الواجب الأخلاقي من منظور مقارن

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

يعتبر كتاب «نقد العقل العملي» أحد ثلاثة أعمال في الأخلاق نشرها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في حياته، وهي تضم، إلى جانب هذا الكتاب، كلا من: «تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق»، و«ميتافيزيقيا الأخلاق» الذي يتضمن جزأين، هما: «علم الحق»، و«علم الفضيلة».

وفي هذه الكتب الثلاثة حاول كانط أن يقدم أجوبته الخاصة حول ثلاثة تساؤلات رئيسية هي: ماذا أستطيع أن أعرف؟ (نقد العقل المحض)، وماذا يجب عليَّ أن أفعل؟ (نقد العقل العملي)، وأي أمل أستطيع أن آمله؟! (الدين في حدود العقل فحسب). ثم سرعان ما أضاف إليها سؤالا رابعا ضمنه كتاب (المنطق)، ألا وهو: ما الإنسان؟! وإلى جانب هذه الأسئلة، بقي كانط معنيا بالإجابة عن تساؤل آخر، مفاده: «كيف تكون الأخلاق ممكنة؟»، أي كيف يكون تعيين محض للإرادة ممكنا؟ أو كيف يستطيع العقل أن يبرر القانون الأخلاقي ليكون قادرا على تعيين إرادة حرة خيرة؟! وقد انتهى كانط إلى جعل فكرة «الواجب» محورا لدراساته الأخلاقية، فأحله محل مفهوم «الخير»، وجعل من القانون الأخلاقي قانون العقل نفسه.

على أن كلمة «الواجب» هذه ليست بالاصطلاح الفلسفي الذي يستغلق فهمه على أذهاننا؛ فإننا نتحدث في الحياة العادية عن واجبات الآباء نحو أبنائهم، وواجبات الأبناء نحو آبائهم، وواجبات الحاكم نحو المحكومين، وواجبات المواطنين نحو أوطانهم... إلخ.

والحال أنه عندما يأمرنا الضمير بفعل ما نتصوره خيرا أو اجتناب ما نراه شرا؛ فإننا نشعر أننا مأخوذون بطاعته، وأن الأمر الذي يمليه علينا لهو «تكليف إلزامي» ليس من حقنا أن نناقشه، أو نتهاون في الاستجابة له.

فنحن في هذه الحالة بإزاء «أمر أخلاقي» لا يحتمل قيدا ولا شرطا؛ نظرا لأنه ضرورة تفرضها علينا طبيعتنا الإنسانية، بوصفنا كائنات حرة عاقلة. وإذا كنا كثيرا ما نستجيب في تصرفاتنا لمثل هذه الضرورة؛ فذلك لأننا نشعر أن احترامنا لأوامر الضمير هو احترام لأنفسنا، بوصفنا موجودات ناطقة.

يترتب على ما سبق إذن أننا لا نستطيع أن نفهم معنى الواجب إلا إذا فهمنا، في الوقت نفسه، أن ثمة طبيعة داخلية تناوئ إرادتنا الخيرة وتناصبها العداء، وأن السلوك الخير هو انتصار للإرادة الخيرة على هذه الطبيعة الباطنة، بما تنطوي عليه من ميول وعواطف وأهواء.

وبحسب كانط، فإن الإنسان ليس مجرد حيوان يسعى نحو إشباع ميوله وحاجاته من أجل المحافظة على بقائه، بل هو أيضا «كائن أخلاقي» يحاول توجيه سلوكه والعمل بمقتضى هذا الواجب.

ومن هنا، فإنه كثيرا ما ينشب في باطن النفس البشرية صراع حاد بين الواجب والهوى، أو بين العقل والشهوة. وهنالك يتحقق الإنسان من أن الفضيلة والسعادة لا تسيران دائما جنبا إلى جنب! لكن بمجرد ما يعمل الإنسان بمقتضى «الواجب»؛ فإنه سرعان ما يتحقق من أن فعله هذا يصلح لأن يكون قانونا كليا شاملا يلتزمه الجميع.

عند هذا الحد، تتداخل عناصر ثلاثة في صناعة «الواجب» بحسب كانط؛ ألا وهي: الضمير، والاحترام، والقانون. ولذاك نجده يعرف الواجب بأنه عبارة عن «ضرورة تحقيق الفعل احتراما للقانون».

وليس من شك في أنه لكي يحترم الإنسان القانون، فإنه لا بد من أن يكون على علم به؛ أعني أنه لا مناص من أن يكون لديه «تصور عقلي» ما لهذا القانون. بكلمة أخرى؛ في حين أن سائر الكائنات الأخرى «تخضع» للقانون، نجد أن الإنسان وحده هو الكائن الناطق الذي «يتعقل» القانون.

أما الاحترام، فإنه العاطفة الوحيدة التي تتولد في نفوسنا نتيجة شعورنا بالقانون الأخلاقي؛ إذ سرعان ما ندرك أن الأخلاق تضعنا في مستوى أعلى بكثير من مستوى «الطبيعة».

وعلى ذلك، فليس الاحترام باعثا مضافا إلى الشعور بالإلزام، بل هو صميم الواجب بوصفه ناشئا من طبيعة «العقل العملي» نفسه. وبما يعنى أن الواجب لا يقوم على العاطفة أو الوجدان، كما يذهب روسو، وإنما يقوم على احترام – أو بالأحرى تعقل - «القانون الأخلاقي».

ففي حين أن روسو قد جعل من العاطفة أو الشعور بالاحترام مصدرا للقاعدة الأخلاقية، يجعل كانط القاعدة الأخلاقية أسبق من الاحترام، مؤكدا أن تصورنا للقانون الأخلاقي هو مصدر هذا الشعور.

كما نراه يفرق بين نوعين من الأوامر: أوامر شرطية مقيدة، كأن أقول: «إذا أردت أن تتمتع بصحة جيدة فعليك بالاعتدال»، وأوامر قطعية مطلقة كأن أقول: «كن معتدلا»، أو «كن مجدا مثابرا».

في السياق ذاته، يفهم كانط طبيعة الواجب بوصفه إلزاما أخلاقيا يصدر عن العقل، ويربطه بشرطين أساسيين، أولهما: وجود الحرية، وثانيهما: ازدواج الطبيعة البشرية، أي النظرة الثنائية إلى الإنسان.

ففيما يتعلق بالحرية الأخلاقية، نلاحظ أن الأخلاق لا تفرض على الشخص البشري بطريقة ضرورية حتمية، بل هي تتمثل له دائما على صورة «قواعد» يتوقف عليه هو تقبلها وتنفيذها.

ولهذا آثر بعض فلاسفة الأخلاق استعمال لفظ «القاعدة الأخلاقية» بدلا من «القانون الأخلاقي»؛ لأن القاعدة (بعكس القانون) يمكن أن تكون موضعا للقبول أو الرفض، وليست «الحرية» سوى تلك القدرة الموجودة لدينا على قبول القاعدة الأخلاقية أو رفضها.

على أننا لو شئنا أن نستخدم تعبيرا فلسفيا لبيان الصلة بين «الإلزام الخلقي» من جهة و«الشعور بالحرية» من جهة أخرى، لكان في وسعنا أن نقول: إن دعامة الواجب هي الإرادة الحرة التي تشرع لنفسها، وتقيد سلوكها بنفسها.

فليس القانون الأخلاقي سلطة خارجية، يخضع لها الإنسان كما تخضع الكائنات الحية للضرورة الطبيعية، وإنما هو قانون عقلي باطن في صميم الإرادة البشرية، بحيث إن الإنسان ليبدو في مملكة الأخلاق بمثابة حاكم ومحكوم في الوقت نفسه. وبكلمة واحدة: إن الواجب إلزام نفرضه على أنفسنا بمحض إرادتنا، ما دمنا أحرارا.

أما فيما يتعلق بازدواج الطبيعة البشرية؛ فإن الإنسان ليشعر بأن طبيعته مزدوجة، منقسمة على ذاتها، ويجد نفسه مضطرا إلى أن يخاطب ميوله وقدراته بلهجة الأمر الذي يريد توجيهها أو التحكم فيها، أو السيطرة عليها. ولعل هذا هو ما عناه بسكال حين قال: إن الإنسان ليس ملاكا ولا حيوانا، ومن سوء الحظ أنه حين يريد أن يجعل من نفسه ملاكا، فإنه قد يتصرف تصرف الحيوان! وهنا يلتقي كانط بالفكرة القائلة إن الضمير الإنساني لا يستطيع أن يحيا إلا على تلك المتناقضات الحية التي يجد نفسه ملزما دائما بمواجهتها. ولئن كان هذا الصراع الباطني هو الذي يشقي الضمير ويضنيه، فإنه هو الذي يغذيه ويقويه في آن معا.

ويبقى القول إن فكرة «الإلزام الخلقي»، كما عبر عنها كانط، قد قوبلت بحملة نقد لاذعة من قبل فريدريك شيلر الذي اتهمها «بصلابة تفرغ منها جميع العواطف الرقيقة، وبما قد يغري ضعاف الفهم في سهولة على أن يبحثوا عن الكمال الأخلاقي في زهد الرهبان»!! وبحسب شيلر أيضا، فإن كانط يطلب منا احتقار باقي البشر لكي تكتسب مساعداتنا لهم قيمة أخلاقية!! وكما هو ملاحظ، فإنه يسهل جدا الوقوع في خطأ سوء فهم الأخلاق الكانطية من قبل من يتهمونه بالقسوة، وحتى بلا إنسانية الأخلاق عنده، أو بصرامته الآتية عن تزمت ديني أو تربية تقوية، لكن الخطأ يحدث عندما يستبدل بنقاء النية النية المقدسة، وباستقلالية العقل إلغاء الدافع الحسي، فهذا الإلغاء هو حالة مثالية لا يستطيع كائن مخلوق أن يصل إلى هذا الحد من تحقيقها، فكونه مخلوقا، وبالتالي كونه خاضعا دائما لما تقتضيه مرضاته التامة بوضعه، فإنه ملزم دوما بتأسيس النية الأخلاقية لمسلماته على الإكراه الأخلاقي.

أما كانط، فقد خاطب «الواجب» في كتابه «نقد العقل العملي» بالقول: «أيها الواجب، ما أجل لفظك، وما أرفع اسمك. حقا إنك لا تثير لدينا أي شعور ملائم، كما أنك قلما تغرينا وتأسر لُبنا، لكنك مع ذلك تأمرنا من علياء سمائك بأن نخضع لك، ونستمع لندائك، دون أن نستعين، من أجل تحريد إرادتنا، بأي تهديدات تستثير في نفوسنا الشعور الطبيعي بالخوف أو الفزع.

أيها الواجب، ما أجمل منبتك، وما أسمى المصدر الذي تنبع منه! ولكن، أنى لنا أن نهتدي إلى تلك الجذور العميقة التي ينبثق منها فرعك الأصيل، وما من نسب يجمع بين تلك الأصول السامية، وبين ميولنا الطبيعية المبتذلة؟! أليس علو منزلتك، وسمو أصلك، هو الذي يجعل الناس ينسبون إلى أنفسهم قيمة عظمى؟ فلنقل إذن إنك تنبع من مصدر علوي، يسمو بالإنسان فوق نفسه (من حيث هو جزء من العالم الحسي). ولنقرر بكل صراحة أنك أنت الذي تربط الإنسان بنظام عقلي محض يخضع له كل ما في العالم الحسي، بما في ذلك الوجود التجريبي للإنسان في الزمان، وشتى الغايات العملية التي تتحقق في دائرة التجربة».

وفي المحصلة، يمكن القول: على الرغم من أن أخلاق الواجب – على نحو ما عبر عنها كانط وخلفاؤه - هي في جوهرها تعبير عن منظومة أخلاق متشددة قد لا تخلو من تزمت، لكنها في الوقت نفسه أخلاق إنسانية، لا تريد أن تخفي عنا ما في الواجب من صعوبة أو عسر.

* كاتب مصري