القانون بوصفه ضابطا أخلاقيا

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

إذا كان الصدق، على سبيل المثال، قانونا أخلاقيا تُلزمنا به طبيعتنا العقلية؛ فإنه في الوقت نفسه يعد قانونا كليا عاما ينبغي أن يسير عليه كل كائن حي!! ربما يبدو كلاما كهذا معقولا للوهلة الأولى، لكن قائله لا يستطيع أن يُنكر إمكانية أنني قد أتصرَّفُ وَفْقا للقانون من دون أن تتصف أفعالي بأي طابع أخلاقي! فقد أقول الصدق إشباعا لرغبةٍ، أو طمعا في مصلحةٍ، أو جلبا لمنفعةٍ، كما أنني قد أمتنعُ عن السرقة، خوفا من العقوبةِ، أو خشيةَ تأنيب الضمير، أو خضوعا لقوةِ الرأي العام ليس إلا، أو حتى لتعاطفي مع الأشخاص المساكين الذين تُنتزَعُ منهم ملكياتهم، وتُسْلبُ حقوقهُم.. إلخ.

وفي الحالات السابقة كلها؛ لا يعد الصدق «فعلا أخلاقيا» بحسب ما يؤكد كانط، كما لا يعد الامتناعُ عن السرقة «سلوكا خلقيا» بمعنى الكلمة أيضا. أما إذا قلتُ: إنَّ واجبي يحتمُ علي بأن أقول الحق، فأنا لن أكذب احتراما للواجب، أو إذا قلتُ إنَّ واجبي يقضي علي بأن لا أسرق، فأنا لن أسرق احتراما للقانونِ الأخلاقيِّ، فإنَّ فعلي هذا سيكون عندئذٍ «فعلا أخلاقيا» بكلِّ ما للكلمة من معنى!! ليس غريبا إذن، والحال هذه، أنْ يؤكد البعض حقيقة أنَّ الصِبْغةَ الأخلاقية للأفعال لا تتمثلُ في مظاهرها الخارجيةِ فحسب؛ وإنما تكمُنُ في باطن «النيَّة»، أو في صميم الطريقةِ التي بها نُريدُ هذا الفعل أو ذاك: «إنَّما الأعْمَالُ بالنيَّات؛ وإنَّما لكلّ امرئٍ ما نوى». وبحسبهم أيضا؛ فليس يكفي لكي يكونَ الفعلُ «أخلاقيًّا» أنْ تتفِقَ نتائجُه مع ما يقتضيهِ «الواجِب»، بل يجبُ أن يكون صادرًا عن تقدير عقلي لمبدأ «الواجب» ذاته.

ولا شك أنَّ الحديثَ عن القانون، وفقا لهذا المنحى، يجرُّنا لا محالة إلى الحديث عن النظريات المتعلقة بـ«مصدر الإلزام الخلقيّ»؛ حيث نصادف ضمن هذا السياق اتجاهين رئيسيين: أولهما، اتجاهُ «العقليينَ» الذين يرُدُّونَ الإلزامَ إلى «قوةٍ باطنيةٍ»، وثانيهما: اتجاهُ «التجريبيينَ» الذين يردونهُ إلى «سلطة خارجية».

ومن المعلوم، أنَّ المسؤولية تنقسِمُ بدورها إلى قسمين: مسؤوليةٌ قانونيةٌ أو خارجيَّة، ومسؤوليةٌ أخلاقيّةٌ أو داخلية. والنوع الأول ينصبُّ على أفعالِنا الخارجيّة، ويضَعُ في المحلِّ الأوَّلِ من اعتبارهِ «جِسْمَ الجريمةِ»، أو «وَاقِعةَ المُخالَفَةِ»، لا نيَّةَ المُجْرم أو قصْدَ المُخَالِف. كما أنَّ المسؤوليَّةَ القانونية تتكون من نوعين: مسؤولية «مدنيَّة» تقْضِي بإلزام المخالفِ بالتعويض عن الضرر الذي ألحَقَهُ بالآخرين في حالاتٍ خاصةٍ، وظروفٍ مُعينةٍ يُحدّدُها القانون، ومسؤولية جنائية تقضي بإلزام الفردِ بتحمُّلِ العواقبِ النَّاجِمَةِ عن خَرْقِهِ للنِّظام، أو تعدِّيهِ على حُقوق الآخرين.

لكن، بالإضافةِ إلى ما سبق، ثمَّةَ مسؤوليةٌ أخرى لا يُنَظِمُها القانونُ ولا تُنَفِذُها المَحاكم، وتلك هي «المسؤوليةُ الاجتماعيةُ» التي تُعَرِّضُ صاحِبَها لحكم الجمهور، إنْ بالاستحْسَان أو بالاسْتِهْجان!! فالرأي العام هو المحكمةُ اليوميةُ التي تُصْدِرُ أحكامَهَا على أفعالِنا الخارجية. أمَّا النَّوعُ الثاني من المسؤولية، وهو المسؤوليةُ الأخلاقيَّةُ أو الداخلية، فإنهُ يُعبِّرُ عن إحساسِ الفردِ بنتائج أفعالِهِ الحُرَّة، ومُحاسَبَتِهِ لنفسهِ بطريقةٍ ذاتيةٍ استبطانية.

وهكذا يذهب أصحابُ الاتجاه العقلي إلى التأكيد بأنَّ دعامة الأخلاق سُلطةٌ باطنيةٌ هي «العقل» الذي يحكُم على الخير والشر، فيأمُرنا بفعل الخير، وينهانا عن فعل الشر! وبحسبهم أيضا؛ فإنَّ فكرة «الإلزام» ليْسَت شيئا آخر سوى فكرةِ «القيمةِ المُطلقةِ للحقيقة»؛ كما أنَّ الشعورَ بالواجب ليس إلا مُجردَ شعورٍ بضرورةٍ عقليةٍ، مع الشعور في الوقت نفسهِ باستحالةِ ضِدِّهَا. ومعنى ذلك، أنَّ الواجبَ هو مُجرد آمر مُطلق يُلزمنا بإطاعةِ القاعدةِ لأنَّها القاعدة، لا أكثر ولا أقل! وتبعا لذلك؛ لا يُعلِقُ أصحابُ هذا الاتجاه كبيرَ أهميةٍ على سِحْر اللذةِ أو جاذبيةِ الخير؛ وإنما يُهيبون دائما بالعقل، والإرادةِ، والجهدِ، والصراع! فالأخلاقُ في نظرهم، تسْتلزمُ ضغطا تمارسه الذات على نفسها، وانتصارًا تُحقِقُهُ الإرادةُ على الطبيعةِ، وتضحية بشتَّى مظاهر الإشباع الدَنِيءِ للغرائز في سبيل الخضوع لأوَامِر العقل، لمُجرد أنهُ العقل! وبالتالي؛ فلا قيمةَ عندهم لأيةِ عاطفةِ أو أي وجدانٍ من الناحية الأخلاقية، ما دامَ مُنفصلا عن الإلزام الخُلُقي، أو ما دامَ خارجا عن نِطاقِ طاعةِ الأوامر المُطلقةِ القطعية.

وإذا كان كانط وأنصاره قد جعلوا من «الواجب» اللحظةَ الحاسِمةَ في الحياة الخُلقية، فذلك لأنهم وجدوا فيه أمارة على ما يَدعونه «الانسجام الدَّاخِليّ»، أو «التنظيم الباطنيّ». وما دامَ العقلُ دعامةَ الإلزام الخلقيِّ؛ فإنهُ يُعدُّ بمثابةِ «القانون الكلي الباطن في أعماقِ النفس البشرية»، بوصفها قوةً ناطقةً تحكُمُ نفسها بنفسها.

يتحصَّلُ مما سبق؛ أنَّ الأخلاق تنبُعُ من مصدرٍ باطنيِّ، هو هذا القانون الكلي الشامل الذي تخضَعُ له الطبيعةُ البشرية في كل زمانٍ ومكان، وأنَّ الحياةَ الإنسانية في جوهرها ليست سوى صراعٍ مستمر، أو جهادٍ دائبٍ، كما أنَّ الواجبَ في صميمِهِ ليس إلا الأداةَ التي نسْتَخْدِمُها في هذا الصراع، فيما يُعرفُ بجهادِ النفس.

أما أنصارُ الاتجاه التجريبيّ؛ فيذهبون إلى ضرورةِ تفسير «الواجب» بالالتجاءِ إلى عامِلٍ خارجيٍّ، أو سلطةٍ خارجية، تعدُو الفاعلَ الأخلاقِي نفسهُ. وسواءٌ أكان الفلاسفةُ التجريبيون علماءَ تَطوُّرٍ أم علماء اجتماعٍ، فإنهُم في كلتا الحالتين يفسرون ترقّي المفاهيم الخلقية بالرُجوعِ إلى المصادر الأولية، أو الأصولِ البدائيةِ التي صدرت عنها.

ومعنى ذلك أنَّ الإلزام الخلقي لا يَفرضُه عقلٌ ولا يضعُه ضميرٌ؛ وإنما ينشأ من صميم الحيَّاةِ الاجتماعيةِ للبشر، نتيجةً لتجربتهم التي تهديهم إلى نوعِ السُلوكِ النافع، ونوع السلوكِ الضَّار، فلا يجدون بُدا من التمسُّكِ بالنوع الأول، وتحاشي النوع الثاني. ولكن على حين يقتَصِرُ أنصارُ مذهب «التطوُّر» على القول بأنَّ ضرورةَ التكيُّف مع الحياةِ هي التي خلقتْ «الإلزامَ الخُلُقي»، يقررُ أنصارُ المدرسة «الاجتماعيةِ» أنَّ الشعورَ بالإلزام هو وليدُ الضَّغْطِ الذي تُمارسُه الجَماعةُ على الفرد!! وبحسب دوركايم؛ فإنَّ القاعدةَ الأخلاقية تشْتمِلُ على عُنصرينِ ضرورييْن يدخلان في صميم تكوينها؛ ألا وهما: عُنصر الإلزام أو الأمر، وعُنصر الخير أو الترغيب! فالقاعدة الأخلاقية أولا مُلزِمة تُخاطبنا بلهجة الأمر، لأنَّها تصدُرُ عن سُلطةٍ عليا لا بُدَّ من أن يدينَ لها الفردُ بالولاء، وتلك هي «سُلطةُ الضمير الجَمَاعي». والقاعدةُ الأخلاقية، ثانيا، قاعدةٌ مُرَغِّبةٌ تُلّوِّحُ لنا بشيءِ مُحَبَبٍّ إلى نُفوسِنا، فتَدْفَعُنَا إلى العمل على تحقيق ما فيه السعادة والخير.

وبناء عليه؛ لا تتصفُ الغاياتُ الأخلاقيةُ بطابع الجبر أو الإلزام فحسْب؛ وإنما تتصفُ أيضا بطابع الترغيب أو الخير! وهكذا يخلص دوركايم إلى القول بأنَّ «المجتمع» هو همزَةُ الوَصْل، أو حلقةُ الاتصال ما بين مفهوم «الواجب» من جهة، ومفهوم «الخير» من جهة أخرى.

وإذا كان الفلاسفة قد ربطوا مفهوم «الخير» بمفاهيم متعددة كاللذة، أو السعادة، أو المنفعة العامة، أو الإيثار، فإنَّ دُعاة المدرسة الاجتماعية يربطونهُ بسلطةٍ أخلاقيَّةٍ واقعيَّةٍ يُطلقونَ عليها اسم «المُجتمع»؛ فالخيرُ هو ما يأمُرُنا به «العقلُ الجَمْعِيُّ»، والشرُّ هو ما يُحَرمُه علينا هذا العقل.

على أنَّ «المجتمع» ليس مجرد رقعةٍ من الأرض نعيشُ فيها، أو جسما عضويا يقوم بأداءِ بعض الوظائفِ الحيويَّةِ، بل هو مجموعةٌ من المُثُل العُليا المُشتركةِ التي يحيا عليها أهلُ تُراثٍ حضاري واحد. ومعنى ذلك، أنهُ لا أخلاقَ من دون مجتمع؛ لأنَّ المُجتمع هو الذي يُحدد لنا الخير والشر، وهو الذي يُلزمنا بأداءِ بعض الأفعال والامتناع عن غيرها، وهو الذي يجعلُ لنشاطِنا الخُلُقي غايةً أو غاياتٍ مُحددة!! يترتب على ما سبق؛ أنَّ الحياةَ الخلقية تبدأ حيث يقومُ التعلُّق بالجماعةِ، كائنا ما كان نوعُها، يسْتوي في ذلك أن تكونَ بسيطةً أو مُعقدة، ضيقة أو واسعة. وليس أدل على ارتباط هذه الأنظمةِ الأخلاقيةِ بطبيعةِ كلّ مُجتمعٍ ونوعِ تنظيمِهِ الاجتماعي من أنَّ كلَّ تغيُّرٍ يَطرأُ على هذا النّظام العام لا بُدّ من أن يسْتَتبعهُ حتما تغيُّرٌ مُماثلٌ في تلك الأنظمة، وبما يعني أنَّ قيامَ أي نظام أخلاقي آخر في هذا المجتمع، ليس مُجردَ ضرْبٍ من المستحيلِ فحسْب، وإنما هو أيضا موتٌ مُحقّقٌ لهذا المجتمع إنْ هو حاولَ مُمارسةَ ما يقضي به مثلُ هذا النظام بالفعل! وهكذا يخلُصُ أهلُ «المدرسةِ الاجتماعية» إلى القول بأنهُ لا يمكنُ فهمُ الخير أو الشر إلا في نطاق الحياةِ الاجتماعية، لأنه لا أخلاق من دون مجتمع. بيدَ أنَّ ربط مفهومي «الخير والشر» بمفهوم «المجتمع» قد يكونُ من شأنهِ الانحدارُ بالأخلاق إلى مُستوى المُوَاضعَاتِ الاجتماعيةِ، والعاداتِ الشكليةِ، والأساليب الآليةِ المُبتذلة! ومعنى هذا، أنَّ النُّظُمَ الاجتماعيةَ قد تُحِيْلُ أسْمَى ما في الأخلاقِ الشخصيّةِ إلى اعتباراتٍ شكليةٍ وضعيةٍ زائفة! وفضلا عن ذلك، فإننا حينما نُكررُ على مسامع الفرد أنَّهُ صنيعةُ المُجتمع، وأنَّ ما يُكوّنُ صميمَ شخصيتهِ إنما هي تلكَ التأثيراتُ التي فرضَتْهَا عليه الجَمَاعَةُ، فإننا قد نُضْعِفُ في نفسهِ الشعورَ بالحُريَّةِ والمسؤوليةِ، وقد نبعَثُ في قلبِهِ روحَ التواكل والمُسايَرة والاتِّبَاعِ، بدلا من أنْ نَحْفِزَهُ إلى الابتكار والإنتاج والإبداع.. وتلك قضية أخرى!!

* كاتب مصري