قريتنا الصغيرة

موئل عز الدين السامرائي

TT

كان يوما عاصفا والريح فيه تمضغ معطف قريتنا الصغيرة في ويلز، وكان علي أن أشتري للصغار الطعام قبل حلول إجازة الكريسماس التي تغلق فيها الأسواق. وعندما انتهيت من التسوق طلبت مني البائعة 5 قروش عن كل كيس فارغ. وثارت حفيظتي العربية، وقلت لها بحدة: ولكن الأكياس عادة تعطى بالمجان. فابتسمت وقالت: إنها تعليمات برلمان المنطقة.. حينها تذكرت القرار البيئي الذي سنه برلمان ويلز، والذي يمنع أن تعطى أكياس التبضع بالمجان لغرض التقليل من استخدام الأكياس البلاستيكية التي يعتقد أن إنتاجها واستخدامها يشاركان في دمار طبقة الأوزون. وقررت أن لا أشتري أكياسا، ووضعت كل ما اشتريت في عربة التبضع.. ولكن نصفه طيرته الريح وأنا أنقله إلى سيارتي، فقلت في نفسي: سقطت ضحية للتطرف البيئي! والتطرف البيئي هو مصطلح ظهر حديثا، ويعني الحماية البيئية المبالغ فيها، وإن انعدمت دواعيها. والحقيقة أن قرار البرلمان هو قرار صائب.. ولكنه ذنب الريح التي أفقدتني القدرة على «الموازنة بين المصالح» التي كثيرا ما تحدثت عنها في دروس «الإسلام المعاصر والغرب».

وقاعدة الموازنة بين المصالح يمكن أن تكون فيصلا مهما بين ما يسمى اليوم بالتطرف البيئي والدمار البيئي الذي تحدثه صناعة لا يهمها سوى الكسب التجاري، حتى وإن صرعت الحياة تحت عجلاتها الصماء.

ومن الحالات التي تنتهي معها أهمية الحماية البيئية أن تتوفر أعداد الحيوانات المنقرضة بأعداد كبيرة مرة أخرى، فحينها يعود ميزان المصلحة لترجيح الحاجات الأخرى على حماية الحيوانات التي لم تعد مهددة بالانقراض، وذلك مع ملاحظة أن لا تظلم مخلوقات الله التي اؤتمن الإنسان عليها. وفي قواعد الأحكام يقدم لنا العز بن عبد السلام ضابطا مهما في التعامل مع المصالح والمفاسد عند التوازي والتساوي في الترجيح، فيخبرنا أن المصالح إذا تعارضت فإن الأهم يجب رعايته، مع اشتراط تجنب الضرر، مع مراعاة الحذر الشديد في تحديدهما كي لا يؤدي التطبيق إلى ما هو أضر.

وحين يكون الضرر والنفع بنفس الحجم فيرجح ما يؤدي إلى تقليل الضرر، ومثال ذلك الصلاة بغير ملابس، فرغم كون الفعل شنيعا ومحرما إلا أنه يرجح على ترك الصلاة.

وينطبق هذا المبدأ على كم هائل من الأخطار البيئية التي قذفتها علينا حضارة الاستهلاك التي تستنزف عناصر الكون وتتلفها بدلا من استعمالها استعمالا مرشدا. ومثال ذلك فإن استعمال المبيدات الكيماوية في الزراعة واستغلال المفاعلات الذرية لأغراض التدفئة كليهما يحقق مصلحة، إلا أن مصلحتهما يتلازم معها ضرر بالغ يفوق مصلحتهما الآنية. وقد ثبت علميا وطبيا حقيقة الأخطار الناجمة عنهما، كالتسمم والتشوهات الوراثية ناهيك عن الأمراض المختلفة كالسرطان. ومنعهما أولى من الإبقاء عليهما.

وتتلخص نظرية الإسلام حول وجود الإنسان على الأرض في كيفية تنظيم هذا الوجود على الأرض؛ فهناك علاقة واضحة بين المصطلح القرآني للحفاظ على أسباب الحياة، وأسلوب الحياة ذاتها: «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين» (القصص: 77).

ويهدف الاقتصاد البيئي الإسلامي إلى تحقيق التوازن ما بين الروح والجسد والإنفاق والتقتير والغنى والفقر والموت والحياة. وظاهرة الموت والحياة في تجربة الإنسان على الأرض ما هي إلا اختبار لسلوكيات الإنسان أثناء وجوده على هذا الكوكب الذي جعله الله ذلولا له، يشبه الناقة التي يطعمها فتطعمه. ولا شك أن ابتلاء الإنسان في الأرض يمتحن نوعية صبره على الابتلاء. ومفهوم النوعية يمثل نقطة الارتكاز التي ينطلق منها الاقتصاد الإسلامي حيث إن ما ينفع الناس هو الذي يمكث ويدوم، أما ما يبدو منتفخا رابيا كالزبد فهو إلى زوال.

«أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال» (الرعد: 17). وهذا المفهوم هو لب ما يدعو إليه أنصار البيئة ودعاة «الايكولوجيا» العميقة.

أما الاقتصاد الإسلامي، فما هو إلا وسيلة نقل يستعملها الإنسان لتنظيم حياته التي تحكمها أخلاق الإسلام وسنن الخير، مثل مبدأ التوازن الذي هو من أهم مبادئ الاقتصاد الإسلامي البيئي. إنه توازن بين الإنفاق والتوفير والاستغلال والاستعمال والمسؤولية والاغتصاب. ويظهر هذا خاصة في التعامل مع عناصر البيئة التي لا يمتلكها إلا الله، ألا وهي الماء والهواء والتراب والأرض والمخلوقات الأخرى التي تشارك الإنسان مواطنته على قرية الأرض.

والقرآن حين يتحدث عن كنوز الذهب والفضة وعقوبة من يجمعها، يمكن أن يفهم بأنه إشارة إلى أهمية استغلال كنوز الأرض بشكل مرشد ينتفع منه بخلاف ما اعتاده الناس. إنها دعوة إلى فهم الأهداف الحقيقية من ثروات الأرض واستخدامها بما يتناسب مع حاجات الناس والمخلوقات التي تشترك معها في الحياة على قريتنا الصغيرة.. قرية الأرض البسيطة. ولا شك أن الاقتصاد الإسلامي يشابه الاقتصاد العام في مبادئه العملية لأنه هو الآخر تحكمه مبادئ الحياة العامة، كالعرض والطلب والوفرة والندرة، لكنه تحكمه الأخلاق القرآنية التي تجسدها السنة ونصوص الشريعة الحضارية. وبناء عليه فإن إشكالية الحوار حول استغلال المصادر الطبيعية ومفردات البيئة إزاء مصلحة الإنسان (اليوم وفي الغد) يمكن حلها في الإسلام من منطلق أن كل هذه المصادر هي ملك لله، لا يجوز لأحد أن يستنزفها ويمنع الآخرين عن خيرها حاضرا ومستقبلا. وهذا يقودنا إلى موضوع من أدق المواضيع عند علماء البيئة اليوم، وهو العدل بين الأجيال. إذ لا يجوز لجيل من الأجيال أن يستغل كل ثروات الأرض ويمنع غيره من الأجيال المستقبلية منها. ولعل هذا معنى آخر يمكن فهمه من قوله تعالى «هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم» (البقرة: 29)، فهو نص عام مطلق لا يشمل جيلا دون جيل، كما أنه لا يشمل أمة دون أخرى.

ويتساءل جيليس، وهو أحد علماء اقتصاد البيئة: كيف يمكن لصناع القرار أن يوازنوا بين حاجات أجيال اليوم وأجيال المستقبل عندما يتعلق الأمر بالمصادر غير المتجددة؟ وكيف يمكن لنا أن نعرف مصالح تلك الأجيال المستقبلية ونميزها؟ ويضيف جيليس أنه لا يمكن لنظام أخلاقي أن يكون عادلا إذا ما أسس حقوق الأجيال على أساس تطورها العلمي، الذي يمكنها من استغلال خيرات البيئة وحدها دون إبقاء شيء منها لأجيال المستقبل. وللأسف فإن أكثر بلاد العالم تعاني من هذه المشكلة التي لا تشمل مصادر الطاقة فقط بل تتعداها إلى مصادر الحياة الأخرى، كالهواء والغابات الاستوائية والمياه عموما والمياه الجوفية العميقة بشكل خاص. وعلى الرغم من أن النظرية الإسلامية حول البيئة وحمايتها لا تترك شكا في أن الإسلام يحمي البيئة وكل عناصرها وأجيالها، فإن الكثير من العالم الإسلامي اليوم يعاني من مشكلة حضارية بيئية يمكن عزوها إلى الانتقال المفاجئ من حضارة الغابات والريف والصحراء إلى حضارة الصناعة، مع انعدام منهج قيمي يجمع بين مبادئ الإسلام ووسيلة استغلال الصناعة والتكنولوجيا ومعطياتها. والأخذ من الحضارة الأوروبية الجديدة لا يقدم حلا لأنها هي ذاتها تعاني من شبح الدمار الاقتصادي والبيئي، بسبب سيرها وراء منهج العرض والطلب الاقتصادي الذي لا يحده حد، والذي جاء مع المنهج الاقتصادي المادي الذي يهدف إلى إشباع حاجات المستهلك قبل كل شيء. وهذا هو الذي يحذر منه حماة البيئة ويرونه خطرا محدقا بالبيئة ومستقبلها. وهناك حاجة اليوم في المجتمعات المسلمة إلى تنقية القيم الصناعية من شوائبها الأنانية، وعرضها على القيم الإسلامية التي تقوم على العدل والإيثار، وأن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع، بالإضافة إلى احترام البيئة وعناصرها من خلال التخطيط السليم القائم على مبدأ الحفاظ على العناصر البيئية لا تدميرها. ويتم ذلك عن طريق معاني التوازن والعطاء التي يأمر بها الله تعالى. وهنا يجب أن لا ننسى أن أول دراسة إسلامية بيئية جادة كانت قد صدرت عام 1983 من مصلحة الأرصاد وحماية البيئة بالتعاون مع أربعة من أساتذة الدراسات الإسلامية في جامعة الملك عبد العزيز في المملكة العربية السعودية، وهي تعتبر حتى اليوم معلما عالميا مهما في فهم حماية الإسلام للبيئة.

* أستاذ الدراسات الإسلامية جامعة ويلز - لامبتر