عمر الأرض ست وأربعون سنة

موئل يوسف السامرائي

TT

لا أدري لم تزدحم في ذهني خواطر الحضارات كلما سافرت.. لعل ازدحام الوجوه التي أراها تمر بي وأنا أعدو على أحزمة السير في المطارات هو السبب. فكل وجه يمر بي أرى في قسماته تضاريس الأرض التي ولدته والحضارة التي أنجبته. لكن وجوهنا جميعا تتشابه رغم اختلافها في كوننا بشر نمشي في مناكب الأرض طلبا للرزق وبحثا عن الحياة. ومشكلة الأرض هي من أهم مشاكلنا اليوم نحن أمة البشر. فمما لا شك فيه أننا فشلنا فشلا ذريعا في حماية بيئة الأرض التي جعلنا الخالق مستخلفين عليها «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ» (الأنعام 165).

ويعتقد العلماء الماديون أن أرضنا تبلغ من العمر ستة وأربعين ألف مليون سنة من العمر، إلا أن بداية المشاكل البيئية التي لا تحصى والتي تهدد كل صور الحياة على وجه البسيطة اليوم لا يزيد عمرها على بضع مئات من السنين، وأكثرها لم ينشأ إلا في العقود الأخيرة من الزمن بسبب الإنسان، أي في فترة قصيرة جدا من عمر الأرض. ولكي يسهل تصور حجم المشكلة البيئية التي سببها الإنسان لنتصور أن عمر الأرض هو ليس ستة وأربعين ألف مليون سنة، بل لنتصورها مخلوقا عمره ست وأربعون سنة فقط، ولنتأمل حياة هذا المخلوق.. حينها سوف تبهرنا الحقائق التالية:

• نحن لا نعرف شيئا عن السنين العشر الأولى من حياة ذلك المخلوق.

• لا نعرف إلا القليل جدا عن السنوات الثلاثين التي تعقبها.

• لا نعرف إلا أن الأرض كانت تبلغ من العمر اثنتين وأربعين سنة قبل أن تظهر النباتات الأولى وقبل أن تظهر المخلوقات التي يسميها الإنسان باسم الحيوانات.

• ظهرت الديناصورات منذ سنتين فقط. والأرض لا يزيد عمرها على أربع وأربعين سنة. أما الثدييات والطيور فلم تظهر على وجه الأرض إلا منذ شهور ثمانية.

• في بداية الأسبوع الماضي ظهر الإنسان.

• في نهاية الأسبوع اختنقت الأرض بآخر عصر جليدي.

• أما ما يسمى بالإنسان الحديث فلم يمض على وجوده سوى أربع ساعات. في الأصل فإن هذا المخلوق الغريب كان يعيش على الصيد لكنه أتقن خلال الساعة الأخيرة كيف يزرع ويستقر في بيوت دائمة تقيه حر الصيف وبأس الشتاء. وتعلم بما أودعه الله من قدرات فائقة كيفية صنع الأشياء والتعامل مع بيئته.

• ما يسمى بالثورة الصناعية بدأ منذ دقيقة واحدة فقط. لكن خلال تلك الثواني القليلة من الزمن استطاع الإنسان بطريقة منظمة أن يدمر الأرض التي يعيش عليها كما قال تعالى «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» (الروم: 41).

• كثر الإنسان نسله وأعداده بآلاف الملايين، وهتك الأرض وما عليها، ولم يرع حرمة الأمانة التي أعطاه الله إياها، وصنع صناعة دمرت الأخضر واليابس.

• خلال الدقيقة الماضية من السنوات الست والأربعين من عمر الأرض استطاع هذا المخلوق الذي لم تر الأرض مثله في الذكاء والقدرة على الإبداع أن يغير وجه الأرض من القطب إلى القطب، وكان هو المتسبب في انقراض المئات من المخلوقات الأخرى التي ائتمنه الله عليها، وكان هو المتسبب في انفجارات نووية مدمرة لوثت وجه الأرض بسمومها وأضرارها التي لا تنتهي.

• ولم ينتبه الإنسان إلى فداحة ما فعله إلا في الثواني الأخيرة من عمره، فهل أوان الإصلاح قد فات عليه؟

في الحقيقة إن كل المؤشرات والدراسات العلمية تشير إلى أن مشكلة الأرض ومن عليها بحاجة إلى منهج حياة جديد، لأنها بدأت من قلق الإنسان وطمعه ورغبته في نيل المزيد من أسباب الحياة والبقاء. إنها لمشكلة قد صنعها الإنسان لنفسه حين اختار أن يجعل الاقتصاد المادي ونظرياته مرتكزا يبني عليه حياته. إن الكارثة البيئية هي كارثة اقتصادية نبعت من المنهج المادي الذي لم يتوقف عند حد بل تجاوز الحاجات إلى ترف لم يعرفه تاريخ الإنسان من قبل. وفي بحثه عن السعادة خلق معاني اقتصادية وغير اقتصادية كلها مبنية على الوهم وعلى فرضيات يدفع الآن ثمنها بدمار اقتصاده وبيئته. ومن بين نتائج هذه الأوهام تدميره للأرض التي يحسبها جهلا أنها سخرت له فقط، في حين أن الله لم يقل إنه سخرها للإنسان فقط بل لكل مخلوق خلقه على الأرض. ومما زاد من كارثة تدمير الإنسان للبيئة أنه لم يجد لنفسه ندا على وجه الأرض ينافسه على موارد الحياة، فأخذ يدمرها كالطفل الصغير الذي يلهو بلعبته. فما هو السبيل الذي إذا أخذ به يمكنه من تخطي الكارثة التي تصيب البشر أو تحل قريبا من دارهم؟

اليوم كل الأديان تدعي أن دينها يحمي البيئة، وتقدم مبررات لما تقول، لكن النظرية الإسلامية البيئية تبقى سباقة لغيرها من النظريات لسبب بسيط جدا.. أن حماية البيئة في الإسلام لم تأت كرد فعل للمشكلة البيئية التي نعاني منها اليوم، بل إن نظريتها وتطبيقها يمثلان مفصلا لا ينفصل عن الإسلام كدين ومنهج وجود كامل. فنحن نجد التعليمات البيئية مبنية في التركيبة الإسلامية العقدية والفقهية ابتداء من النصوص التي لا تعد ولا تحصى في بيان أهمية البر والبحر والهواء وعناصر البيئة، وانتهاء بالدعوة إلى عدم الإسراف في استغلال موارد البيئة في كل أمور الحياة كالاقتصاد في الماء عند الوضوء والشراكة فيه وفي الكلأ والنار، وهذه كلها معان ورموز يمكن إسقاطها بسهولة على واقع الحياة.

والإسلام حين ينظر إليه بعين بيئية نجد فيه معاني يندر وجودها في منظور واحد للحياة، حيث نجد السلم الذي تحتاج إليه المخلوقات من أجل البقاء والتوازن الذي يقوم عليه نظام الحياة. وكلمة التوحيد هي المفصل الرئيسي في النظرية الإسلامية، وهي في حقيقتها تصريح يعلن أن الألوهية والانقياد لله وحده لا شريك له، وهي التعبير الأول عن الدين الذي يهدف إلى خلق مجتمع وسط يجمع ما بين الدين والحضارة والروح وحاجات التراب ويعطي كل ذي حق حقه في الوجود والبقاء. يضم لفظ التوحيد تحت سطحه مساحات ومعاني واسعة تحوي أشكالا متعددة لإيمان من نوع فريد يقدم للإنسان أسسا منها تنطلق مناهج الحياة العملية بطريقة فعالة تساعد على تقديم حياة أفضل لا للإنسان فحسب بل لكل من في السماوات والأرض ممن يسبح لله ويسجد له وإن لم يفقه الإنسان سجودهم وتسبيحهم «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»‏ (الإسراء‏: 44). ومسلمو اليوم قد عقدوا الكثير من المؤتمرات التي تبين وجهة نظر الإسلام من البيئة، مثل مؤتمر جدة وغيره من المؤتمرات المباركة، إلا أنهم لا يزالون بحاجة إلى وسيلة لتحويل النظرية إلى تطبيق. فهناك حاجة إلى إيجاد سياسات بيئية لتثقيف الناس وإشعارهم بأهمية الأمر وبكونه جزءا مهما من الدين وليس مجرد ترف يمارسه الإنسان حين يريد.

* أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة ويلز - لامبيتر - المملكة المتحدة