سنة وبفضل مؤسسة مثل الآيباك دافع أعضاء راسخو الإيمان عن القضية الإسرائيلية، ووجد أكثر من نصف أعضاء الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب كمؤيدين حازمين لإسرائيل، ومتعاطفين معها.

في حين أن ما بين ثلاثة وستة أعضاء يمكن اعتبارهم متعاطفين مع العرب، وعند الكاتب الأميركي ستيفن زونيسان أن منظمة آيباك وإن أخفت الطريقة التي تعمل بها فإن تصرفاتها تجاه أعضاء الكونغرس تتراوح ودائما بين العصا والجزرة.

والمقطوع به أن نواب وشيوخ أميركا يعرفون معرفة يقينية هذه الأساليب عندما يضعون قوائمهم للجهات التي تتبرع لصالح حملاتهم الانتخابية، وهذه التبرعات مرهونة بالتصريحات التي يحضرونها لتقديمها إلى لجنة الانتخابات الفيدرالية، ولكن قواعدهم الانتخابية لا تعرف هذه الأمور عندما يقرأون تلك التصريحات، فجماعة الضغوط الإسرائيلية مثل «ايبك» هي الأقدر بين مثيلاتها على المساهمة بالعملة الصعبة في أي حملة انتخابية أخرى في الولايات المتحدة.

لم يكن غينغريتش يتحدث في فراغ، فهو يعلم أكثر من غيره أن أعضاء الكونغرس ورؤساءه ومديري لجان العمل السياسي مخزن للتجارب المخيفة. كما يؤكد إدوارد نيفنن صاحب المؤلف الشهير «اللوبي اليهودي وسياسة أميركا الخارجية»، تلك التجارب التي تذكر آيباك بها السياسيين والتي تمضي وفق منهاج لا يحيد عنه أحد، مناصرة إسرائيل كمحك للصداقة، وأي محاولة للخروج عن نص السيناريو المكتوب والمتفق عليه، يمكن أن يكلف أي مرشح حظوظه في المنصب أيا كان شكله أو حجمه، وقد يكلفه حياته كما في حال جون كيندي وإن لم يعلن ذلك ولن يعلن أبدا.

قبل الرحيل نتساءل هل كان باراك أوباما بدوره يزايد على غينغريتش عندما صرح مؤخرا بأنه أكثر من قدم خدمات لإسرائيل في العقود الأخيرة؟ فيما علامة الاستفهام الأهم والأرفع والأنفع لنا: «حتى متى حديث البكائيات العربية من جراء المقدرة الإسرائيلية والعجز العربي في الداخل الأميركي وبخاصة في زمن الانتخابات الرئاسية؟

إلى حديث ورؤية لاحقة بإذن الله.

* كاتب مصري