الآداب السلطانية والسياسة الشرعية

رضوان السيد

TT

تزداد الكتابة في الفكر السياسي الإسلامي كلما اقتضت الأحداث المتلاحقة ذلك. وعلى سبيل المثال؛ فإن الثورة الإيرانية عام 1979 دفعت كثيرين في الغرب لتفحص المسألة السياسية لدى الشيعة، والمسألة السياسية لدى المسلمين في العصور الوسطى بشكل عام. وبعد قيام الثورات العربية، وتقدم الإسلاميين في الانتخابات، نهض كُتّاب المقالات في الصحف وفي المجلات المعنية بالدراسات الإسلامية، لتحليل الظاهرة من جهة، ولقراءة علائق الدين بالدولة في الأزمنة الإسلامية الوسيطة، ولاستكشاف الكتابات في الفكر السياسي الإسلامي القديم، ومن ضمنها الآداب السلطانية أو مرايا الأمراء أو نصائح الملوك من جهة، وكتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية من جهة ثانية.

وكنت قد اهتممت منذ عام 1976 أثناء كتابتي لأطروحة الدكتوراه بالفكر السياسي الإسلامي والكتابات المختلفة فيه على مدى قرون متطاولة. وهكذا أقبلت بعد حصولي على الدكتوراه عام 1977 على نشر مخطوطات اعتبرتها مهمة في مجال قراءة التفكير السياسي في الإسلام، للإسهام في فهم التجربة السياسية الإسلامية، من خلال أنظار العلماء والكتّاب فيها، فقد تبين لي بالنظرة الأولى أنه لا يمكن كتابة تاريخ للفكر السياسي الإسلامي لضآلة المنشور فيه، فالذي كان الدارسون يعرفونه: «الأحكام السلطانية» للماوردي، والفصول السياسية في «مقدمة ابن خلدون»، و«السياسة الشرعية» لابن تيمية. وبالاطلاع على فهارس المخطوطات، تبين لي أن هناك نحو الثلاثمائة رسالة وكتاب تدخل في مجال الكتابة السياسية في الإسلام. وبالنظرة الأولى أيضا تبين أن ثلثي هذه الكتابات تدخل في باب الآداب السلطانية التي يعرفها الأوروبيون تحت اسم «مرايا الأمراء»، ويعرفها المسلمون تحت اسم «نصائح الملوك». وكان أول ما نشرت: «الأسد والغواص، حكاية رمزية عربية من القرن الخامس الهجري» (1978)، و«قوانين الوزارة وسياسة المُلك» للماوردي (1979). ثم نشرت: «الإشارة إلى أدب الإمارة» للمرادي (1981). و«الجوهر النفيس في سياسة الرئيس» لابن الحداد (1983). وخلال عمليات الاستكشاف والتحقيق، التي استرشدت فيها بأعمال لعبد الرحمن بدوي وإحسان عباس، لاحظت أن أدبيات «نصائح الملوك» لها ثلاثة أشكال أو صيغ: الحكاية السياسية على ألسنة الحيوانات، وهي تأتمُّ جميعا بـ«كليلة ودمنة» التي ترجمها ابن المقفع ( - 139هـ) إلى العربية عن الفارسية (وهي مترجمة بدورها عن الهندية في القرن السادس الميلادي). والشكل الثاني هو شكل الكتاب/ الدليل ذي الفصول: في المُلك، في العدل، في حُسن السياسة، في سياسات الملك مع رعايته، في الحيلة في الحرب.. إلخ. وأصل هذه الصيغة كتاب «سر الأسرار» المنحول والمنسوب إلى أرسطو، وقد ترجم فيما يبدو عن اليونانية في وقت مبكر يرقى إلى القرن الثاني الهجري في صدر العصر العباسي الأول، وربما أفادت هذه الصيغة أيضا من كتب الملوك (خداي نامه) المترجمة عن الفارسية. والشكل الثالث هو شكل الرسالة أو العهد من الملك لابنه أو من الفيلسوف والحكيم لتلميذه الأمير الشاب، وتنحو هذه الصيغة منحى «عهد أردشير» أول العهد المنسوب إليه، ومنحى «رسائل أرسطو إلى الإسكندر» وهي منحولة أيضا.

ومنذ تحقيقي لـ«قوانين الوزارة» للماوردي، و«الجوهر النفيس» لابن الحداد، و«الإشارة إلى أدب الإمارة» للمرادي، لاحظت فروقا بين «وزارة» الماوردي، من جهة، و«الإشارة» و«الجوهر»، من جهة ثانية؛ فالماوردي قسم كتابه إلى فصول مثلما قسم الآخران، وتتشابه عناوين الفصول أحيانا، كما أن المؤلفين الثلاثة يستشهدون بالقرآن والسنة وسِيَر الصحابة وأقوال الفرس والروم واليونان، لكن كتاب الماوردي يظل له هم آخر أو مختلف، فهو يؤسس كتابه على الشريعة والأخلاق الإسلامية من جهة، ويهتم بصلاحيات الوزارة، وعلاقة الوزير بالسلطان من جهة ثانية، وأسس السياسة العادلة من جهة ثالثة. أما مؤلفو كتب مرايا الأمراء أو نصائح الملوك أو الآداب السلطانية، فهم مهتمون بإرشاد الملك إلى الأسلوب السلمي في معالجة المشكلات لكي يدوم ملكه ويطول من جهة، ولكي تتمتع الرعية بالعدل والأمان من جهة ثانية. والطريف أن الماوردي ينفرد تقريبا بالكتابة في هذين النوعين: نصائح الملوك، والفقه الدستوري والإداري. فمن الأول عنده: «نصائح الملوك» له (ويعتقد الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد أنه ليس له)، و«أدب الدنيا والدين». ومن الثاني عنده: «الأحكام السلطانية والولايات الدينية»، و«قوانين الوزارة». ويختلط لديه النوعان في: «تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة المُلْك». إنما الذي ينبغي أن يقال هنا إن «قوانين الوزارة» على الرغم من أن الروح الديني يخترقه ويداخله، فهو مختلف إلى حد كبير عن «الأحكام السلطانية»، وهو أدخَلُ في نوع ثالث، إذا صح التعبير، هو النوع السياسي/ الإداري، مثل كتاب قدامة بن جعفر: «الخراج وصيغة الكتابة». فبالإضافة إلى هم إرشاد الأمير أو السلطان أو تعريفه بجهاز الدولة وترتيباته، هناك هم تعليم كاتب الديوان وإطلاعه على ما تجب عليه معرفته عن جهاز الدولة لكي ينجح في عمله.

لدينا إذن المؤلفات الإدارية/ السياسية، ولدينا نصائح الملوك، وهما يختلفان بسبب اختلاف الإشكالية التي يريد الكاتب علاجها أو إيضاح غوامضها. أما النوع الثالث، أي الأحكام السلطانية؛ فإنه يمتلك بدوره إشكالية مختلفة.. إنه يضع نظرية للنمط الإسلامي للدولة أو الخلافة، ويشبهه في ذلك ابن تيمية والآخرون الذين كتبوا في النظرية والدولة ومؤسساتها، مثل ابن جماعة في «تحرير الأحكام في تدبير أهل الأنام»، وقبله إمام الحرمين الجويني في «غياث الأمم في التياث الظُلَم». وبعد هؤلاء جميعا كل كتّاب السياسة الشرعية. وهؤلاء جميعا يهتمون بالشرعية Legitimacy، وهم يقيمونها على أصول الشريعة وما يسمونه السياسة العادلة وعلى التاريخ، متخذين من خلافة الراشدين مقياسا. ولدى هؤلاء هناك ركنان للشرعية: الشرعية التأسيسية، وشرعية المصالح. وقد كانت الشرعيتان متحققتين في حقبة الراشدين، ثم داخل الشرعية الثانية الاختلال حين انقلبت الخلافة مُلكا. ولذلك يدأب مؤلفو كتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية على جلاء النظرية بشأن الشرعية التأسيسية، وينصحون بكيفية استعادة الشرعية الناجمة عن الإيفاء بالمصالح، فتصبح «السياسة الشرعية» هي تلك التي عبر عنها ابن عقيل الحنبلي (نقلا عن ابن القيم) بأنها السياسة التي إذا اتبعت صار الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد. ومن الملاحظ أن الذين كتبوا في الفقه الدستوري، كانوا في البداية يعتبرون مؤسسة الخلافة هي الصيغة الإسلامية للدولة. وقد ناقش الجويني هذه المسألة ورد على الماوردي المعاصر له في ضرورة الالتزام بها، ورأى أن «الشرعية» التأسيسية متحققة ما كان الإسلام «محفوظا على أصوله المستقرة». وإنما تنبغي العناية بشرعية المصالح، وهذه المصالح الآن (في القرن الخامس الهجري) منوطة بالسلطنة (السلجوقية)، بعد أن ضعفت الخلافة. ولذا فإن كل الذين جاءوا بعد الجويني تقريبا ليتجاهلون الخلافة والخليفة ويركزون على السلطنة وسلطانها، وكيف تكون سياساتها شرعية.

هل هناك علاقة بين كتب السياسة الشرعية وكتب نصائح الملوك؟ لقد رأيت في دراسات سابقة أن التداخل حصل خصوصا بين كتب الإدارة السياسية وكتب نصائح الملوك، وكان العروي والجابري وتلميذهما كمال عبد اللطيف قد ذهبوا إلى أن كتب مرايا الأمراء هي التي أسست للاستبداد، لأنها لم تطرح سؤال «الشرعية»، واكتفت بالطلب من السلطة العدل، ومن الرعية الطاعة. والذي أراه أن الإشكاليتين مختلفتان بالفعل، وتكاد العلاقة تكون منعدمة، على الرغم من كثرة الاقتباس من جانب كتّاب السياسة الشرعية من دثائر الآداب السلطانية.

ويبقى هناك نوعان من الكتابة في السياسة في الثقافة الإسلامية الوسيطة: الكتابة الفلسفية، والكتابة الكلامية. أما الأولى ففي مثل «آراء أهل المدينة الفاضلة» للفارابي، و«السياسة المدنية» له أيضا، وفي مثل «جوامع السياسة» لابن رشد (وهي تعليق على جمهورية أفلاطون). وإشكالية هذا النوع من التفكير السياسي تحقيق السعادة، وأساسه يوناني كما هو واضح، ويأتم بعضه بأفلاطون، وبعضه الآخر بأرسطو. وهمه أو عمله على «أشكال الحكومات» أو أنظمة الحكم، وأيها الأكثر ملاءمة لتحقيق الهدف: السعادة لإنسان المدينة/ الدولة. والأشكال الرئيسية التي عالجها الفارابي والعامري وابن سينا وابن رشد في هذا السياق هي: الحكومة الملكية، وحكومة القلة (أوليغارشي)، وحكومة العامة أو الجمهور (الديمقراطية). ويبدو أن أرسطو يفضل الحكومة الملكية أو النظام الملكي، بينما يفضل أفلاطون نظاما رابعا هو نظام الحكيم/ الفيلسوف الذي يصنع المدينة الفاضلة. وقد ذكر الماوردي في «تسهيل النظر» ثلاثة أنظمة: دولة المال، ودولة السياسة، ودولة الدين أو الشرع. ويبدو أنه يعني بدولة المال النظام الأوليغارشي أو حكم القلة، وبدولة السياسة ما عرفه المسلمون من أنظمة الفرس والبيزنطيين واليونان، أما دولة الشرع عنده فهي دولة الخلافة.

ويبقى النوع الخامس من أنواع الكتابة السياسية في الإسلام، وهو ما سميته: دولة المتكلمين، فعلماء العقيدة أو علماء أصول الدين من السنة والشيعة، كتبوا كتبا أو عقدوا فصولا في كتبهم عن «الإمامة». والإمامة عند الشيعة الاثني عشرية والإسماعيلية من أصول الاعتقاد، أما السنة فهم يقولون في بداية الكلام عن الإمامة إنها ليست من التعبديات، بل من الاجتهاديات والمصلحيات، لكنهم ينصرفون للدفاع عن خلافة الراشدين بطريقة تشعر بالتقديس، منافحين في جدالاتهم عن الصحابة في وجه خصومهم العقديين، ولذا يعتبر كثير من الدارسين أن هذا اللون من ألوان الكتابة الكلامية، لا يعتبر تفكيرا سياسيا.