الإسلام المعاصر: نظرات في الحاضر والمستقبل

رضوان السيد

TT

عنوان «الإسلام المعاصر» هو عنوان كتاب لي صدر عام 1987. وهو يتكون من مجموعة مقالات كتبت بين عامي 1985 و1987 ونشرت في صحف ذلك الزمان. ويمكن تلخيص الكتاب بأنه من الناحية الشكلية مقسوم إلى ثلاثة أقسام: مشكلات الفكر، ومشكلات العمل والسياسات، ومراجعات كتب عن الإسلام الحديث والمعاصر. أما من الناحية المضمونية فهو يتضمن توصيفا حادا للتأزم الحاصل على ثلاثة مستويات: بداخل الإسلام بين التقليديين والإحيائيين، وبين الإسلام والدولة، ثم بين الإسلام والخارج العالمي. وقد عنيت بالصراع بداخل الإسلام: التجاذب بين مؤسسات التعليم والفتوى من جهة، والأحزاب الإسلامية الصاعدة (والتي عرفت بتيارات الصحوة) من جهة ثانية. والتجاذب هذا ذو أشكال أهمها النعي من جانب الحزبيين على أهل المؤسسات أنهم يهملون العناية بالمشكلات المعاصرة، وأنهم يجاملون الحكام، في حين يحمل التقليديون على الإسلاميين الجدد بسبب استخدامهم للعنف بالداخل السياسي والاجتماعي. أما التجاذب بين الإسلام والدولة فمؤداه تلك الخصومة الناشبة والمتفاقمة بين الإسلاميين الحزبيين من جهة، والأنظمة من جهة ثانية. وهي خصومة وصلت إلى حدود الصراع المسلح في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وقتل خلاله الرئيس السادات، ومئات آخرون من الطرفين، ودخل السجون عشرات الألوف بعد مذابح واغتيالات بمصر وسوريا والجزائر وليبيا والسودان..الخ. والمفهوم أن الصراع المذكور إنما كان سببه: انسداد الأجواء السياسية، أو غياب المجال السياسي، بحيث ما عادت هناك علاقة غير العنف المسلح إذا كان ذلك معتبرا علاقة أو صلة! وكان الإسلاميون يقولون إنهم إنما يريدون ضرب الانحراف، وإحلال حكم الله في الأرض. وكان الحكام الجمهوريون والجماهيريون يقولون إنهم إنما يقاتلون التطرف والعنف، ويحافظون على الحضارة والاستقرار. وعالجت التأزم بين الثقافتين الإسلامية والغربية من خلال بحوث الاستشراق السلبية والإيجابية. وكانت الأجواء الثقافية لا تزال تعيش تحت وطأة كتاب إدوارد سعيد المعروف باسم الاستشراق، والذي شكل وقتها إدانة وكشف حساب كبيرا لصورة الإسلام في الثقافة الغربية في القرون الثلاثة الأخيرة؛ وبخاصة خلال القرن العشرين.

إنني أذكر هذا كله لأن إحدى دور النشر أعادت طبع كتاب «الإسلام المعاصر» قبل شهرين. وقد قارنته بالكتابين الآخرين: «سياسيات الإسلام المعاصر» (1997)، و«الصراع على الإسلام» (2004). وقد تبين لي أنني ركزت في «السياسيات» على الظاهرة الإسلامية أو الإسلام الإحيائي أو الصحوي. ففي التسعينات من القرن الماضي، وبعد حربي أفغانستان والعراق، استتب الإسلام الصحوي أو الحزبي بوصفه حركة المعارضة الرئيسية في سائر بلدان العالم العربي. أما نمطه الفكري فهو نمط ثقافة الهوية المتشددة، والتي تؤكد على مواجهة الانحراف التغريبي والاستبدادي في الثقافة كما في السياسة. وهي تهتم بالمواجهة والهدم كما سبق القول، أكثر مما تهتم للبدائل التي يمكن أو يجب بناؤها بعد إزالة الانحراف. وقد وجدت بعد هذا التوصيف في الكتابين، أن ذلك ما عاد كافيا، فانصرفت إلى دراسة الظاهرة الدينية وثورانها في العقود الأخيرة، وبخاصة في البروتستانتية والإسلام واليهودية. ووجدت أن الأمر يحتاج لعودة إلى فلسفة الدين وتاريخه، وإلى سوسيولوجيا الديانات في الشرق والغرب. وفي هذا الصدد اهتممت بكل من ماكس فيبر وإرنست غلنر. والعلاقة بين أطروحتي الرجلين مفادها أن التشدد أو الطهورية قد يكونان تعبيرا عن التأزم، ومخرجا منه في الوقت نفسه. فأما ماكس فيبر فقد رأى أن «أخلاق العمل» في الكالفينية (وهي نزعة بروتستانتية متشددة) كانت وراء ظهور أو ازدهار الرأسمالية العقلانية المنضبطة. وأما إرنست غلنر فقد ذهب إلى أن الطهورية السلفية المتصاعدة في أوساط المسلمين تذكر بتأزمات في مراحل تاريخية سابقة. وهي تعني من خلال العودة للنص، عودة للانضباط والاسترشاد الأخلاقي، الجامع للنزعتين: الحرفية والتجريبية في الوقت نفسه؛ وقد تكون لها آثار مغيرة في الأخلاق والمجتمع. وما وافقه كليفورد غيرتز وجيلسنان على وجهة النظر هذه، لأنهما لاحظا أنه لا علاقة للطهورية التعبدية والتكفيرية بأخلاق العمل، ولا بنهج جديد لقيادة المجتمع والدولة - وإنما قد يكون الأمر رفضا متقوقعا للظواهر الجديدة في الحداثة والعولمة. وقد لفتت انتباهي وقتها بحوث طلال أسد الجديدة، والتي تنقذ مقولات وبراديغمات الإنثروبولوجيين الجدد فيما يتعلق بالصحويات الراديكالية، بالتوتر تجاه الغرب، وبالعودة إلى أصوليات شديدة الشراسة والغرابة.

بيد أن ذلك الهدوء التأملي الذي صاحبني في «سياسيات الإسلام المعاصر» (1997)، وإلى حد ما قبل ذلك في: «الإسلام المعاصر» (1987)، غادرني تماما في «الصراع على الإسلام» (2004). فقد كانت السلفية الجهادية قد أغارت على الولايات المتحدة (2001)، كما كان الأميركيون قد غزوا أفغانستان والعراق، ونشبت الحرب العالمية على الإرهاب! ولذلك عدت مخطئا أو مصيبا إلى المثلث التدميري: الصراع بداخل الإسلام، والصراع بين الإسلاميين والأنظمة في العالمين العربي والإسلامي، والصراع بين الإسلاميين والعالم. فالصراع بداخل الإسلام أفضى إلى انقسام في المرجعية، أعني مرجعية التعليم والفتوى. وما عاد الأزهر هو المدرسة الوحيدة، ولا فتاواه هي الفتاوى الوحيدة في الإسلام السني. وصحيح أن الشيخ يوسف القرضاوي وتلامذته الآخرين، هم أزهريون في الأصل - لكنهم خرجوا على الأزهر وترتيباته مع الدولة والنظام في أعمالهم الفقهية والنضالية. وقد انتموا جميعا في فترة من حياتهم إلى الإخوان المسلمين. ومن جهة أخرى فقد تفاقمت المشكلات في المؤسسات الدينية، بعد أن استتبعتها السلطات أو أضعفتها أشد الإضعاف. وصحيح أن الصدامات بين الأنظمة والإسلاميين العنيفين وغير العنيفين استمرت في سائر الأنحاء مع ازدياد الانسداد في الأنظمة - لكن في عمليات «الصراع على الإسلام» تقدم الصراع بين الإسلاميين والقوى العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة على كل اعتبار آخر. وهكذا يجد الإسلام نفسه عبر الإسلاميين الذين يحملون راياته، حاضرا على كل الجبهات ويتعرض لضغوط يصعب احتمالها وتبرر ردود الفعل العنيفة التي تحدث في العديد من الأنحاء. وقد رأيت أن هذا الانفجار المفتوح على احتمالات كبيرة للتدمير والدمار، قد امتد وبقوة إلى الجوانب الدينية والثقافية فأثارها أو فلنقل إنه أفسدها، بحيث شاع تعبير «صراع الحضارات»، والخطر الأخضر والاستثناء الإسلامي والآخر العربي. ورأيت أخيرا أن هذه الضغوط العسكرية والثقافية والدينية، وصلت إلى الحدود التي تتحول فيها الصراعات إلى صراعات دينية وثقافية مدمرة على أجيال وأجيال! لقد تابعت إذن الظاهرة الإسلامية عبر خمسة وعشرين عاما، في ثلاثة كتب. وأجد أن بعض ما كتبته عام 1986، لا يزال صالحا للقراءة وإن كنت لا أعتقد صلاحه للفهم والتحليل. وقد كنت أعتقد أن الإسلام الإحيائي قوي، وقوي في أوساط الجمهور وسط ضغوط الأجانب والأنظمة معا. لكنني ما كنت أرى أننا استثناء بوصفنا عربا أو مسلمين. ومع ذلك، أي مع اعتقادي بوجود إسلام قوي جدا في مجتمعاتنا، فقد كنت أرى أن الاحتمال الراجح هو استمرار الانفجارات باسم الإسلام ضد الأنظمة وضد العالم الخارجي. وما توقعت هذا الظهور الصاعق للشبان المدنيين بمئات الألوف في شوارع المدن والبلدات العربية. وهكذا ظهر التناقض الفظيع البادي الآن: قوى مدنية شابة صنعت براديغما جديدا ومعاصرا شعاراته: الحرية والكرامة والحكم المدني والديمقراطية - وجمهور كاسح للحركات الحزبية الإسلامية، حتى تلك التي ما عرف عنها تسيّس أو اهتمام بالانتخابات من قبل. والتناقض واضح كما قلت، وإنما هناك جامعان: إصرار الجميع على التحول السلمي، ولجوء الجميع إلى صناديق الاقتراع. فهل يتطور هذا التواصل غير المباشر إلى تواصل مباشر يدعم الاستقرار والتحول الديمقراطي، ويخرج الدين من عمليات الصراع على السلطة؟! أم تستطيع القوى القديمة، والإثنيات والمذهبيات الاستمرار في التأكيد على العصبيات الخاصة والمحلية والخصوصية، بحيث تطول عمليات التطوير الفكري والثقافي والسياسي، ويزداد المخاض طولا وعسرا وترددا؟!